2016/04/03

بوسطة - بشار عباس

يمكن دراسة فيلم "فانية وتتبدّد" (2015 – 134 د)، إخراج نجدة اسماعيل أنزور بناءً على مقارنة بين هذه التجربة وبين تجربة شبيهة في تاريخ الفيلم من جهة، وبمقارنة الفيلم ، والذي هو عن تنظيم داعش، بأفلام هذا التنظيم نفسه من جهة ثانية.

العمل مصنوع بشكل واضح ومُعلن لمجابهة الأخير، والذي يعتمد في خلق صورته الذهنية على المقاطع الفيلميّة الوثائقيّة، بأطوال زمنيّة لا تتجاوز بضع دقائق.

 

 

 

إنّ التوقّف عند تجربة شهيرة وقريبة من هذه قد يؤمّن مادة جيّدة للتحليل، وهي التصدّي الغربي للنازيّة من خلال التصدّي للفيلم الوثائقي الذي صنع صورتها الذهنيّة "إنتصار الإرادة" (1935 -114د)، إخراج ليني رافنستال،  الفيلم كان السبب وراء اكتساح الجيش النازي لأوروبا بسرعة قياسيّة، وكان العامل الأكبر في تأسيس أسطورة النازية خلال سنوات الحرب، وأسطورة ألمانيا بعد انتهاء الحرب.

لمواجهة الآثار الكبيرة للفيلم، قام الأمريكيون بصناعة سلسلة وثائقيّة من عدّة أجزاء تحت عنوان "لماذا نحارب" إخراج فرانك كابرا، ولكنّها كانت تجربة فاشلة، لأنّ صناع الفيلم أدعوا أنّ العمل لمواجهة هجوم بيرل هاربر، ولأنّه ظهر كتقليد عن الفيلم الألماني، ما تسبب بمزيد من الشهرة للأخير، وبسبب افتقار الولايات المتحدة - والعالم كلّه - إلى صانع أفلام وثائقيّة يُضاهي المُخرجة الألمانية، ولأنّ الوثائقيات الأمريكيّة كانت قد استقرّت على مضامين ذات طابع إنساني أنتربولوجي، وذلك في اتّجاه أسسه روبرت فلاهرتي في "نانوك رجل الشمال" (1922- 79 د)، فكان لا بدّ من التوجّه إلى الروائي، أي: إلى القصّة، لمواجهة الوثائقي، أي: لمواجهة التاريخ .

الأفلام الروائيّة المضادة للنازية والفاشية، والتي ظهرت بعد نهاية الحرب مثل فيلم "سالو" (1975 – 114 د) إخراج بازوليني، سوف تخرج من هذه المقارنة،لأنّ الموضوع هنا عن روائي في مواجهة بروباغاندا خلال حرب لم تضع أوزارها بعد، مثلما حاول فيلم "فانية وتتبدّد" أن يفعل، إن التجارب الأهم من فترة الحرب الثانية كانت ثلاثة أعمال؛ عام 1940 فيلم "الديكتاتور العظيم" (124 د)، تشارلي تشابلين، والذي كان أوّل فيلم ناطق له، الأمر الذي لم يُعجب الجمهور، ولاحقاً أدرك الدارسون أنّ الفيلم الصامت شيء، والناطق خلقٌ آخر، فظهر تشابلين الناطق كأنّه فنان آخر مختلف عن المعروف، ومع هذا فقد نجح الفيلم إلى حد مقبول في تخفيف سطوة الصورة الذهنية التي ابتكرتها ليني رافنستال، تشابلين حوّل هتلر إلى مادّة للضحك، وهناك روائي آخر مهم "الجلادون أيضاً يموتون " (1943- 134 د)، فريتز لانغ، العمل المقتبس عن نصّ لبريشت كان مجابهةً جيدّة للدعاية النازية، ولكنّ صدور فيلم  كازابلانكا (1942- 102د)  مايكل كورتيز، قبله بعام جعل الأخير صاحب الريادة في هذا الخصوص .

