2012/07/04

دمشق تشرين دراما ثقافة – فنون الاحد 21 شباط 2010 صلاح دهني لن أمل الحديث عن العنف في صنوف الدراما الحديثة بكل وسائلها. وكيف للمرء أن يتغاضى عن سموم هارئة تفتك بأبناء جلدته، من المحيط إلى الخليج؟! ‏ يقول بعض الباحثين في شؤون الدراما السينمائية والتلفزيونية إن أعمال العنف والعنف البالغ ليست سوى موضة أو دُرْجة، تأتي وتنقضي فهل هذا صحيح؟ ‏ كم كنت أتمنى أن يكون ذلك صحيحاً، لكن هيهات! ما صرت أؤمن به أكثر فأكثر، إن أفلام العنف المتكاثرة، ومسلسلات التغريب المستشرية، باتت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة المشهد الدرامي بتنوعاته، كما يريده عتاة المنتجين الممولين، وكما يخططون وينفذون أفلاماً وأعمالاً درامية مسلية، مشوّقة، جذابة، تمسك المشاهد من تلابيبه، فيها تحدث عمليات تفريغ للعنف الذي في الإنسان، ‏ وللحزن والقهر اللذين يعاني منهما، ليس باعتباره فرداً ينتمي إلى مجتمع واحد بعينه فحسب، بل كذلك كإنسان، ابن كل المجتمعات، المتحضّر منها والمتخلف، الغني والفقير، القضية أو المشكلة بالأحرى، تتمثل في أن هذه الأعمال الدرامية، لا تحمل مدلولاً ولا تعويضاً نفسياً لمشاهديها، خاصة من الأجيال الطالعة، ولا تقدم أية حلول منصفة، بل هي تزداد عنفاً وتغريباً أكثر فأكثر، وترتفع حدة، وتتنامى قسوة وإدهاشاً وإرعاباً مع تنامي قدرات التقنيات الجديدة، وفضاءات تخيلات الصانعين والمبدعين. ‏ فيما مضى كان العنف شجاراً لاهباً بين شخصين وفي أفلام الكاوبوي من رعاة البقر، صار العنف ملاحقة قاسية بالخيل، وتماسكاً بالأيدي وشداً بالحبال، أو كان في تلك الأيام تبادل لكمات وقذف طاولات في حانة، وفي أسوأ الأحوال كان غدار ما، من زاوية مخفية يطلق النار على البطل. ‏ مثل هذا العنف أصبح في أيامنا لعب أطفال ومن حكايا الماضي البعيد صار العنف مسدسات ضخمة هائلة تطلق النار دراكاً ومباشرة على جبهة المغدور أمام عيون النظارة.. وأمام عيون الصغير والكبير تتفجر الدماء.. وصار العنف سيارات مسرعة تتصادم تنقلب، تطير في الفضاء، ومنها تطير أجساد سائقيها، أو باصات تنفجر وتنقذف على عمارة، أو صراعات حتى الموت داخل غياهب نهر جارف أو بحر مائج، أو مواجهات مهولة مع حيوانات منقرضة أو كائنات مكونة غرائبية لم تخلقها الآلهة. ‏ هذا الصعيد للعنف كما باتت تصبه علينا وعلى أجيالنا معظم القنوات العربية التلفزيونية –وخاصة منها الخليجية- ظهر بعد فترة حضانة طويلة في الستينيات من القرن الفائت للمرة الأولى وفي أفلام شهيرة نالت نجاحاً هائلاً. من مثل «البرتقالة الآلية»، وخاصة فيلم «بوني أند كلايد» الذي كررت بثه عدة محطات فضائية عربية، والذي فتح الباب واسعاً لطريقة جديدة في تمثيل مشاهد العنف. ‏ في مرحلة لاحقة صار العنف نظاماً جاء من المخرجين من صنعه على طريقته حتى عرف به. كالمخرج «سام بكينباه» الذي استخدم عمليات تبطيء الحركة أثناء ممارسة الضرب واللكم والرفس لزيادة مفعولها على المشاهد. واستخدم أكياساً مخفية مملوءة دماً تتفجرّ عند الطلب لتمثل الإصابة بالرصاص أو باللكمات المهولة. ‏ للحقيقة أمثال هذه الأمور كانت في وقتها خطوة كبيرة باتجاه تكريس الواقعية في المشهد الدرامي. أما الآن فباتت خدعاً مكشوفة خاصة مع تنامي وعي المشاهد العربي. ‏ العنف المبالغ فيه إن في السينما أو في التلفزيون صار في أيامنا إلى حال من الفساد والإفساد مرعبة. إحدى طرائقه المفضلة لدى صانعيه (ولمَ لا نقول مشاهديه أيضاً) أن يجري تبهير أشد المواقف قسوة بجانب من روح النكتة. ‏ مثال ذلك قيام بطل أحد الأعمال التلفزيوني بتعذيب شرطي فيما هو يغني! ‏ أو مشهد الراقص الممثل الشهير ترافولتا وقد انسطل بكمية كبيرة من الهيروئين وهو يقتل بالتقسيط المريح رهينة وقع بين يديه، ثم يزيح الجثة عن مقعد خلفي ويلقي بها ببساطة مقززة- مع هبة موسيقا صاخبة- كما لو قلب واحدنا مملحة بغير انتباه. ‏ المؤلم أن أفلام ومسلسلات العنف البالغ التي تلت الموجة الأولى، جعلت تقابل بنجاح