2013/05/29

درامـا الأثـر المتواصل بوفيه بصري مفتوح على كل أنواع الفرجة!
درامـا الأثـر المتواصل بوفيه بصري مفتوح على كل أنواع الفرجة!


سامر اسماعيل – تشرين

أيضاً يمكننا النظر في الأثر الذي تركته لنا الدراما السورية من أثر اجتماعي على مشاهدها المحلي والعربي

ولغياب مراكز أبحاث اجتماعية وإعلامية قادرة على القيام بهذا الدور، يمكن الركون إلى مواجيزها البحثية، لا أستطيع أن أمضي بعيداً في مناقشة هذا الأثر إلا عبر ما شاهدته شخصياً، إذ أجد نفسي مضطراً قبل ال خول في تشريح أثر الدراما السورية على شرائح واسعة من الجمهور، أنحاز إلى تفنيد مصطلح «الدراما السورية» هذا المفهوم الذي يستخدمه الكثيرون للتدليل على قائمة طويلة عريضة من الأصناف المعروضة على مائدة الفرجة التلفزيونية، سواءً من جهة وسائل الإنتاج التي تضخ أموالها في هذا القطاع، أو حتى من جهة سوق المشاهدة العربي، والذي يسهم في جُلِّ ما أتنتجه شركات المنتج المنفذ داخل سورية وخارجها، ولهذا أراني مكتفياً بلحظة حاسمة من لحظات تراتبية هذا المعمل الضخم، والمتعدد في آرائه واتجاهاته من حيث «صناعة» الساعة التلفزيونية، وهي لحظة التلقي، لا لحظة الإنتاج، معتقداً أن هذه اللحظة هي اللحظة الأكثر امتداداً في ذهنية المتفرج على اختلاف مشاربه و اهتماماته.

من هنا يبدو لي أن ما يسمى بـ«الدراما السورية» غير خاضع مثله مثل أي منتج بصري عربي لمعايير فنية معينة، لا من حيث اختيار النصوص ومخرجيها، ولا حتى من حيث جودة اليد العاملة فيها فنياً وتقنياً وجمالياً، فالجميع يعرف أن شركات القطاع الخاص المستقلة منها والمنفذة، هي شركات تعمل بدافع الربح والتسويق لمسلسلاتها على أثير الفضاء النفطي المزدحم هو الآخر بأطايب الوجبات السريعة، والمعمولة وفق مزاج ربحي خالص، من دون التفكير بالمشاهد كمتلق يستقبل ولا يرسل! فالمتلقي العربي يأكل من كل الصحون، يدلف إلى الشوربة والحلويات، قبل حتى أن يعرف شيئاً عن صحنه الرئيسي ومقبلاته، وللإفادة من استعارة الطعام هذه في تفنيد مزاج الفرجة العربية ما علينا إلا تذكر حجم البرامج الاستهلاكية التي تبثها الأقمار العربية، والتي تعد الساعة التلفزيونية من أهم وجباتها المُعلنة على مدار اليوم، ليتضح لنا أن استراتيجية البث التي يتحكم بها المال العربي الجاهل ما هي إلا تنويعة أطباق من حواضر البيت، تنويعة لا تعتني إلا بمقايسة أطباق الـ«take away» والتي تهتم أولاً وأخيراً بمزاج كبت الأذواق وتنوعها، بل تصادر ذائقة المتلقي وذوقه في آنٍ معاً.