إنّ كازابلانكا، الذي تعتبره جمعيّة الكتّاب الأمريكيين أفضل سيناريو فيلم طويل في التّاريخ، يبدأ بتقديم الظروف التاريخية التي دفعت الآلاف من مختلف أنحاء أوروبا للفرار إلى كازابلانكا – الدار البيضاء- بانتظار الحصول على فيزا إلى الولايات المتحدة، لاحقاً نعرف أن الشخصيّة الرئيسة كان من بينهم، وبعد هذا التقديم تبدأ الأحداث من نقطة مرتفعة للحبكة منسوبةً على الزمن الدرامي، إذ تعلن الشرطة المحليّة عن مقتل اثنين من سعاة البريد الألمان، وبحوزتهم رسائل رسمية خطيرة متعلقة بالجنرال ديغول، تبدأ الشرطة باعتقالات عشوائية تُظهر ظروف المكان، ثم تهبط طائرة تتعلّق بها عيون الناس،أحدهم يقول: يوماً ما سأكون على طائرة مثل هذه، في تأكيد على حلم الجميع بالمغادرة، عندما تُشرف هذه الطائرة على الهبوط، وذلك في الدقيقة السادسة من الفيلم، يظهر على ذيلها الصليب النازي المعقوف، بطريقة تُشبه هبوط طائرة هتلر في بداية فيلم انتصار الإرادة،
ولكن هنا في هذا الفيلم،يظهر في عمق الكادر، من وراء الذيل وبجانب المطار لافتة عليها كلمات كبيرة واضحة: ريك، وهو أوّل تقديم للشخصيّة الرئيسة في الفيلم، ومكتوب تحت اسمه: مقهى أمريكي، في إتلاف متعمّد للصورة الذهنية التي تقترحها المشاهد الافتتاحية من الوثائقي الألماني، اللقطة تقول:صحيح أن الطائرة نازية، ويمكنكم أن تضعوا الصليب المعقوف عليها، ولكنها تهبط في عالم هو لنا، ثلاث ثواني كانت كافية لذلك، فالقصّة عن الحبّ .  

الطائرة ينزل منها ضابط نازي، ويظهر الإيطالي كأضحوكة وكتابع للألماني، ومعهم الفرنسي، ليذهبوا إلى مقهى ريك، والذي يظهر في الدقيقة العاشرة، وهي الزمن الفيلمي المثالي لاقتراح "الطُّعم" القصصي؛ تظهر يده في لقطة كبيرة على كامل حجم الشاشة وهي توقع أمر صرف للكازينو، وإلى جانبها كأس، في إشارة إليه كرجل مُهيمن على الوضع وصاحب قرار، ثم تصل الرسائل التي كانت بحوزة القتلى الألمان إليه، عن طريق أوغارت الذي يطلب منه أن يخبئهم لديه لبعض الوقت، ولكن لماذا ريك وحيد، لا يثق بأحد، لا يشرب مع أحد، متجهّم، ومغرور في تعامله مع الأوروبيين؟ هل هذه سماته الشخصيّة أم هي سمات بلاده في علاقتها مع الدول الأوروبية؟

الحبكة الرومانسية الأولى تبدأ بوصول إلزا، حبيبة ريك الأوروبيّة، والتي اختفت منذ عامين عندما كانا في باريس، وقررا المغادرة بسبب بداية دخول الألمان؛ النازية بأكملها تظهر كمنغّصات للحب ليس إلّا، كسبب لفراق عاشقين، وذلك في ماضي انقضى، ويحضر الآن بفلاش باك يكشف علاقتهما الغرامية؛ تطلب إلزا منه في ذلك الفلاش باك أن ينتظرها في محطة القطار ريثما تأتي بأغراضها، ثم تصله منها رسالة ورقية بينما القطار على وشك المغادرة تطلب منه أن يذهب وينساها، لقد وصل إلى كازابلانكا وافتتح هذه الحانة، وإلى الآن لم يعلم عنها، وهي تصل بعد مرور كل ذلك الوقت، ولكن بصحبة زوجها، وعندما يسأل عن الأمر تخبره أنّها كانت متزوّجة خلال علاقتها معه، بل وقبل أن تعرفه، ولكن زوجها كان في الاعتقال أثناء حبهما في باريس، وكانت قد قطعت الأمل بعودته، ثمّ ظهر في نفس اليوم الذي انتظرها فيه ريك بمحطة القطار عندما قررا مغادرة باريس بسبب بدء الاحتلال النازي.

