2012/07/04

الصورة ودراما الحرب النفسية الإعلام المرئي السوري وخيارات التحدي
الصورة ودراما الحرب النفسية الإعلام المرئي السوري وخيارات التحدي

عبد الكريم العبيدي - البعث

في عام 1896 ألف عالم النفس الشهير برغسون كتاباً أسماه “ المادة والذاكرة” عن الأزمة التي اجتاحت علم النفس، والذي أكد ضرورة تغيّر وجهات النظر حول الصورة - الحركة، الصورة – الزمن، وتتلخص فكرته بأنه “لاينبغي التيقّن من الصورة كحقيقة نفسية ثابتة”.. وبالتالي يمكن القول إنها قد تصبح “ أي الصورة “ في لحظة من اللحظات إعادة لإنتاج الوهم أو تصحيحاً له ! كما يمكن أن تكون في لحظة أخرى تشابكاً غرضياً بين صناعة الوسائل وصناعة النتيجة. وطبعاً فإن آراء هذا العالم سبقت اختراع الصورة المتحركة” السينما “ وهو ما أعطى تلك التصورات صدقية الحضور حتى يومنا هذا.

كنت قد نسيت، بسبب زحمة العمل الإعلامي اليومي ومتطلباته التي تشبه المحرقة، العودة إلى بعض القراءات القديمة، لكن الحرب الإعلامية التي قادتها فضائيات بعينها ضد سورية مؤخراً أيقظت في ذهني العديد من الوقائع والتساؤلات عن دور الصورة وفعالية فضائياتنا الإعلامية في مواجهة وسائل الإعلام المغرضة، التي تصنع الوهم وتعيد إنتاجه يومياً ليشعل حرباً بالإنابة. وهو ما لم تستطع الوصول إليه بعض نتائج الحروب الساخنة والباردة منذ بدء الصراع العربي الصهيوني حتى يومنا هذا.يعد الإعلام الوطني الفضائي السوري هذه الأيام تحديداً، واحداً من أهم وسائل وأد الفتنة التي حاول أعداء سورية إيقاظها، واعتبرتها الجماهير العريضة معادلاً نفسياً موضوعياً لحجم الأكاذيب والمغالطات والدس الذي تتعرض له البلاد، وللمرة الأولى في تاريخ نشأة وسائل الإعلام هذه، يتفق المواطن والمسؤول معاً على تلك الأهمية الاستثنائية التي دفعت المواطنين إلى الحصول على الخبر العاجل المصوّر الحقيقي للمرة الأولى من الفضائية السورية والإخبارية وشام FM وقناة الدنيا وسورية بلدنا ويجد فيها صوته وما يطمئن إليه.

قبل هذه المحنة بدا الإعلام الفضائي الوطني نسخة فوتو كوبي عن الإعلام العربي، وتحديداً العربية والجزيرة، في نقل وأخذ الصورة عن الآخر وتقليده في الرؤية والتحليل، وهو ما دفع جمهوراً كبيراً من المواطنين في تلك المرحلة إلى نهل المعلومة «الملغومة والمفبركة!» من مصادرها مادام إعلامنا بلا وجهة نظر تميّزه، وما كان يؤسف له حقاً، بقاء هذا الإعلام الوطني طوال الأسبوع الأول من بدء الحدث ومنتصف الأسبوع الثاني يترنح تحت وطأة الظرف الطارئ الذي كان يفترض أن يكون متأهباً له، خاصة أنه الأقرب في رصد الحدث والقراءة السياسية التي ميّزت السياسة السورية تجاه ما حدث ويحدث في ليبيا! وقرارات الجامعة العربية، و بدت بعض برامجنا الحوارية والتغطية المباشرة في تلك المرحلة لاقيمة لها.. فلا كانت مواكبة للحدث، ولا هي قادرة على رصد المعلومة من محاور ذكي، لابل إن محاورينا المحليين صاروا في غيبوبة ويُنْظَر إليهم كأنهم مرّيخيّون!.

