2012/07/04

دراما القضية الفلسطينية .. بين مطرقة الهاجس الوطني .. وسندان تجارة المنتجين
دراما القضية الفلسطينية .. بين مطرقة الهاجس الوطني .. وسندان تجارة المنتجين

  محمد رضا – دار الخليج في حين أن المخرج الإيراني عبّاس كياروستامي قدّم فيلمه الأوروبي الخالص “نسخة مصدّقة” أو “نسخة طبق الأصل (يعتمد ذلك على إذا ما كانت الترجمة عن العنوان الإنجليزي أو الفرنسي) وتمتّع بمعاملة المخرجين المشاركين في المسابقة من استضافة وحفاوة ومؤتمر صحافي وتألّق، يقبع زميله جعفر باناهي في أحد السجون الإيرانية منذ نحو شهر من دون بارقة أمل في الإفراج عنه على الرغم من اعلانه، مطلع الأسبوع، بأنه دخل إضراباً عن الطعام . جعفر باناهي ليس فقط مخرج أفضل شأناً من عبّاس كياروستامي بسبب استخدامه قواعد الفيلم اللغوية استخداماً صحيحاً، وقدرته على إثارة الدراما الكامنة في حكاياته باستخدام مبسّط لعناصر الفيلم، بل هناك حقيقة أن كياروستامي يعيش الآن في أوروبا، كانت لديه الفرصة أن ينجز عملاً يكون بداية جديدة تماماً له بعدما سنحت له الفرصة في ايجاد تمويل كاف لفيلمه الجديد ذاك . المشكلة التي يجد نفسه فيها الآن كانت متوقّعة: لقد حلّق في الأعوام السابقة في سماء الإعلام الغربي، وبعض العربي، عالياً من دون أن تتمتّع أفلامه بالأسس الفنية الحقيقية كالتي تعرفها أفلام جعفر باناهي . وسواء أكان ذلك يرجع لمهارة كياروستامي في تسويق نفسه، أو إلى تراخي النقد الغربي لمرحلة الإندهاش من كل جديد حتى ولو لم يكن سوى إدعاءات في الأسلوب ووصف ذاتي بالأهمية، الا أن النتيجة أن المخرج الذي كان بحاجة إلى تكاتف النقاد والسينمائيين العالميين للمساعدة لم يكن كياروستامي في موقعه الآمن، بل باناهي الذي كان آثر البقاء في وطنه ولم يغادره كما فعل كياروستامي ومحسن مخملباف . هذا علماً بأن مهرجان “كان” اختاره عضو لجنة التحكيم تعزيزاً لمكانته . هذه صورة داكنة للعالم الذي نعيش فيه وهي الصورة المنتشرة في ربوع معظم الأفلام التي شاهدناها في هذا المهرجان: روبِن هود -فيلم الافتتاح- ليس روبِن هود الذي عرفناه، بل شخصية تعيش بمشاعرها وحوافزها الفكرية . والبطل المريض الذي يعاني من انهيار البيئة من حوله في “جميل” والحياة ذات الأوصال المتقطّعة والشخصيات الوحيدة في “عام آخر” وكذب البيت الأبيض والمؤسسات الغربية التي اشتركت في مأساة العراق الحالية في “لعبة عادلة” و”طريق أيرلندية” هي من بين اللوحات التي تم تقديمها كل تأخذ جانباً من العالم الذي نعيشه حتى ولو غاصت في التاريخ البعيد له لتعكس ما فيه . وهي إذ تفعل ذلك عليها أن تلتزم باللون السائد في تلك الصورة وهو لون داكن ناتج عن الإحباط والتخبّط والفشل في إيجاد حلول عادلة . الموضوع العربي شغل السينما على شاشة كان في دورته الحالية التي تشارف على نهايتها . فلسطين في بال المخرج السويسري الكبير جان- لوك غودار . حرب العراق في “طريق أيرلندية” و”لعبة عادلة”، وحرب الاستقلال الجزائرية التي خاضها المهاجرون الجزائريون في فرنسا في فيلم “الخارجون عن القانون” لرشيد بوشارب . حتى “روبِن هود” ألقى نظرة محددة إلى الشرق العربي حين أدان المذابح الصليبية في عبارة واحدة لا تفوت المشاهد يذكّر فيها أن الغزاة قتلوا 2500 مسلم في مذبحة خلال حصار عكّا . الصوت الوحيد الذي يسجّل غيابه عن الاشتراك في صياغة هذه اللوحة الشاملة أو عن الحديث عن الوضع السياسي الآني لتقديم وجهة نظر مشرقية في هذا الصدد هو صوت عبّاس كياروستامي الذي آثر تحقيق فيلم مثرثر من بطولة شخصيّتين تتعارفان في بلدة صغيرة من مقاطعة توسكاني الإيطالية وينطلقان قاصدين بلدة أخرى . قبل الطريق ثم خلاله وبعده، ثرثرة كلامية لا جدوى منها كما حال الفيلم بأسره . لكن للإنصاف، لم يخرج كياروستامي من قبل ما أخرجه سواه (مخمالباف أو ابنته سميرة أو جعفر باناهي) أفلاماً تطرح أوضاعاً سياسية أو حتى اجتماعية دالّة، وحين أتيحت له الفرصة في فيلم “أ بي سي أفريكا” وجدناه يستغلّها للحديث عن نفسه ومشاعره الدافقة تجاه ضحايا الآيدز في فيلم