كاسح وبرغبة شغوف كما لو كان الجمهور يتوقع مجيئها ويتلهف لحضورها.. جاء أمثال برايان دو بالما ومارتن سكورسيزي فأضفيا على عنف الدراما قدراً من الحذق والبراعة حين اخترعا صوراً ومواقف مؤذية بصدق ومؤلمة بحق لم تكن شائعة وأوكلت مهمة توصيل ذلك إلى من هو جدير بالقيام بها خير قيام: كالممثل الشهير روبرت دونيرو الذي رأيناه في أحد الأعمال الدرامية يفجر رأس أحد رجال المافيا بضربات مهولة بمضرب لعبة تنس، وهو يستشري ضرباً بعقب حذائه على ضحية بريئة (لا تظهر على الشاشة). ‏ هوليود، عاصمة السينما والتلفزيون بلا منازع كانت دوماً الموطن الأول والأساسي لأعمال العنف المبهظ، غير أن ذلك الصنف من النتاجات وجد كذلك في حينه أرضاً صالحة في الجانب الآخر من العالم- في هونغ كونغ خاصة- فهنا تبلغ حركية الأحداث حداً من التوهج والتفجر ما كانت تطاق لدى شعوب أخرى وإن كان رواد السينما خاصة يألفونها، غير أن هذا العنف الآتي عن الشرق البعيد عنف في الشكل. ‏ ولنا أن نقول بعد العديد من أفلام ومسلسلات هونغ كونغ وكوريا الجنوبية التي شاهدناها في المهرجانات، أو مسجلة على أشرطة فيديو وأقراص DVD إنها بلغت درجة من المزايدة – وذروة في العنف جعلتها تتدنى- في أحيان إلى حد إنتاج أعمال مريضة وممرضة بحق، وإن كانت على درجة عالية من الاتقان الفني في مستوى التنفيذ المشهدي. ‏ قد يقال الأمر ذاته، عن أعمال العنف التي تنتجها بلدان الشرق الأقصى الأخرى، إلا أن الصين واليابان جعلتا- على أيدي مخرجين جدد على درجة عالية من الكفاءة والموهبة- تنتجان أعمالاً بطرائق متميزة، وبأسلوبية خاصة تقترب بها من الواقعية.. هي أفلام ومسلسلات تحمل صفة البوليسية بصيغة شاعرية. كل ضربة أو لكمة فيها صائبة وموجعة من دون أن تكون مؤذية لا لمتلقيها ولا لمشاهديها. ‏ هل تأثرت الأعمال الفنية العربية بهذا العنف وبحقيقة أن العنف مجز، بمعنى أن يغري المشاهد فيتدفق الزبائن على الصالات، ويهرع الجمهور للتجمد أمام شاشات التلفزيون؟ هذا مؤكد وقد رأينا عواقب ذلك في العديد من الأفلام العربية المصرية التجارية. نجد أن هناك حقيقة ثابتة أخرى هي أن البراعة الخارقة في تصوير العنف لا يقدر عليها ويوفيها حقها جودة- إذا لم يكن في استخدام هذا يستشري فيها العنف وتسود القسوة وينتفي التراحم لدى فئات واسعة وشريرة من أبناء البلاد، في مقدمتها المجتمع الأمريكي الطيب في العمق لكنه يعيش تحت سلطان رأسمالية نهمة، فاسدة ومفسدة. بما يجعل العنف أحد مكونات النفس البشرية لدى من ضلّوا وجزءاً من طبيعة العضوية والروح معاً. وهذا كله ليس من طبيعة النفس العربية ولا من سماتها السمحة. ‏ لعل قارئي في نهاية هذه المقالة يأخذ مأخذ الطرفة والتسلية العابرة هذا العنوان الفظ لكتاب انكليزي (سبق لي أن استعرضته على صفحات تشرين) هو: «القتل باعتباره فناً جميلاً صدر قبل 150 سنة تأليف «توماس دوكوينسي». ‏ أقول إنه لا مفر للقارئ العربي أمام هذا العنوان لكتاب يمجد فكرة القتل ونباهة القتلة وحرفيتهم العالية، من أن ينطلق ذهنه إلى عشرات ومئات الأفلام وحلقات المسلسلات التلفزيونية التي تعج بعمليات القتل والذبح والخنق والإغراق، وقد خطط لها ودرست مراحلها بتدقيق وبخبرة فائقين، من مرحلة التصور الأولية في الذهن أو على الورق، إلى مرحلة التنفيذ بأداء رفيع يرقى بها إلى مستوى «الفن الجميل». ‏ فإذا كانت نماذج من عمليات القتل وممارسات العنف نفذت بفنية وبأداء محكم قبل 200 سنة استحقت كتاباً برمته بقلم كاتب من أشهر كتاب عصره فما بالك بعمليات القتل والغدر والعنف الأرفع مستوى بما لا يقاس التي ترتكب في عصرنا، وأمام عيون الكبير والصغير، على شاشات التلفزيون الأكثر جاذبية وتأثيراً في العقول والضمائر والدواخل مقارنة بتلك التي تظل بدائية، إنها تستحق أكثر من كتاب وحيد على صورة كتاب توماس دوكوينسي «القتل باعتباره فناً جميلاً» وتستحق علامة تميز أرفع، ويسعها هي، عن جدارة عالية أن تصنف في عداد أرقى الفنون الجميلة- بمقياس المؤلف!!‏