2013/05/29

«حريـم السـلطان».. تاريخنـا فـي مـرآة الاستشـراق
«حريـم السـلطان».. تاريخنـا فـي مـرآة الاستشـراق


بيسان طي – السفير

يوم انتهى جان أوغست دومينيك آنغر من لوحته «الحمام التركي» (1862)، كان التيار الاستشراقي قد تغلغل في مكونات الذائقة الجمالية في أوروبا. أثار الشرق خيال الأوروبيين و«نشوتهم»، خصوصاً منذ حملة نابليون بونابارت على مصر. ارتبطت صورتهم عن الشرق بلوحة الفنان الفرنسي، ليصير أرض النساء المحشورات في حمام أو حرملك، يمارسن المكائد والغواية. نساء يشكلن امتداداً للصورة النمطية الأولى عن المرأة التي تعطي التفاحة لآدم فتخرجه من الجنة.

اليوم بعد نحو 150 عاماً على لوحة آنغر، نرانا أمام لوحة أخرى مشابهة في جوهر الرؤية المعتمدة لها، وإن كانت منفّذة بأدوات ولغة فنية عصرية... وبتوقيع تركي هذه المرة.

تجتاح ظاهرة «حريم السلطان» العالم، ليس فقط في تركيا والدول العربية، إذ انّك قد تقع على إعلانات تروّج له في شوارع موسكو كواحد من أكثر المسلسلات نجاحاً. الإعلان يصدم حين يلاحقك في شوارع العاصمة الأرثوذكسية، حيث الكنيسة صاحبة نفوذ قوي. يصدمك إذ تتذكر العداء بين المملكة العثمانية والعالم الأرثوذكسي تحديداً. لكن السر يكمن في مكان آخر، بعيدا عن السياسة والحقائق التاريخية... إنها «بهارات» الاستشراق، مقدّمة بكثافة في طبق واحد. ممثلات جميلات أشبه بعارضات الأزياء، حرملك، ديكورات شرقية مبهرة، مكائد، إغراء، صراعات الجواري والسلطانات، الجارية الروسية التي تتحول سلطانة وتتحكم بفضل دهائها وخبثها بحياة حاكم العثمانيين.. هذا بالإضافة إلى ملابس فائقة الجمال هي أقرب إلى ما أفرزته المخيلة العصرية والاستشراقية تحديداً، عن أزياء تلك المرحلة، يوم حكم السلطان سليمان القانوني الإمبراطورية العثمانية في عصرها الذهبي، وأدخل عليها الإصلاحات القضائية بل الثقافية، وقام بحملات ضد عواصم مسيحية، وانتصر في معظمها، إلى أن توقف عن توسّعه خلال حصار فيينا (1529).

لكن سليمان القانوني في المسلسل ليس أكثر من صورة باهتة للسلطان العثماني. العمل كله يرتكز على الحريم، ابتداءً من عنوانه. يغوص في حياة النساء المحاصرات في الحرملك، وصراعهنّ بشراسة من أجل البقاء. كل نساء الحرملك خبيثات. الجارية البسيطة تقتل جارية أخرى لتحظى بليلة مع الأمير. كلهن يدرن في فلك رجال شهوانيين، ويتلاعبن بهم. وظيفة الرجل في هذا المسلسل هي الاستسلام لغواية أيّ امرأة تقدم له على طبق من فضة.

الوقائع التاريخية تبدو كخلفية ثانوية للأحداث. السُلطانة هُيام، واسمها في عدد من المراجع التاريخية الجارية روكسانا، أوقعت السلطان في حبها، وهي لا تزال شابة يافعة، فيما هو على أبواب الخمسين. لكنّ المسلسل لا يظهر ذلك الفارق الكبير في السنّ، بشكله الفج. لنقل إن العمل الدرامي ارتكز على حقيقة تاريخية هي الحب الكبير الذي كنّه السلطان لزوجته الشابة، وفضّلها على زوجاته الأخريات. فاستغلت هي الأمر، لتقوم بشبك العلاقات ونسج المؤامرات إلى درجة دفعته في النهاية لقتل ابنه ولي العهد (الامير مصطفى) ليتولى ابنها هي الخلافة، وفق ما هو مثبت في الكتب التي تؤرخ لتلك المرحلة. هيام هي الصورة المثالية للذائقة الاستشراقية: امرأة جميلة في الحرملك، كيدها عظيم ولها قدرة استثنائية على تنفيذ المؤامرات. غريمها رجل هو الصدر الأعظم إبراهيم باشا الفرنجي. لكنه أيضاً شرير يحركه طموحه الجامح بل جشعه. وهو في تنفيذ المؤامرات ــ وفق ما يبدو في «حريم السلطان» بجزءيه ــ أقرب إلى ما تدبّره الجواري من دسائس منه إلى حنكة رجل سلطة. حتّى أنّ معظم المشاهد تجعله حبيس القصر والحرملك.

يحتل «حريم السلطان» مكانة مهمة في المشهد الدرامي في أكثر من دولة، وهو على أي حال يجمع كماً هائلاً من عناصر الإبهار.. لكنه يفتقد ما هو أهم: الحبكة الدرامية التي تستفيد من العناصر التاريخية المهمة. كما أنّ مستوى التمثيل فيه عادي جداً، إذ يعتمد عدد من الممثلين على المبالغة في كثير من المشاهد. ولناحية المؤثرات، فإنّ الخدع والنماذج البصرية تبدو كرسوم كرتونية.

إذا كان المسلسل يندرج في إطار الصورة الاستشراقية النمطية، فإنه يلفتنا إلى ما لا نعترف به إلا نادراً. نجاح «حريم السلطان» في العالم العربي مردّه إلى عوامل كثيرة، منها أنه ينتمي إلى سلالة المسلسلات التركية المبهرة (والتي لا تؤلم ولا تثير أسئلة مهمة)، وذلك أمر عادي في إطار ما يعيشه العالم العربي اليوم، وثمة حاجة حقيقية لتحليله سوسيولوجياً بعمق. لكن الأمر الخطير يندرج في نقطتين. الأولى تتعلق بالمعرفة التاريخية. فهذا المسلسل يقدم قراءة لحقبة كان العالم العربي فيها جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، لكنّ المسلسل يغيّب الإشارة إليه. وحين يرضى المشاهد العربي بذلك، يبدو كأنّه يرضى بالبقاء في الكواليس، فيما العثمانيون يحتلّون المسرح، ومرد ذلك إلى جهل في التاريخ.

ويتعلّق الأمر الثاني بالانبهار بصورة عن الشرق، والعرب جزء منه. كأنّ الشرقيين باتوا يعشقون هذه الصورة ويريدونها لأنفسهم، ولا يقلقهم أن يكون الحرملك سجناً طوعياً لنسائهم ورجالهم.