طبعاً لا يعني ذلك انعدام توابل مبهجة مرافقة للصحن المنتقى، بل هناك العديد من «المطاعم-القنوات» تدأب لتوفير منكهات عدة مضافة، وخدمات مجانية للمتلقي، مع توفير مطويات بصرية في كل لحظة عن تشكيلة مطابخها العملاقة، فهناك الخليجي، والسوري والمصري، والتركي والهندي المدبلج، وهناك نشرات فنية غزيرة عن وفرة عارمة، لكن وكما أسلفت من غير الانتباه إلى رغبات المشتري، وهذا عائد ببساطة إلى أن هذا الزبون متوافر على الهواء مباشرة على مدار الأربع والعشرين ساعة، وهو زبون مدلل من دون أن يدفع فلساً واحداً، إذ ليس على هذا الجمهور-الزبون إلا أن «يأكل»-يتفرج وفقاً لقاعدة «نحن نعرف ماذا تحب، ولن نصادرك لأننا نملك كل ما تشتهيه»! ولهذا وذاك تنفذ «الدراما السورية» كل ما يتطلبه سوق «الأكل» ويمكن لمخرجين وكتّاب ومصورين وفنيين ليس لهم علاقة بحرفة الدراما التلفزيونية أن يأتوا من الشارع للتنطح فيما لا يعرفون، فالمطبخ واسع، وبإمكان أي شخص له علاقة وقرابة دم أو عشيرة مع شركات الإنتاج التي يسيطر عليها «في معظمهم» جماعة من الأميين أن ينصّبوا مساعد ملابس أو منفّذ إضاءة «كطباخ أول» سواء على طاولة المأكولات الباردة أو الساخنة، التاريخية-الدينية، أو المعاصرة-الاجتماعية، أو الكوميدية الساخرة والشعبية الفضائحية.. فما دام «الشيف جنرال» هو بالأصل كان يعمل في جلي الصحون قبل أن يصير مخرجاً، واستطاع بقدرة قادر انتزاع أحقيته المالية في إشرافه على «الطبخ» وحجمه ومكوناته، فلا ضير من إشراك مجموعة من العقول الجاهلة في فلفلة الوجبات وتتبيلها، في حين يعرف هذا الطباخ الأول المدعوم من أصحاب شركات «الكبسة» أن إغراق الحلة بالسمن الحيواني العربي قادر على إسالة لعاب «الأكيلة-المتفرجين» لتتحول ما تسمى بـ«الدراما السورية» في معظمها عبارة عن أكلات سياحية محضة، تدأب في نهاية الأمر لإقناع متذوقيها على قنوات «الكبسة» الآنفة الذكر، يدعمها بذلك توخي عدم الانخراط في القُطرية البصرية، إلا من باب التعريف بشهية المادة المعروضة، والمصنّعة مسبقاً على مزاج شركات الطبخ الخليجي.

دراما نهلت في جميع مقاديرها من استعارة المطعم المحلي، فقدمت الصورة الشامية على امتداد هذه الكلمة، لكنها تبنت قوائم سياحها، واندمجت مع رغباتهم، دون أن تعير شأناً في معظم ما قدمته للمتفرج المحلي، فهي تنسف تراثاً بأكمله من أجل ما طُلب منها، لتصير الشخصيات الوهمية رمزاً من رموز التراث العربي الإسلامي، كيف لا والشيف جنرال هنا هو «تلفزيون قطر» وشبكة الـ«mbc » السعودية، فيما عملت خبرات وطنية -كأيدٍ منفذة- على التماهي مع كل ما ُطلب منها من منكهات، بالعزف مرةً على وتر «الأمة الإسلامية» ومرةً على إصلاح ذات البين! محيلةً كل شيء عبر نص «محمود الجعفوري» ونص «وليد سيف» وبإخراج كل من حاتم علي والمثنى صبح إلى نكوص نحو دراما دينية، فلم تكن المدينة العربية بحاجة، لاسيما في هذا المرحلة إلا لهذا النوع من الفرجة حتى يتم الإجهاز على كل ما من شأنه الصعود نحو فضاءات تنويرية تعزز الشعور بالمدينة أولاً، لا بالقبيلة ولا بكل ما هو تحت مرتبة الدولة.

طبعاً لا ننسى أن أطباقاً أخرى واصلت ما كانت قد بدأته منذ سنوات، فهناك دوماً أجزاء أخرى من «باب الحارة» و«ليالي الصالحية» و«صبايا» و«أبواب الغيم» و«الولادة من الخاصرة» و«زمن البرغوت» كاستمرار ممنهج لتخريب الذائقة، والاستسلام نهائياً لمزاج «الكبسة» كطبق رئيس في قائمة الأعمال المرغوبة!.