2013/06/21

الكلام من تحت الأقدام
الكلام من تحت الأقدام


مارلين سلوم – دار الخليج

لست أفهم لماذا نبدأ - نحن العرب عموماً - بالنظر إلى فوق، بحثاً عن السقف، كلما أردنا أن نتحدث عن حرية الرأي والتعبير والتفكير في البرامج التلفزيونية . حتى حين نسعى إلى تحليل البرامج الساخرة، نتعمد البحث عن السقف ربما لسببين، إما لتعليق آرائنا السلبية على مشاجبه، وإما لأننا نريد أن نحد من طموح الساخرين من أوضاع معينة، فنصفهم بمتجاوزي الخطوط الحمر .

هذا “السقف” يُطبِقه البعض فوق رؤوس من يشاؤون إحراجه وإخراجه من “لعبة البرامج الفضائية”، ويرفعونه عالياً إلى اللاحدود لمن يُعجبهم ويناصرهم ويدافع عن أفكارهم، ويحولونه أحياناً إلى طوق يلفونه حول أعناق من يستفزهم بآرائه على الشاشة .

كم هو مطاط هذا “السقف” في بعض الدول العربية! وكم هو وهمي لا لزوم له! لأن الإنسان المسؤول عن كلمته ومن يتحلى بالأخلاق والوعي الكافي، يحمل مبادئه فوق رأسه إكليلاً يتوج به كل ما يقوله ويقدمه، وتصبح كلمته سيفاً على رقبته، يخاف أن تجرحه وتجرح كرامته قبل أن يسلطها على الآخرين، وهو ينطلق حراً سيد نفسه على الشاشة، يقول الحق مهما كان الثمن غالياً، ويعلي من شأن برنامجه ومن شأن مهنته ونفسه .

من هنا، لا تنتظر من فاقدي المبادئ أن يتحلوا بما لا يملكون، ولا تنتظر منهم أن يفهموا معنى الحرية ويقدروا وزن الكلمة، فهم يلوكونها في أفواههم، وينهالون عليك بالنصائح والإرشادات والعِظات، ويتبجحون بما لا يفعلون . كم يكثر هؤلاء اليوم على الفضائيات! وكم أصبح الفضاء مزحوماً ب”أشباه” القنوات الإعلامية، التي لا رسالة لها سوى الشتم وتوجيه الناس نحو فكر عنصري عصبي متشدد، وأخرى تغسل العقول برسائل سياسية موجهة وفق ما يمليه عليها أصحابها وحلفاؤهم!

الفضاء مزحوم بالضجيج والمعارك، والكلام يهطل طوفاناً على رؤوس المشاهدين فيغرقهم تشاؤماً وتوتراً واشمئزازاً . وما نشاهده على كثير من الشاشات لا يشبه الحوار بشيء، مادام المتحدثون يفتحون أفواههم ليُخرجوا كل ما في بطونهم لا ما في عقولهم، ومادامت كل الأطراف تصم آذانها وهي تجلس متقابلة، ويبدو واضحاً للمشاهد أن الجالس على كرسي الضيف جاء ليقول لا ليسمع، وجاء ليدلي بدلوه ويملي على الناس ما أملي عليه، وهو غير مستعد لاستيعاب أي فكر مختلف مع فكره، ولا يأخذ من كلام الضيف الآخر أو المذيع إلا ما يمكن أن يستخدمه ضدهما، كي يزيد من تأجيج النار والفتنة .

إذا التفت إلى القنوات “المتطرفة” بطبيعتها وبكل ما فيها، تجدها لا تستضيف إلا من يطبل لها، ولا تسمع إلا الأصوات التي تناسب توجهاتها، والمصيبة أن كل هؤلاء المتوافقين المتفقين، يصرخون ويتحاورون بأعلى الأصوات، وتوترهم يستفزك دون أن تفهم سبب هذا الصخب، وهي “جلسة بين الأحبة” لا “أعداء” فيها! أم أن مجرد تحدثهم عن الطرف الآخر وأقواله وآرائه، يكفي لاستفزازهم ويشعل نيران غضبهم؟

الفضاء مزحوم، وفسحة التنفس فيه أصبحت ضيقة . هل نتنفس حرية إعلامية؟ مرة أخرى لا بد أن يأتي من يذكرك “بالسقف”، ترى هل إعلامنا ما زال صغيراً على تحمل مسؤولية الكلمة وأبعادها وحدودها، أم أن هناك من يريد أن يصوره لنا باعتباره قاصراً لم يبلغ سن الرشد ويحتاج إلى قيود كثيرة وإرشادات كي لا يضل الطريق؟

الحقيقة أن الطريق ليس واحداً، ولا الهدف واحداً، وكل يفصل وسيلة إعلامية على مقاس خطته لا على مقاس رغبات المشاهدين وحاجتهم، فقلة هم من ينشئون قنوات لأهداف إعلامية، والغالبية موجودون على الهواء من أجل أن تكون الكاميرا والشاشة الجسر الذي يعبرون من خلاله إلى الناس، فيمارسون عليهم سلطتهم ويحاولون جرهم إلى حيث يريدون .

سقف مطاط، مرة يكون ستاراً يختبئ خلفه البعض، ومرة يصبح سلاحاً يحاربون به من ينتقدهم . . ووسط هذه المعمعة ترى “الحرية” كالكرة تتقاذفها الأرجل دون أن تصيب الهدف . وأي حرية هذه وهناك من يهدد المذيعين في مصر بالقصاص منهم ومطاردتهم أينما ذهبوا، حتى لو سافروا خارج بلدهم؟

هل تذكرون “ميثاق الشرف الإعلامي”؟ وكأنه حكاية قديمة سمعنا بها مرة وانتهت . ثلاث كلمات تبعثرت في بعض الدول العربية، فأصبحتَ تجد إحداها دون الكلمتين المرافقتين، وغالباً ما تكون الكلمة الضائعة هي الوسطى .

من يردع قنوات التطرف عن تحريض الناس وتغذية الفتنة في الشارع؟ إذا شاهدت بعض القنوات المصرية وانتقلت إلى اللبنانية، تصاب باكتئاب حاد، وقد تفكر باعتزال المشاهدة .

أي لغة إعلامية هذه؟ وهل هناك من يفكر بالمشاهد؟ أستشهد ختاماً بكلمة قالها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف في منتدى الإعلام العربي في دبي: الحوار أصبح يبدأ من تحت أقدام المتحاورين في البرامج .