في الحقيقة لم ينقذ شاشتنا المغرقة في تنظيراتها وقتها، والتي عفا عليها الزمن خلال العشرة أيام الأولى سوى وصول أصدقائنا اللبنانيين الذين كشفوا كمّاً هائلاً من حجم المؤامرة، وأبعاد ما تتعرض له سورية من مخططات جهنمية، جعلتنا نشعر بالفارق الكبير بيننا وبينهم في القدرة على جمع المعلومة والوصول إليها وكشف مستورِ ما أُعِدَّ بعناية ولسنوات!.

تجربة الأيام الصعبة التي يعيشها المواطن هذه الأيام وحّدت موقفاً عظيماً تجاه الإعلام الوطني، وهو ضرورة الارتقاء به إلى مستوى العالمية لكي يكون مؤثراً.. ولكي يكون مؤثراً، عليه إعادة قراءة التجربة العربية القريبة والبعيدة، ومنها تجربتنا المحلية وكيف كان الإعلام هو رأس الحربة في كل ما يجري اليوم، وفي الحرب التي يصطلي بنارها المواطن السوري ...ولقربي من الحالة العراقية أذكّر! كم كنت أتساءل لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق عن مغزى أن يترك سيد البيت الأبيض اجتماعاً للأمن القومي الأمريكي ليحضر أمام التلفزيون مؤتمراً صحفياً لوزير الإعلام العراقي آنذاك محمد سعيد الصحّاف الشهير ب” أبو العلوج “ الذي عقد في موقع لايتجاوز بعده مسافة 300م جوي عن موقع صورة تناقلتها جميع الفضائيات العالمية حيث تقف دبابة براهامز أمريكية في منتصف جسر الجمهورية وسط بغداد يوم 9/4 ، وليبعث الشك بقلب الرجل الأول في العالم في تقارير قيادته العسكرية آنذاك...كما تساءلت عما يمكن أن يفعله مراسل أو خبر أو شاهد عيان بحجم وضاح خنفر ليثير رجلاً بحجم الصحّاف ويعلن أنه لو ألقي القبض عليه لأعدمه في وسط ساحات بغداد!.

المثل أعلاه لم ينجم عن عبقرية إعلامية مخطط لها، بل كانت عبقرية فرد، بات في لحظة إعلامياً بلا مؤسسة إعلامية، وكان عليه القتال بالصورة ضد العدو حتى اللحظة الأخيرة، وكان الأخير أيضاً بين القيادة العراقية آنذاك الذي ترك مسؤوليته وبقي حتى هذه اللحظة يحظى باحترام العدو قبل الصديق، وقد قال التاريخ كلمته بحقه! أما ما فعله وضّاح خنفر مراسل الجزيرة واستحق عليه غضب الصحّاف فإنه كان قد بث تقريراً كاذباً مفبركاً إلى قناته أوضح فيها أن القوات العراقية قد انسحبت من خنادقها في مواجهة الميليشيات الكردية العراقية، وأظهر في تقريره صوراً لخنادق أرضية خالية متروكة منذ حرب 1975 في شمال العراق.. ليصدّق العالم كذبة الإعلامي المخادع!.

أصدقاؤنا وإخواننا في حزب الله كانوا قد أدركوا وأتقنوا لعبة الإعلام والصورة والحرب النفسية مبكراً، وأبدعوا أيما إبداع فيها، وكانت إحدى أهم علامات النصر المؤزر لهم في حرب تحرير الجنوب عام 2000، وفي حرب تموز الأخيرة، من خلال مؤسسة إعلامية صغيرة بالقياس إلى إمكانيات الدول، وهي مؤسسة المنار الفضائية التي كانت أول المستهدفين في قصف الضاحية الجنوبية ...إن العالم لن ينسى تلك اللحظة التي خرج فيها سيد المقاومة السيد حسن نصر الله في خطابه المتلفز أول أيام حرب تموز وهو يعلن للعالم “ انظروا الآن إلى البحر تشاهدون بارجتهم الحربية وهي تحترق “... أو تلك العمليات الذكية في قنص الصور التي تلتقطها طائرات العدو دون طيار قبل وصولها إلى المصدر الرئيسي والتي حصدت نتائج مذهلة، منها عملية أنصارية التي أصابت العدو في مقتل!! وهو ما جعل كبار رجالات العدو الصهيوني يعترفون وللمرة الأولى بهشاشة المجتمع الصهيوني، الذي صار وللمرة الأولى يبحث عن صدقية الخبر خارج الإعلام الإسرائيلي، الذي كان يعدّ مقدساً وكانت قناة المنار إحدى تلك الوسائل .

