2012/07/04

السينما.. والبحث عن الانسان
السينما.. والبحث عن الانسان

آلجي حسين - تشرين

تعددت المذاهب السينمائية تعدد النصوص والقضايا الاجتماعية والرؤى الإخراجية، فمن المذهب الكلاسيكي إلى الرومانسي فالوجودي وغيرها من

المدارس التي ينتمي إليها كل مخرج أو كاتب أو ممثل على حدة

تنظر السينما إلى الإنسان كجزء من المنظومة الحياتية وربما هو بنظر البعض سلعة تجارية تباع وتشترى حسب الطلب، أو كتلة من المشاعر والأحاسيس

التي لا تنفصل عن كيانه وتربيته التي مر بها في سنوات عمره الأولى. ‏

السينما ترى في القضايا الجوهرية النفسية للإنسان نواة لمجمل الأعمال، وقد تنطلق من دراسة الأسباب إلى النتائج أو تحكم على النتائج دون النظر إلى

الأسباب، ويكمن الخلل الفني والدرامي في الأعمال التي لا تعير انتباهاً للقضايا الإنسانية، ليمسي مجرد عمل لا معنى له تدور أحداثه حول فلك

الشخصية المحورية، وهذا الكلام ليس من باب التأويل أو السفسطة وإنما من كثرة الأفلام التي تتحفنا بها دور السينما يوماً إثر يوم. ‏

ألهذا المستوى وصل منتجو السينما إلى تسليع الإنسان في المشاهد الخارقة ؟ ألم يحن الوقت بعد ليعبروا عن الإنسان ككائن مسالم هادئ يحب

الآخرين وينبذ العنف وقتال الشوارع ؟ ‏

انطلاقاً من أن الوقوع في فخ التعميم خطأ جسيم، فهناك قلة قليلة من أفلام عالمية ناقشت وضع الإنسان كفرد ضمن مجتمع وربما كفرد بحد ذاته يمتلك

كامل حريته الشخصية لكن دون أن يؤذي الآخرين، أو ينتهك حرماتهم، وقلة هي الأفلام التي وضعت الإنسان في مساره الصحيح، وغاصت بشكل عميق

في كينونته البشرية بوصفه آدمياً ذا عواطف وضمير وليس حيواناً يمتلك غرائز وحسب. ‏

بالعودة إلى تاريخ السينما الخالدة المتمثل في تلك الأفلام الراقية، نلاحظ سيطرة القضايا الإنسانية على مجمل مدة عرضها، فكم من أعمال لامست فينا

أرق تفاصيل الحياة المتخمة بالمشاكل وجعلتنا نشعر بإنسانيتنا، ونحن خارجون من دار العرض، وكأن ثورة داخلية بدأت تلتهب في أحشائنا من شدة قوتها،

دون نسيان العوامل السياسية والتاريخية والثقافية التي كانت تؤجج بشكل أو بآخر هذا الصراع المعمول ضمن سيرورة المجتمع للوصول إلى حالة واحدة

متمثلة في النظرة الواحدة للإنسان ككائن له حق الحياة. ‏

والآن، يحق لنا أن نتساءل عن العناصر التي تجتمع معاً في صناعة الفيلم السينمائي الناجح في رؤيته إلى الإنسان كإنسان ؟ ‏

لاشك أن هذه العناصر لا يكتمل دور أحدها إلا استناداً إلى الآخر وهكذا، ولنبدأ بعنصر السيناريو الذي يكتبه المؤلف انطلاقاً من اعتبارات قد يراها أساسية،

ويكون السيناريو قريباً أكثر من الإنسان نفسه عندما يحمل حساً إنسانياً لأن المؤلف إنسان أولاً وأخيراً يلتقط أشد التفاصيل المحورية ويجسدها في ورقته

البيضاء، وباختلاف القضايا التي تعاصر الإنسان يجد المؤلف نفسه مضطراً إلى المعايشة بشكل مباشر أو غير مباشر. ‏

السيناريست يمتلك ويلبس قناع وشخصية الصحفي بين الفينة والأخرى ليكون أكثر مصداقية وجرأة في تحليله الدقيق ليوميات الإنسان والبحث عن أدق

الأشياء، وتختلف طبيعة كل عمل عن غيره، فهناك التراجيدي والبوليسي والكوميدي والعاطفي. ‏

أما فيما يتعلق بالإخراج، فالكاميرا التي يحركها المخرج كفيلة بإضفاء بعد إنساني على الفيلم من خلال مسحة إنسانية قادرة على التحرك ضمن التوجه

الذي يرمي إليه المخرج، إنه القادر على تحويل مجمل الأنظار إلى هيبة وروعة الفيلم ضمن السياق الذي يكون أكثر إنسانية. ‏

بالإضافة إلى هذين العنصرين المهمين يجب ألا ننسى الممثل الإنسان بالدرجة الأولى الذي يمثل كل هذه الأدوار ببراعة مشهودة له ضمن الكادر الفني