القصّة الفيلميّة تتجنّب إعطاء أهمية كبيرة للنازيين؛ إن إلزا تظهر في حانة ريك ليس فقط ليُصدم أنّها متزوّجة، ومنذ قبل أن تعرفه، بل إنّها تريد من ريك الذي لم يزل يحبها، تريد الرسائل الخطيرة التي وصلت إليه لتستعملها في المغادرة، تريد من حبيبها أن يصنع لها معروفاً بمساعدتها مع زوجها على الهرب، ثم تظهر في شقته، تطلب منه الرسائل، توبخه، تهدده بمسدّس، وأخيراً عندما لا تنجح تدّعي أنّها لم تزل تحبه، عندها يقرر مساعدتها، لأنه أشفق عليها وليس لأنه صدّقها، ولكن أين هم الألمان في هذا الرومانس المحض؟ الضابط الألماني "ستراسر" جاء إلى كازابلانكا لمراقبة فيكتور لازلو، زوج إلزا، وريك الآن سوف يساعد إلزا وزوجها بإعطائهم الرسائل، وتدبير مكيدة لهم من أجل المغادرة، الظهور الألماني في القصّة وقع على هامش إلزا، وهي الشخصيّة الداعمة، والشخصية الداعمة تكون على هامش الرئيسية من أجل استجلاب ملابسات العقبة، ما يعني أن الضابط ستراسر الآن، شخصيّة على هامش لازلو زوج إلزا، الألماني إذاً على هامش الهامش.

وقبل ذلك أدّى مقتل اثنين من سعاة البريد الألمان، وسرقة الرسائل التي بحوزتهم، ووصولها إلى ريك عن طريق أوغارت الذي سيُقتل عمّا قليل فتبقى الرسائل مع ريك، أدّى إلى توفير الرسائل كغرض قصصي مُشارك في الحدث – مثل المعطف في قصّة غوغول، أو الدراجة في فيلم دوسيكا – الرسائل سوف تكون سبباً في حاجة إلزا إلى ريك، السعاة الألمان وقد قُتلا، كانا أيضاً سبباً بعيداً لتزويد القصّة بأغراض الحبكة، هكذا إذاً تعرّض كل ما هو ألماني للإقصاء، والتّصغير، والتقليل من الشأن، لم يُسمح لهم بالاقتراب من القصّة إلّا في: ماضي القصّة، عقبة للشخصية الثانوية، مبرر بعيد للحصول على الأغراض القصصية.

وغير ذلك فالأمر كلّه رومانس وتضحية من عاشق لحبيبته، ولكن من هي هذه الحبيبة ؟ إنّها إلزا الأوروبية، التي عرفها في باريس، والتي خذلته في الماضي؛ أو: أوروبا التي خذلت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى، لقد أخذوا منها المساعدة دون أن إعطاء مقابل، وها هي الآن في الحرب الثانية تطلب – إلزا الأوروبية- المساعدة من الأمريكي ريك، في النهاية يساعدها على الفرار مع زوجها، في مكيدة يتجاوز فيها بسهولة الضباط: الألماني والفرنسي والإيطالي، هم لا يعنوه، بل يريد فقط تهريب حبيبته وزوجها، في تضحية انسانيّة كثيفة المعاني.

 لقد نجح صنّاع هذا الفيلم الروائي في مواجهة البروباغاندا الوثائقيّة، وكشّروا عن أدواتهم ومهاراتهم بفنّ القصّ الموروث في ثقافتهم منذ شكسبير وديكنز وستيفنسون، فكيف فعل صانعوا الفيلم الروائي " فانية وتتبدّد" في مواجهة بروباغاندا داعش الوثائقية؟.

الشخصيّة الرئيسة في القصّة الفيلمية – بطل الفيلم – هو "أبو الوليد"، الأمير الداعشي؛ داعش إذاً في البطولة، إنّ تحديد الشخصية الرئيسيّة للقصّة الفيلميّة – عندما يتعذر اكتشافها – يكون بثلاثة طرائق، الأولى بإحالة القصّة إلى مختصرها، والثانية بمساورة الحبكة وفق الزمن الدرامي المعبّر عن الزمن الواقعي، والثالثة بالنظر إلى النّهاية وفق سؤال: أي شخصيّة تلك التي كانت نهايتها هي نهاية للقصّة نفسها، دون إغفال أنّ هذه الطريقة الثالثة يجب أن تتجنّب مسألة النهاية المغلقة السعيدة التي تعتمد على موت الشخصيّة المضادة، وانتصار الرئيسة، عندها ليست المضادة هي التي تحدّد النهاية كشخصيّة، بل كعقبة زالت من أمام الرئيسة.

