2012/07/04

تجربة فكرية في سيرة حياة
تجربة فكرية في سيرة حياة

تهامة الجندي – الكفاح العربي

مثلما أثارت مقولات نصر حامد أبو زيد الفكرية الجريئة أوساط المثقفين من مختلف الأطياف، وأدت إلى تكفيره من قبل الإسلاميين المتشدّدين، كذلك كان شأن الفيلم التسجيلي الذي أنجزه الزميل محمد علي أتاسي عن هذا المفكر الإسلامي الكبير قبل شهرين من رحيله المباغت في الخامس من تموز (يوليو) 2010، فقد أوقد الفيلم جدلا حاميا بين جمهوره، كما لقي نصيبه الوافر من التقريع الإعلامي باعتبار أنه اهتم بالوثيقة وأهمل الفن، وفي مقابل ذلك نال عدة جوائز تقديرية، كان آخرها جائزة أفضل فيلم سوري في مهرجان "أيام سينما الواقع" للعام 2011.

بدأ الأتاسي تصوير فيلمه "في انتظار أبو زيد" قبل سبع سنين، حين ألقى المفكّر محاضرة في دمشق كان يديرها المخرج بنفسه ـ كما هو واضح من اللقطات الأولى ـ وسوف تستمر العدسة في رصد عوالم أبو زيد الفكرية ما بين المنابر الثقافية والقاعات الجامعية والحوارات الإعلامية المتلفزة، إلى جانب بعض المواقف الإنسانية والحوارات، وذلك على خلفية حدث الفيلم الرئيس، وهو حكم التفريق الذي أصدرته محكمة القاهرة في العام 1995 لتطليق المتهم بالإلحاد من زوجته المسلمة الدكتورة ابتهال يونس، مما اضطر الزوجين لمغادرة مصر واللجوء إلى هولندا.

رحلة في عوالم أبو زيد استغرقت اثنتين وثمانين دقيقة، هي مدة الفيلم، وتنقّلت جغرافيا ما بين دمشق وبيروت ولايدن/ هولندا، خلال الأعوام الستة الأخيرة من حياته، لترسم بورتريه متعددة الألوان، تتقاطع في سياقها التجربة الفكرية الصرفة مع السيرة الحياتية.

وفي هذه الرحلة احتل مسار الفكر الحيّز الأكبر من مشاهد الفيلم، وكان أقوى من حيث الإثارة والتأثير من المسار الآخر، وبديهي أن مردّ ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى آراء أبو زيد المدهشة، وإلى ذكائه الحاد وحضور بديهته أثناء عرض أفكاره وردّه على تساؤلات جمهوره الواسع من المؤيدين والمعارضين لأطروحاته على حد سواء. نحن أمام شخصية تميّزت وتفوّقت عن سواها بمنجزها الفكري، وبحضورها الآسر على المنابر الثقافية، وبقدرتها المذهلة على التخاطب وإدارة دفة الحوار.

بدأ المسار الفكري بتأكيد أبو زيد على أن المقدّس ليس مفهوما قارا أو منزّلا من السماء، وإنما هو مفهوم يحدثه الناس، وإلاّ ما الذي يجعل من البقرة كائنا مقدّسا عند المجوس، ثم انتقل إلى تاريخية النصوص المقدّسة، ودعا إلى التحرر من سلطة تفسيرها، ليس بهدف إلغائها، بل لتسليط ضوء العقل عليها، وقراءتها في سياق تاريخها وتاريخ الفاعلين الاجتماعيين الذين أنتجوها، فهذه النصوص لا تكتسب سلطتها بذاتها، بل بإيمان البشر فيها، ومن بين الأفكار الساخنة الأخرى التي تطرق إليها الفيلم وجهة نظر المفكر الإسلامي في أن الحجاب مظهر وليس عبادة، وأن على المثقف العربي التواضع، فهو لا يختلف بشيء عن أي عامل تنظيفات يؤدي واجبه بضمير، كذلك موقفه السلبي من رجال الدين المتجهّمين المتوعّدين بعذاب جهنم الذين يظهرون على شاشات التلفزة، أو المسلمين النورانيين الزاهدين في المسلسلات التاريخية.

في هذا السياق يُحسب للمخرج حسن اختياره لموضوعه ولشخصية فيلمه، كما يُحسب له حرفيته في تشكيل اللقطات والتأكيد على الأفكار الأكثر إشكالية والسجالات الأكثر سخونة التي تشغل بال العامّة والخاصّة في العالم الإسلامي، ليس التأكيد عليها فقط، بل أيضا وضعها في سياق منظومة تصاعدية من المعايير والقيم التنويرية التجديدية.

أما المسار الحياتي فقد تقاطع مع التجربة الفكرية على شكل وقفات قصيرة، هي أشبه بمحطات راحة وهدوء في النسيج العام، بدأت مع الدكتورة ابتهال، وهي تتحدث عن علاقتها الطيبة بزوجها، وعن ردّة فعله تجاه حكم التفريق، ثم لقطات قليلة يظهر فيها المخرج، أو يدخل في حوار مع أبطال الفيلم من خلف العدسة. فمشاهد تتابع يوميات أبو زيد العادية، ذلك في محاولة موازية لإبراز الوجه الآخر للمفكر الإشكالي الصدامي، فهو الإنسان البسيط في مجمل علاقاته وتعبيراته، والشخص الوديع الصريح الذي لا يخفي دموعه حين تفيض تأثرا بمقطع شعري أو أغنية، ولا يخجل من الإفصاح عن حبه وتعلّقه الكبير بزوجته، ولا يجد حرجا في التعامل مع أي منبر يمكّنه من نشر أفكاره، ولا ينكر تخوفه من فكرة العودة إلى مصر بعدما لحقه من أذى، ولا يتوانى عن إبداء مشاعر البرود إذا ما شعر بالملل من شخص ما، كما هي حال علاقته بالمخرج التي بدأت بكثير من المودة والإعجاب، ثم اعتراها الفتور والتوتر مع مرور الزمن، لتكتب خاتمة الفيلم.

تداخل المسارين أغنى الفيلم بلمسة إنسانية خاصة، وأضفى على مناخاته الكثير من التنوع والاختلاف ما بين المستوى الذهني الحافل بالصور التجريدية والمفاهيم النظرية والأسئلة، والمنحى النفسي المثير للمشاعر والعواطف، بما ينضوي عليه من مواضع ضعف وهشاشة مفاجئة للمتلقي مقارنة بالهالة الأولى التي اعتلت هامة المفكّر، غير أن الختام بمشهد حياتي يصوّر نقاشا باردا بين الأتاسي وأبو زيد لم يكن بالخيار الأمثل، لقطعه البنية الدرامية في أكثر المناطق فتورا وخفوتا، وليس في مناطق الذرى، ولخروجه عن المقدمات الذهنية والسياق التصاعدي الذي سعى المخرج إلى توطينه في الأذهان.

بطاقة أتاسي

ولد في العام 1967 في دمشق، نال إجازة في الهندسة المدنية في العام 1992 ثم نال درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة السوربون في العام 1996، يعمل ويعيش في بيروت منذ العام 2000، حقق فيلمه الأول "ابن العم" في العام 2001.

■■■

فيلم ديجيتال بيتكام، ملون، مدة 82 دقيقة.

كاميرا: هالة العبد الهر، محمد علي أتاسي، ماهر أبي سمرة وأرليت جيراردو.

مونتاج: رانيا اصطفان.

إنتاج بوست أوفيس/ لبنان 2010.