2012/07/04

العندليب الذى سرق الأضواء حيًا وميتًا
العندليب الذى سرق الأضواء حيًا وميتًا


أمجد مصطفى - الشروق

«أم كلثوم هى سيدة الغناء على مر العصور، وهى الملكة المتوجة على العرش الغنائى، وعبدالوهاب هو موسيقار الأجيال واحد صناع حضارتنا الموسيقية. أسماء أخرى كثيرة كان ومازال لها تأثير كبير فى عالم الغناء، ورغم ذلك يظل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ هو الأكثر سطوعا، وتوهجا، وتأثيرا فى الناس. رغم أن المقارنة الفنية مع ثومة، وعبدالوهاب، وربما أسماء أخرى لم تكن يوما لصالحه. الشىء الغريب أن حليم لم يسرق الكاميرا من تلك الأسماء بعد رحيلها، بل إن حليم فى وجودها حقق تعاطفا جماهيريا، ونجاحا كبيرا، رغم العبقرية التى يتمتع بها كل منهم، لذلك كان علينا أن نطرح هذا السؤال بمناسبة ذكرى رحيله الـ33. لماذا سرق حليم الأضواء من كل الأسماء التى عملت بالغناء حيا وميتا.. وهل كان وجوده نقمة على الأجيال التى عاصرها، أو التى ظهرت بعده.. هل أصابت لعنته الجميع؟ ونحن لا نقصد بهذه الكلمة المعنى الذى يسىء لهذا الفنان الكبير، لكننا نقصد أن تجاوز حليم بات أمرا شديد الصعوبة والسؤال الأصعب طرحه هانى شاكر أثناء حوارى معه عندما قال «إن إعلام حليم تسبب فى تدمير جيله».

الموسيقار الكبير عمار الشريعى يرى أن جيل حليم مازال الكثير منه على قيد الحياة، وأنه واحد منهم. وقال عمار: حبيت، وزعلت، واتخنقت، وضحكت معاه. كان حليم البطل «بتاعنا»، وهذا سببه كمية العاطفة التى يمتلكها فى صوته، وعندما تسألنى ليه تعاطفت معه أقول لك إن الفارق العمرى بينه وبينى 18 عاما لذلك فهو أقرب لى. إلى جانب أن مشكلاته الصحية جعلتنا نشعر أنه مهدد بالموت فى أى لحظة كما أنه لا يستطيع أن يأكل ما يحب مثلنا، كل هذا أوجد جوا من التعاطف معه. وسوف أروى لك قصة حضرتها مع المخرج الراحل حسين كمال، ذهبنا للاستماع لصوت جديد ليكون بطلا لأحد أفلامه، وخلال الاستماع إليه رفضه على الفور مبررا ذلك بأنه وحش يغنى لا تستطيع أن تتعاطف معه. وقال: فين حليم ونظرته وضعفه. فين الإحساس.

أما على مستوى وجوده خلال عصر أم كلثوم وعبدالوهاب، وحتى الآن. فقال: الإعلام كان جزءا من شخصية حليم، وكانت تربطه مصالح كبيرة مع رجاله. إلى جانب أنهم أيضا كانوا من جماهيره. ولا أقصد مصالح بمعناها السيئ. وهذا ليس معناه أن الأستاذ عبدالوهاب أو السيدة أم كلثوم ليس لهما علاقة جيدة بالإعلام، لكن فى النهاية هذه الست وهذا الأستاذ عبدالوهاب كانوا الأساتذة، لكن حليم كان صاحبنا. مثلا جلال معوض كان يقول لعبدالوهاب يا أستاذ، ومع حليم كان الأمر عاديا يقول له ما يشاء. وهذا يعنى أن الحوار بين حليم والإعلاميين يدور فى إطار من الصداقة.

وأنهى عمار كلامه نعم لم يأت أحد يملأ فراغ حليم وفسر ذلك كما تشاء «لعنة» أو «نقمة» لكنه مازال المتحدث الرسمى باسم مشاعرنا. أعماله حتى الآن أجلس أمامها وأعيش أجمل لحظات حياتى، وأشم فيها رائحة الماضى.

تحدثنا مع الموسيقار الكبير حلمى بكر وطرحنا عليه نفس التساؤلات.. قال إن حليم استمد قوته من إحساسه بمعنى الكلمة، فهو كان يغنى المعنى بكل ما يحمله من إحساس. لذلك وصلت إلى مشاعرنا مباشرة. لذلك كل الذين جاءوا بعده أصبحوا فى حيرة. هل يتجهون للمدرسة الطربية أم التعبيرية، التى يقدمها حليم. نعم حليم لم يكن عبدالوهاب أو أم كلثوم أو حتى نجاة لا يملك حرفتهم لكنه يملك موهبة أخرى، وهى القدرة على التعبير.