بالنسبة للمُختصر، فهو هكذا: "أبو الوليد"، أمير داعشي يُهيمن على منطقة، ويقوم بقتل مناوئيه، صلباً وحرقاً، ويمارس جنوده إقصاءً فكرياً ومعرفياً في المكان الخاضع له، يُعجب بقدمي فتاة صغيرة فيتزوّجها، ولكنّه يتعرّض لمكيدة من رجله أبي دجانة، الذي ينقلب عليه، فيشترك في خطة لإنقاذ الأم وابنتها، على طريقة حصان طروادة، وذلك بشاحنة يُفترض أنها تحمل ذخيرة، غير أنّها تحمل مقاتلين من النصرة، مما يسهّل على الجيش أخيراً اقتحام المعسكر.

بصرف النظر عن مستوى هذه القصّة،غير أنّ هذا المُختصر هو المعبّر عن القصّة الفيلمية، لأنّها ليست عن: طفلة صغيرة،تعاني التضييق من والدتها المعلّمة التي تفرض عليها النقاب، فيُعجب الأمير بقدميها، ويتزوجها، ثم أخيراً يهربان معاً بمساعدة أبي دجانة، وليست عن: معلمة تعاني من اختطاف أمير داعشي لابنتها، 

الاحتمالان الأخيران لا يصلحان لتسمية الطفلة أو أمّها كشخصيّة رئيسة، فهما معاً تقتربان من تشكيل حبكة داعمة، على هامش حبكة رئيسة واضحة يؤسسها أبو الوليد وأبو دجانة، كما أنّ الأم والطفلة كانتا لإيضاح القمع الجنسي للنساء في عالم داعش، ولإجراء بعض الحوارات الضرورية للقصة، والمُختصر ليس عن: أبو دجانة،يحسم أمره بالانقلاب على أميره بعد زواجه؛ أبو دجانة هذا شخصية مضادة للأمير، كما أنّها ليست عن جندي يتمكن من تخليص شقيقته الصغيرة، لأنّ الجندي في القصّة شخصيّة ثانويّة .

بخصوص علاقة الحبكة والزمن الدرامي، فإنّ المرحلة الأولى، والتي هي العالم العادي للشخصيّة، محذوفة من البناء، وهذا إجراء تتبعه كثير من القصص الفيلمية، بهدف البداية من نقطة مرتفعة في الحبكة، ولكن بعد ذلك فإنّ المراحل الخمسة التالية تنطبق على أبي الوليد؛ مرحلة نداء المغامرة عند الإعجاب بقدمي الطفلة، مرحلة رفض النداء عند التفكير بالأمر، مرحلة لقاء المعلّم يؤمّنها رجل الدين، مرحلة اجتياز العتبة الأولى – بداية الحبكة الأولى -عند الحصول على الفتاة،مرحلة اختبار الحلفاء والأعداء في حواره مع مساعديه أمام السبايا، وفي الاستماع لرجل الدين،مرحلة الكهف العميق- المزيد من التورّط – يحقّقها انقلاب أبي دجانة عليه، ثمّ تأتي مرحلة المحنة الكبرى- الذروة -  بدخول الجيش وفرار أبي الوليد، 

هُنا ينتهي الفيلم، في المنتصف، فلا تظهر المراحل اللاحقة: مرحلة اختبار أسباب القوّة، مرحلة بداية النهاية، مرحلة العودة، مرحلة انكشاف معاني الموضوعة؛ إنّ الشخصيّات الباقية كلّها لا تحققّ ما يحققه "أبو الوليد" من تطابق بين شخصيّته وبين المراحل الزمنية الخمسة الأولى للبناء، ما يجعله أيضاً وفقاً للبناء هو الشخصيّة الرئيسة. 

أمّا عن نهاية الفيلم وليس القصّة؛ فإن فرار "أبي الوليد" هو الذي حدّدها، لم يفعل ذلك على أساس مغادرة الشخصيّة المضادة لعالم القصّة، فليس هناك اقتراح بشخصية أخرى يكون هو مضادة بالنسبة إليها، إنّه كشخصيّة شريرة بالمطلق تنطبق عليه سمات الشخصية المضادة  "the Antagonist" وهذه مشكلة كبيرة أيضاً في القصة بجعل الرئيسة "the Protagonist" والمضادة شخصية واحدة.

