2013/05/29

باب الحارة.. البحث عن الجذور
باب الحارة.. البحث عن الجذور


مروان ناصح – بوابة الشروق

يعد مسلسل (أيام شامية) للكاتب أكرم شريم، والمخرج بسام الملا، الذي أنتج في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، هو الأب الروحي لمسلسل (باب الحارة)، والجد الأعلى لمختلف المسلسلات السورية التي عرفت بعد ذلك بعنوانها العريض (مسلسلات البيئة الشامية)، وعلى الرغم من أن الحارة الدمشقية كانت قد ظهرت في الدراما التلفزيونية السورية مرات عدة قبل ذلك، إلا أنها لم تشكل قاعدة ملفتة للانتباه نحو عالم الشام القديمة، بما يكفي لاعتبارها بداية لظاهرة البيئة الشامية ذات الزخم العظيم الذي بدا للناس في كل مكان، مع النجاح الكبير الذي حققه (باب الحارة) بجزأيه الأول والثاني.

من تلك الأعمال التي سبقت ظهور مسلسل "أيام شامية" المسلسل الشهير ذي الأسبقية الكبرى في إخلاء الشارع السوري من المارة أثناء عرضه على الشاشة، أيام التلفزيون الأبيض والأسود، والذي حمل اسم (حارة القصر) وقد كتبه للتلفزيون السوري الكاتب القصصي والروائي المعروف عادل أبو شنب، وأخرجه المخرج الكبير علاء الدين كوكش، بالأدوات الفنية البسيطة المتاحة في تلك الأيام، من أوائل سبعينيات القرن الماضي، وقام ببطولته نخبة من فناني الدراما الأوائل. ومما امتاز به ذلك المسلسل بنيته الدرامية المشوقة التي اعتمدت على بعض عناصر الرواية البوليسية، وموضوعه الجريء الذي يتحدث عن علاقة حب بين فتاة شعبية ساذجة وحلاق الحارة الشاب المتهور، وتبدأ عقدة العمل بالتصاعد بعد أن تحمل تلك الفتاة "سفاحا"، ويرفض ذلك الحلاق الاعتراف بمسؤوليته عن هذا الحمل، وتتشابك خطوط الصراع الدرامي لتصل إلى ذروة أخرى، حين يعثر على والد الفتاة "مقتولا ومرميا" في مكان مهجور موحش من الحارة، ومن طرائف ما حدثني به مؤلف هذا المسلسل الأديب الراحل عادل أبو شنب، أنه كان يكتب حلقات هذا المسلسل أسبوعيا، لتصور كل حلقة منه على انفراد وتعرض بالتتابع، حتى إنه كان يبني أحداث الحلقة التالية بعد أن يستمع إلى آراء الناس في أحداث الحلقة السابقة منه، وبعد محاورة مع مخرج العمل ونجومه، وأنه قام بتبديل الكثير من الأحداث ونهاياتها عما كان مخططا لها عند بداية كتابة العمل، ولقد كان مسلسل (حارة القصر) هذا علامة بارزة في تاريخ الدراما السورية بصورة عامة، يوم أن كانت المسلسلات المنتجة من الندرة بحيث تذاع حلقاتها أسبوعيا، ويخطط للمسلسل الواحد أن يكون عدد حلقاته 13 حلقة ليغطي المدة الزمنية، لما كان يدعى بالدورة البرامجية التي تستغرق ثلاثة أشهر.

ومع كل النجاح الباهر الذي حققه مسلسل (حارة القصر) عند الجمهور السوري آنذاك، فإنه لم يتمكن من نيل شرف أن يكون بداية لمسلسلات (البيئة الشامية)، والسبب -كما يرى كثير من النقاد والمتابعين- أن الحارة الشعبية التي دارت فيها أحداثه كانت الحارة المعاصرة لزمن كتابته وعرضه على الناس، الحارة التي دخلتها الكهرباء والأزياء الحديثة، وأدوات المعيشة المتطورة والمدارس العصرية، والسيارات وأجهزة المذياع والتلفزيون، وتطورت أسواقها وحرفها مع زيادة الاحتكاك بالغرب، وانفتح بابها الكبير المغلق لتتواصل مع الحارات الأخرى، والأحياء المحدثة على طراز العمارة الأجنبية، تمهيدا لنشوء مدينة أخرى على بقايا المدينة القديمة، وإلى جوارها وباختصار إنها الحارة الشامية بعد أن فقدت الكثير من سمات أصالتها العريقة، وباتت تتهيأ لفقد المزيد من هذه السمات مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين، لا سيما وأن الإنسان الشعبي نفسه كان قد بدأ يترنح في مشيته بين القديم والجديد، وأخذت شخصيته تتشكل من خليط غير متجانس من القيم الموروثة، والقيم التي تطالبه الحياة الحديثة باعتناقها وتبنيها، بديلا عن كل ما وصل إليه من تراث آبائه وأجداده، من مفاهيم إنسانية ودينية واجتماعية راكزة ومأمونة العواقب.

ومما يؤكد هذا السبب في خروج مسلسل (حارة القصر) عن تاريخ "الدراما البيئية الشامية" أن القائمين على شؤون الدراما في عدد من القنوات التلفزيونية العربية رفضوا مشروعا تقدمت به إحدى الشركات السورية، لإعادة إنتاج هذا المسلسل بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما على إنتاج نسخته الأولى، بينما وافقوا على إعادة إنتاج أعمال بيئية أخرى مثل مسلسل (أسعد الوراق) ، ذلك أنهم بحثوا في أرجاء (حارة القصر) عن ملامح البيئة الشامية الأصيلة، فلم يجدوا منها شيئا يذكر، فقد غاب عنها كل ما يحقق الهزة الشعورية في الفن العظيم، تلك الهزة التي تحدث عنها الشاعر جميل صدقي الزهاوي، في معرض تشخيصه لفن الشعر الأصيل فقال: إذا الشعر لم يهززك عند سماعه فليس خليقا أن يقال الشعر