لقد عبرت القيادة السياسية عن مواقف جريئة وقراءة مغايرة فيما عصف بالعديد من الأنظمة العربية ، وبدا من تلك الرؤية البعيدة المدى أن الولايات المتحدة الأمريكية تستغل الحراك الشعبي المشروع لركوب موجة المطالبات الجماهيرية العربية وتوجيهها بعكس وجهتها، مستغلة مايسمى معارضات الخارج للوصول إلى قلب الشارع العربي، وبالتالي إعادة رسم خارطة المنطقة بيد أبنائها كما يبدو للوهلة الأولى . ولأن سورية كانت عصية دوماً على المتآمرين ..ظل إعلامنا المرئي الرسمي كعادته مسترخياً ومردداً نفس عبارات جميع وسائل الإعلام الأخرى ،ولم يتنبه لدور وسائل الإعلام المأجورة سلفاً التي كانت تغذّي نار التحركات بوسائل منها إفراد ساعات بث 24/24 لصورة ثابتة على تظاهرة سلمية تعتصم في ساحة واحدة في مدينة تعد الأشهر بين مدن العالم بتعدد الميادين فيها . فيما تقوم محطات أخرى بتنظيم لقاءات مع المعتصمين ، وتقوم ثالثة باستضافة معارضي الشتات الذين وجدناهم بعد أيام ليس أكثر وبدعم أمريكي، في وسط الساحة يدلون بتصريحات ميدانية ويركبون موجة المتظاهرين ويؤسسون التكتلات السياسية ويتقاتلون على مناصب سيغنمونها !.. هذه الوسائل هي نفسها التي ساهمت في مشروع «طوءفة» العراق بعد الاحتلال الأمريكي، واستمرار المشهد المتأزم في لبنان، وتقسيم السودان، وربما تقسيم ليبيا واليمن في المدى المنظور لاسمح الله! فيما لم تبد أية تغطية استثنائية لما جرى في عمان والبحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، وهو ما أظهر تبادلاً في لعبة أدوار القنوات الفضائية، لتكون شريكاً مالياً بامتياز في غنائم الأوطان المستباحة في المستقبل.

كان التحول المفاجئ قد حدث لصالح الفضائيات الوطنية بعد خطاب السيد الرئيس، حيث ازداد حجم الضخ الفضائي للخبر المفبرك بالصورة وشهود الزور، وكأنها قد أصبحت في سباق محموم لوأد المسيرة الإصلاحية، وهو ما كشف أبعاد اللعبة السياسية للمواطن البسيط الذي صار أكثر قناعة بأن المطلوب هو سيادة وأمن الوطن والمواطن، وهو ما عدّه خطاً أحمر لايمكن السماح بتجاوزه.. وهنا لعبت الفضائيات الوطنية دوراً شفافاً لم يتوقعه كثيرون، صنعته ظروف موضوعية وذاتية أعادت الاعتبار والهيبة للإعلام الوطني، باعتباره حاجة نفسية وضرورة.. وقد دلّت بعض استطلاعات للرأي أجرته فضائيات محرّضة على الفتنة أثبتت انخفاض نسبة المشاهدة من المواطن السوري بنسبة فاقت الخمسين بالمئة لصالح القنوات الوطنية، وهو ما أكده أيضاً السيد ناصر قنديل في أحاديث فضائية متعددة.

ما يتعرض له الوطن اليوم هو نوع من دراما الحرب النفسية جعلت الفضائيات الوطنية أمام تحديات جديدة وفرصة أكبر للمحافظة على صدقية الصوت والصورة في مواجهة غيلان الإعلام، ولكي يستمر النجاح النسبي، كما عبر أحد المواطنين الذي وصف إعلامنا الوطني بالترياق الوحيد لسموم الفتنة، فلا بد من مواجهة محتومة ننتصر فيها بإذن الله.