ككل، فضلاً عن عناصر فنية أخرى لها الدور الفاعل، مثل الموسيقا التي يقول عنها توليستوي (على الإنسان أن يكون رحيماً لأن الرحمة تجمع بين البشر وأن

يكون أديباً لأن الأدب يوحد القلوب المتنافرة وأن يتمرس بالفن والموسيقا لأنها تنفذ القلوب من جراثيم الطمع والأنانية). فالموسيقا التصويرية تؤرخ للفيلم كوثيقة حية تعطيه إحساساً بالحياة مثل الفيلم الموسيقي (الأسطورة 1900 -the legonnd of 1900) و(التايتانيك titanic). ‏

ورغم أن إنتاج الأفلام الإنسانية يعتبر قليلاً مقارنة مع الأفلام الأخرى كما يقول البعض إلا أننا ومنذ زمن ليس بقصير لم نشهد فيلماً إنسانياً يرقى بكل المستويات إذا استثنينا أفلاماً عديدة مثل (البلد الجميل the beautiful country -

موت السيد لازاريسكو – مذكرات دراجة نارية.... الذي يجسد حياة البطل الثوري أرنستو تشي غيفارا وهو يسوق دراجته النارية مع أحد أصدقائه في سنوات عمره الأولى قبل أن يدخل المعترك السياسي – ميونيخ munich...الذي يتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي- الماسة الدموية the blood diamond)

وغيرها، ورغم وجود محاولات شبابية عدة ولكنها بكل الأحوال تأخذ شكل الحياة والظروف التي تمر وتحيط بها من جري يومي للبحث عن لقمة العيش وما

يكابده الإنسان من هموم سياسية واقتصادية واجتماعية تنعكس بشكل أو بآخر على ما يقدم وما يحتاجه شباك التذاكر والجمهور الذي يهرب إلى الضحك

أكثر من العيش في أوهام الرومانسية والإنسانية وهو بالطبع عكس الجمهور الغربي نتيجة للفوارق الثقافية والاجتماعية الهائلة من حيث مستوى الدخل المعيشي. ‏

في استمارة ميدانية قمت بتوزيعها على (75) شاباً وشابة حول الرسائل التي يمكن استخلاصها من الأفلام الإنسانية كانت الإجابات مختلفة مثل

(الإنسانية طابع غالب، مقدسة، واقع، لا تموت، مازالت موجودة، حية غير متناهية، أساس كل شيء، حق، لحظة عابرة، فطرية، هدف، عطاء للناس أجمعين، قمة الحضارة، شيء ثمين وضروري...). ‏

الأفلام الإنسانية تبدو أكثر جمالية في تطرقها العميق لما يواجه الإنسان من آلام وظلم، ولعل الأفلام التي تتطرق إلى مواضيع التمييز العنصري هي الأكثر رواجاً هذه الأيام في الولايات المتحدة الأمريكية مثل فيلم (American history x)،

ويزداد الاتصال والترابط بين الأفلام السياسية والإنسانية في أبهى صورة لها من خلال العلاقات مابين الإنسان المتهور أو المعتقد بما لا يعتقده الآخرون من

أفكار وآراء سياسية لتنتهي به في السجن وليأتي دور السينما بعد ذلك، ففي (النقطة صفر - للمخرج هونر سليم) يصور العمل حالات معقدة لأناس تعرضوا للظلم، هذا الفيلم فاز في مهرجان كان السينمائي الدولي بالسعفة الفضية، وكذلك فيلم (سيريانا) وفيلم (الجنة الآن paradise now) وغيرها. ‏

لم يعد هناك شيء مختبئ في السينما، فحتى الأحداث التي لم يكن يعرف أسرارها إلا الزعماء السياسيون، صارت تُروّج الآن وبكل حرية ضمن الأفلام

الوثائقية والروائية ضمن قالب إنساني طريف ومؤثر للغاية، للوصول إلى حقيقة أن الأفلام الإنسانية هي الأقدر على التأثير من مثيلاتها، فهي التي تبقى

خالدة خلود الدهر وتسمر بالروح الإنسانية إلى درجة الكمال الإيماني وتلقي في نفسه شعلة مضيئة من الحب والحنان والإحساس بالآخرين، فها هو

«موريس رفيق جرجي» يقول في كتابه (مملكة الفن السابع) عن الأفلام الإنسانية: «كل شيء يتفسخ ويتداعى في الزمان، فالمال المرتد من الأنانية بقي

كظاهرة أساسية صغيرة بلغت من العمر أرذله، ما من مشهد أشد قبحاً من مشهد بائس لا يخضع إلا للظلم، أين تبدأ المحبة ؟ هل في أوصالنا الباردة

المترامية على كاهل المارد المزروع في عدالتنا القاسية ؟ أم في احتقارنا لنبل أغنياء الروح ؟». ‏