إنّ فراره كزعيم بالمعنى الكلاسيكي للقصّ القائم على شخصيّة متزعّمة – منذ جلجامش إلى مآسي شكسبير الخمسة الشخصيات الرئيسة ملوك أو قادة أو أنصاف آلهة – وذلك بعد قيامه بارتداء ملابس نسائيّة، يحقق أيضاً نقطة تحوّل الشخصيّة، هُنا على مستوى الشكل والأزياء، وعلى مستوى سمات الشخصيّة أيضاً، فهو لم يعد الزعيم الآن، بل صار ملكاً طريداً، وذلك يؤكّد أيضاً أن الفيلم توقّف في الذروة، فنقطة تحوّل الشخصيّة عادةً تأتي إمّا في الذروة، أو قبلها بقليل، أو بعدها بقليل .

 

الاستسهال بعملية الكتابة، وإهمال سؤال ماذا تعني القصّة الفيلميّة، والقصّة على العموم، والاستخفاف بأبسط شروط السرد الفيلمي، وتجاهل البناء الأرسطي الدرامي، ليس ذلك كلّه ما أدّى إلى نقاط الضعف السابقة، بل مسألة أخرى: إنّ القصّة أيّة قصّة، منطوقة، مكتوبة، مؤداة على خشبة، أو أمام كاميرا، كيفما ظهرت فإنّها تقع في الماضي، لا يُمكن لقصّة أن تقع " الآن" ما يقع الآن هو "النبأ " ولم يكتمل بعد ليصبح " خبر" وهذه "الآن" المتعلقة بالزمن الواقعي للقص شيء آخر غير تلك"الآن" المعروفة في المعادلة الدرامية الشهيرة ( أنا،الأخر،هنا،الآن) الآن الأخيرة في المعادلة الرباعية تختصّ بزمن عرض العمل الدرامي، وبسؤال لماذا نعرض هذا العمل تحديداً "الآن" ، والذي قد يتناول قصة تعود لقرون خلت ولكنّها تتقاطع مع معطيات الحاضر.

الآن الذي لا ينبغي للقصّة أن تقع فيه هو تاريخ أحداث القصة، والذي يجب أن يكون في الماضي، إن السرد القصصي يفترض تقدمة شيء إلى شيء، يؤتى به متسقاً، بعضه في إثر بعض، متتابعاً، ويعني أنّه يتضمّن أزمنة أقدم وأخرى أحدث، وينتهي أخيراً، ويفصلنا عنه لحظة تقع بين الزمن الذي نحن نشاهد فيه وبين زمن القصّة، ما يجعل حتّى القصص المستقبلية –التي تقع فرضياً في المستقبل– تقترح أنّ الجمهور أيضاً في ذلك المستقبل، ويشاهد بعد انتهاء القصّة بقليل.

إنّ تناول الفيلم بطريقة مباشرة،وعلى مستوى الشخصيّات الرئيسة والصراع، لأحداث ما انفكّت تقع الآن، جعل الفيلم ينتهي دون نهاية للقصّة :فرار الأمير الداعشي، فمن غير الممكن اقتراح نهاية لهذا " الآن" الذي لم يزل يحدث، وهو الحرب ضدّ داعش، فنهاية ذلك تكون في المستقبل.

طريقة كازابلانكا في التعامل مع "الآن" وهو الصراع مع النازية، والذي لمّا يكن قد حُسم في زمن القصّة أو زمن العرض، 

كانت بجعل ذلك الآن فقط في الظروف، وعبر شخصيّات تنسحب بعد ظهور واختفاء سريع لها على هامش الشخصيّات الهامة، ثم تنتهي القصة بنجاح ريك في تهريب إلزا وزوجها، ما يعني نهاية لحبكة القصّة التي هي رومانسية، لقد عادت إلى زوجها، وانتهت علاقته معها، وعاد هو إلى المقهى وحياته وتفاصيلها التي لم تزل النازية حاضرة فيها،التاريخ كان هو الأرضية، والحبكة القصصية هي الشكل الذي انتهى، ما يعني أنّ القصة انتهت واستمرّت ظروفها، وهذا واحد من تعريفات النهاية المفتوحة للقصّة.

تلك كانت أهم تجربة في تاريخ الفيلم عن روائي حاول أن يواجه بروباغاندا وثائقيّة؛كازابلانكا ضد إنتصار الإرادة، الرومانس في وجه ماكينة إعلاميّة جبارة،فماذا كانت أدوات وتقنيات فانية وتتبدد في مواجهة أدوات وتقنيات داعش

لقراءة الجزء الثاني من الدراسة اضغط هنا