هذا جانب أما الجانب الآخر فهو خاص بالإعلام. أم كلثوم وعبدالوهاب لم يسعيا إلى الإعلام رغم أن الإعلاميين كانوا يسعون إليهما

لكن حليم كان يسعى للكل. ويحرص على الوجود بينهما، وكون صداقات كبيرة مع الكبير والصغير، إذن فالجو الإعلامى كان هو صانعه. فكان له مندوبون فى الصحف، وكان دورهم إبراز أعماله سواء كان فيلما جديدا أو أغنية وهذه الأمور بسيطة لكنها خطيرة.. أما عبدالوهاب فكان حريصا أن تكون علاقته فى أضيق الحدود فكان يتصل مثلا برئيس الإذاعة ليقول له منذ فترة لم أسمع أغنية كذا.

أما عن الغيرة الفنية بين حليم، وأم كلثوم فقال: لم تكن هناك غيرة لكن إذا كان البعض ترجم الخلاف، الذى حث ليلة الاحتفال بالثورة عندما ظهر حليم متأخرا، وقال: «أنا أسف طالع فى وقت متأخر مش عارف إن كان مقلبا شربته ولا شرفا نلته»، وكانت ثورة الست صامتة، وحاولت أن تتبنى محرم فؤاد فى ذلك الوقت لكنها قررت إلغاء الفكرة. وعندما علم حليم حاول مصالحتها ورفضت إلا أنه فاجأها فى بروفة وقبّل يدها، واصطحب معه فاروق إبراهيم المصور الصحفى، لأن هذه الصورة تجعل الكل يتعاطف معه. حليم كان شديد الذكاء مثلا وافق على بطولة فيلم معبودة الجماهير مجاملة لمصطفى أمين رغم أنه مكتوب لشادية. وأشار بكر إلى أن الغيرة الفنية شىء طبيعى وصحية. وهناك فارق بين الغيرة من والغيرة على. حليم كان يغار على فنه.

أما عن كون حليم سد الطريق عمن جاءوا بعده فهو أمر غير صحيح، لكنهم لم يخرجوا من عباءته. حتى عندما ظهرت الموجة الشبابية تركها الجمهور بعد فترة، وجيل الوسط أصبح يرمز له بالغناء الجاد لكنهم لم يحلوا محله. وحليم لم يدمر أحدا بعده أو قبله، وإذا كان هناك من يتحدثون باسمه فالذنب ليس ذنبه.

والدليل أن هناك أسماء كثيرة ظهرت فى عصره، ومنهم هانى شاكر وقبله محرم فؤاد. كما أنه ليس مسئولا عن توجيه الإعلام بعده.

الإعلامى الكبير وجدى الحكيم.. قال: حليم كان إعلاميا من الدرجة الأولى، وكان موجودا بشكل مستمر فى الأوساط الصحفية، ولو لم ينجح حليم كمطرب، كان سيكون إعلاميا جيدا. أما عبدالوهاب وأم كلثوم فلم يكن الوصول لهما أمرا سهلا، وبالتالى مساحة الاهتمام بحليم كانت أكثر. كما أن حليم كان يحتفظ بعلاقات إنسانية مع شباب الإعلاميين، الذين مازالوا على قيد الحياة، وهذا أوجد نوعا من الاستمرارية من حيث الاهتمام به. إلى جانب أن حليم تشعر أنه موجود بين الناس، ونظرا لمرضه كانت كل الأسر تعتبره ابنها.

لذلك عندما كان يسير فى الشارع كانت الناس تقوم بالنداء عليه باسمه «حليم أو حلم» لذلك كان هناك ضغط على الإعلام من البيوت لزيادة مساحة الاهتمام به. كما أن حليم كان دائما ينظر للمستقبل، وعينه على الأجيال الجديدة لذلك كان متحررا فى اختياراته الغنائية، وأتذكر أننا اختلفنا مرة بسبب أغنية «جبار».

وقال لى سوف تعرف قيمتها بعد 20 سنة، وبالفعل صدقت توقعاته. وقال الحكيم هذا ليس معناه أن أعمال أم كلثوم كانت تقليدية ولكنها كانت تصبغ أى ملحن معها بصبغتها، حليم كان يلبى احتياجات الشباب، وكان بداخله نزعة تمرد. عندما تنجح له أغنية رومانسية، يذهب إلى منطقة أخرى فى الغناء ولتكن شعبية أو قصيدة أو موشحا.

