2012/07/04

خاص بوسطة- سامر محمد إسماعيل لاشك أن "ضيعة ضايعة" جاء وبصورة مموَّهة ليعكس واقع الفلاح السوري المعاصر؛ قراه المتروكة للعدم والصدفة. العمل الذي جاهر - ومن أغنية الشارة التي أداها الفنان علي الديك- أعلن الشوق الدفين لمسقط الرأس بعد أن غُرّر بهذا الفلاح لترك محاصيله وأشجاره والذهاب إلى العاصمة للعمل في السلك وخلافه.. لاحظوا معي: أغنية حزينة لمسلسل كوميدي، لا ليس كوميدياً على الإطلاق، بل هو صورة تسجيلية درامية عن فلاحين معزولين في قراهم البعيدة، أقصد ما تبقى من هؤلاء الذين يسكنون على أطراف المدن منذورين للبطالة الغاشمة. سنرى هنا كيف تحول هذا الفلاح إلى مسخرة بعد أن نسي أنه يملك أرضاً يمكنه زراعتها، كيف يفكر هذا الفلاح ليلاً نهاراً بتدبر قوت يومه ببعض الأعمال الحرة؛ حتى أنه في ضيعته الضائعة هذه، الواقعة بالقرب من ساحل المتوسط، لا يقوم بالصيد إلا لتزجية الوقت وقتل الملل، ولا يذهب للتخييم في غاباته الجميلة التي صارت مزاراً للسياح من المدن السورية الأخرى. لاحظوا معي كيف أقدم المختار بيسه-زهير رمضان على عرض ابنته، في إحدى حلقات الجزء الأول، على تاجر حلبي (محمد خير جراح)، للتخلص من لقمتها ومصاهرة التجار. لا حظوا ذلك المثال عن الشاب السوري سلنغو- فادي صبيح في قرية أم الطنافس الفوقا، ألا تشبه هذه القرية ضيعة "السمرة" ذاتها التي صور فيها المخرج "الليث حجو" مسلسله الكوميدي؟ ألا يشبه ذلك الشاب شباب السمرة اللائبين على فرصة عمل واحدة؟ ألم يقم صاحب بيت أسعد- نضال سيجري في تلك القرية بزيادة أجر بيته أثناء تصوير الجزء الثاني من المسلسل.. ألم يفكر هذا الرجل تماماً كما يفكر جودة-باسم ياخور بكسب المزيد من المال بطريقةٍ أو بأخرى؟. ثم لاحظوا تلك الترجمة في أسفل الشاشة للكلمات غير المفهومة، والتي تلمّح بلا مواربة للهجة بشر يشبهون الهنود الحمر؟ مع أنها لهجة ذات أصول آرامية. إنهم خرافيون، أغيار على نحو لا يقبل التصديق، غائبون عن كل شيء، عن التلفاز والهواتف النقالة، ومقاهي الإنترنت، مع أنهم على ساحل المتوسط! أيضاً انتبهوا إلى علاقات المقايضة التي لا زالت موجودة في تلك البقعة من الأرض، أتساءل فعلاً كيف نسي التاريخ هذا القرية وسواها، فلم يعد بالإمكان القول إن وصول الكهرباء إلى القرى السورية جعلها تدخل التاريخ من أوسع أبوابه، إذ ما فائدة الكهرباء هناك من غير توفير مشاريع تنموية تساعد أهل تلك المناطق على البقاء في أراضيهم الخضراء، التي تحولت إلى بقاع مهجورة بعد أن شهدت نزوحاً هائلاً في سبعينيات القرن الفائت نحو المدن. وخلاصة القول أن هذا العمل على الرغم من احتياله غير المعلن على تسجيل مقطع نادر من الحياة السورية المعاصرة بقالب كوميدي أبيض؛ إلا أنه قارَب الفانتازيا إلى حدٍ بعيد، وذلك بعد استناده المطلق على كوادر تصوير جديدة للغاية مضافاً إليها ملامح بشر تلك الأرض التي مازال أهلها يعيشون على بيض بلدي غالباً ما يقايضونه بسلعٍ أخرى. أجل المقايضة ما زالت حية ترزق هناك، ولا زال فلاحو تلك القرى الوادعة قبيل عصر الإقطاع الذي ودعه العالم منذ مئات السنين. طبعاً هذا كله التقطته كاميرا "حجو" في مفارقاته الكوميدية ذات الفحوى المأساوية، لقد تغيرت كتب القراءة في مدارس المرحلة الابتدائية، ولا أدري إن كانت ما زالت تحتفظ بذلك الدرس الذي كنا ننشده ونحن صغار، وهو - لمن عاش تلك الفترة وقرأ تلك الدروس القديمة- كان بعنوان "حامد فلاح نشيط" هذا الدرس الذي جاء للتعبير عن الموقع الجديد للفلاح في عصر اشتراكي يفور بالخيرات للجميع، لكنني أتساءل أين ذلك النموذج في ضيعتنا الضائعة، تلك الضيعة التي غنى لها كل من وديع الصافي وفيروز وصباح. لماذا اليوم أمست على هذا النحو من الفانتازية؟ لماذا أمست باعثة على الضحك والمرارة؛ بدلاً من أن تكون إحدى دعائم الاقتصاد الوطني سياحياً وزراعياً وثقافياً؟ لماذا حتى الآن لم نجد أثراً لـ (تلفريك) واحد في تلك الجبال الشاهقة على بحر المتوسط؟ هذا كله التقطه الكاتب ممدوح حمادة عبر كاميرا سجلت لنا عذرية غير مسبوقة للأماكن، لكن السؤال: لماذا قام الليث بتدمير قريته تلك في آخر حلقة صورها من الجزء الثاني للمسلسل؟ لماذا أصر على موت شخصيات تلك الضيعة الخرافية؟ هل كان ذلك خياراً فنياً؟ أم أن مخرج العمل أراد أن يتخلص نهائياً من الدلائل المادية للخراب الإنساني الذي رصده درامياًً؟ شئنا أم أبينا علينا الاعتراف أن "ضيعة ضايعة" أصبح وثيقة تاريخية، وثيقة تحاشت كل أساليب التاريخ في كتابة محفوظاته وإملاءاته المنظورة.. فالدراما السورية التي رصدت أماكن السكن العشوائي على أطراف دمشق، وبشرها النازحين من ضيعهم الضائعة، عادت والتقطت لنا ما تبقى من هؤلاء في قراهم الأسطورية، أجل ما نسيه الليث في مسلسله "الانتظار" عاد لاقتفاء أثره في "ضيعة ضايعة"، وما فعله في آخر حلقة ليس إلا إحراق للوثائق، والتخلص من كابوسها المزمن في الرأس والفؤاد..!
هي فسحة لمقالات ضيوف البوسطة.. نقدم فيها مقالات جادة تشكل بنية لحوار طموح في شؤون الفن في سورية والعالم العربي.. ويدفعنا الأمل بمشاركة كل كتابنا الغيورين على الفن الجميل. ملاحظة: لا تعبر آراء الكتاب بالضرورة عن رأي الموقع. حفظ كملف PDF