وحول غيرة حليم.. قال الحكيم.. كان حليم فنانا ناجحا، والغيرة الفنية شىء يحسب له لا عليه، فهو عندما كان يجد عملا ناجحا لعبدالوهاب مع أم كلثوم كان يبادر بالاتصال به لاتفاق على عمل جديد وعندما حدث الخلاف بينهما، نتيجة تأخره فى الظهور على المسرح، وقال قولته المشهورة. بادر بالصلح معها وربنا وفقنا وساهمنا فيه، وبالمناسبة حليم من أفضل الأصوات التى غنت أعمال السيدة أم كلثوم.

وحول اتهام هانى شاكر لإعلام حليم بأنه ساهم فى تدمير جيله قال: حليم وأصدقاؤه الإعلاميون أبرياء من دم جيل هانى شاكر، والدليل أنهم أصبحوا نجوما كبار الآن يحملون لواء الغناء المصرى. ثم إن موهبة حليم لم تكن فى حاجة لآلة إعلامية لدعمها. ولا أتصور أن هناك كتيبة إعلامية تفرض وتمنع. كما أن موسيقارا بحجم بليغ كان محسوبا على حليم، ورغم ذلك قدم أصواتا كثيرة.

ويرى الموسيقار الكبير محمد سلطان أن عبدالحليم حافظ كان يتمتع بشىء ربانى جعله الأقرب من قلوب الناس، وهذا الأمر لا علاقة لأحد به. إلى جانب أن حليم كان أستاذ علاقات عامة. ومخلصا فى عمله حتى إنه تعرض مرة لجلطة وصمم أن يؤدى البروفات فى موعدها على كرسى رغم خطورة ذلك على حياته. هذا هو عبدالحليم. وأضاف سلطان أن حليم اختار نوعا من الغناء لم يكن مدرجا فى قائمة اهتمام أى مطرب آخر، وتعرض بسببه للنقد الشديد لكنه واصل الغناء وفق منهجه. الذى يعتمد على الإحساس والذكاء على المسرح، مرضه أيضا كان له دور فى التعاطف معه. وبالنسبة لأم كلثوم فهى وضع آخر لها هيبة كبيرة تجعلك تنظرا ليها بخوف وعندما تتحدث معها تجد نفسك تتحدث وكأنك إمام ملك أو رئيس جمهورية، وكان كبار الزعماء يتعاملون معها بشكل مختلف فما بالك بالموطن العادى؟ ويكفى أن الدول العربية كاملة كانت تجتمع ليلة الخميس الأول من كل شهر لكى تسمعها. لكن أعود وأقول إن تعاطف الناس مع حليم كان مختلفا لأسباب ربانية لأن عبدالوهاب قدم فنا رفيعا، كما قدمت أم كلثوم قمة الإبداع الغنائى.

وقال سلطان: لا أستطيع القول إن حليم كان لعنة الفراعنة على من جاءوا بعده أو من عاصروه لأن الكثير منهم قلده، وبالتالى فقدوا تميزهم.

وحول ما أكده هانى شاكر قال: عبدالحليم برئ من ذلك لأن بعض الإعلاميين فى ذلك الوقت اتهموا حليم نفسه بالتمارض. وكان يقال إنه يحارب فلانا أو فلانا، وهو كان بريئا من ذلك.

ويرى الدكتور زين نصار الناقد الموسيقى: نعم الإعلاميون ساندوا حليم لكنه كان يملك الموهبة، والكفاءة الغنائية لكننى لا أتصور أن من ساندوه إعلاميا دمروا أحدا. وحليم سر نجاحه بعد الموهبة والإحساس، والقبول إنه موسيقى محترف لأنه كان عازف أبوا محترفا فى أوركسترا الإذاعة وهذا ساعده كمطرب. إلى جانب أن حليم كان متجددا، وساعده جيل من الملحنين الشباب فى ذلك الوقت، منهم كمال الطويل والموجى وعلى اسماعيل، وبليغ حمدى إلى جانب دور فرقة أحمد فؤاد حسن، التى كانت سنده لدرجة أنه رفض عرض شركة أسطوانات لمجرد أنهم طلبوا منه الاعتماد على فرقة تضم عازفين أكبر سنا وأكثر خبرة.