موّلته الأمم المتحدة لتناول ظاهرة انتشار المرض بين الأطفال فلتقّفت عوض ذلك عملاً يتحدّث فيه المخرج عن عمله هو في هذا الصدد . عربياً، غابت السينما تماماً وبدا الأمر مثل جزء من الصورة مفقوداً أو تم تعتيمه بالأسود فبقي كذلك بين الصور القادمة من شتّى أنحاء العالم . السينمائي العربي الوحيد الذي أتاح لنفسه فرصة الاشتراك هو الجزائري الأصل رشيد بوشارب مخرج “خارجون عن القانون” الذي أثار، قبل عروضه، نقاشاً طويلاً وحادّاً بين السياسيين اليمينيين من جهة والسينمائيين من جهة أخرى . فالطرف الأول سمح لنفسه باعتبار أن الفيلم كاذب ومتجن على البوليس الفرنسي من خلال موضوعه الذي يتحدّث عن مواجهة بين المقاومة الجزائرية ومنظمة “اليد الأحمر” التي عمدت إلى الترويع والإرهاب في حربها ضد تلك المقاومة . هذا الموقف تم اتخاذه من قبل أن يرى أحد من المحتجّين لقطة واحدة من الفيلم . في المقابل، دافع سينمائيون فرنسيون عن فيلم بوشارب ليس بكيل المديح له ولمخرجه، بل بمجرّد التذكير بحق كل فرنسي أو مقيم التعبير عن رأيه بكل حريّة . أمر يبدو أن المتطرّفين الأشاوسة نسوه ونسوا معه أن هذا الحق مضمون في قانون البلاد . الفيلم الجديد “خارجون عن القانون” يتحدّث عن موضوع أكثر تمدداً على خارطة العلاقة بين العرب المهاجرين وبين الفرنسيين، فهو يبدأ من حيث انتهى الفيلم السابق . محاربون قدامى زائد مهاجرون جدد يحاولون التعامل مع وضع مستجد هو الاحتلال المتمثّل بالاستعمار الفرنسي للجزائر . وهناك مشاهد أولى تبيّن بذور هذه الدوافع: مظاهرة جزائرية سلمية (في الجزائر) تتصدّى لها قوّات البوليس والجيش والمواطنون المسلّحون (صورة طبق الأصل عما يدور في فلسطين حين يشارك المتطرّفون اليهود في أعمال العنف ضد الفلسطينيين) وترتكب بحقّهم مذبحة كبيرة . إنها بذرة لرد فعل من الحجم ذاته أبطالها ثلاثة أشقاء (سامي بوعجيلة، رشدي زم وجمال دبّوس) أحدهم عائد من الحرب الإندوصينية (كما يسمّون الحملة الفرنسية التي جرت في جنوب شرق آسيا في الخمسينات) والثاني خارج من السجن الفرنسي والثالث يريد تحقيق الجاه والمال عبر أساليب سهلة لا نضال فيها، ولو أنه سيقوم بنصيبه في تمويل العمليات العسكرية التي سيقوم بها شقيقاه ومجموعتهما من المناضلين . إنه فيلم جيّد خصوصاً في تلك النواحي الوطنية التي لا غٌبار عليها . يقدّم مادته من دون تنازلات تهدف لإرضاء الفرنسيين فيصوّر عنف البوليس وإرهابه ويكفي أنه يقدّم مقارنة بين أهداف المناضلين العسكرية فقط، وأهداف القوّة الأمنية البوليسية التي استهدفت المدنيين أيضاً بإعلان رئيسها بأنه سيعمد الى ذات المنوال الذي تتبعه المقاومة في أعمالها . لكن ما يغشى فيلم بوشارب أن المخرج لا يملك أسلوباً خاصّاً به بل يرصف المشاهد كما لو كانت صفعات من الكلمات والصور . طريقة الأفلام التي لا تريد أن تترك للمشاهد مجال الاستقبال الهادئ والمستقل بل تندفع في محاولتها تكوين الرأي له . المواقف على أهمّيتها تمر عابرة مصحوبة بمنحى تقريري لا يؤلّف دراما ولا يمنح الشخصيات الا الظاهر من المشاعر على نبلها الفيلم الآخر الذي تعاطى والموضوع العربي هو “لعبة عادلة” للمخرج دوغ ليمان وبطولة ناوومي ووتس وشون بن وتمويل غالب من شركة إيماجناشن في أبو ظبي . المشروع هو أفضل ما انتجته الشركة حتى الآن وأكثرها امتلاكاً لعناصر النجاح تجارياً . وهو أيضاً أفضل أفلام المخرج دوغ ليمان إلى اليوم، ولو أنه ليس بالجودة بحيث يمكن اعتباره وفيلمه جديرين بالسعفة حين توزّع . يدور الفيلم بأكمله حول قضية عميلة السي آي أيه فاليري بلام ولسون (ناوومي ووتس) التي كانت في صدد استخدام أمريكية من أصل عراقي (ليزاز شارهي) لإقناع أخيها حامد (خالد النبوي) بالكشف عما يمكن كشفه من أسرار العراق النووية مقابل تأمين هروبه من العراق وذلك سنة 2003 أي قبيل قصفها واحتلالها من قِبل الجيش الأمريكي . في الوقت نفسه كان زوجها السفير السابق جوزف ولسون (شون بن) في النيجر يكتشف أن أحداً لم يبع النظام العراقي آنذاك اسطوانات نووية (تسمى بالكعكة الصفراء) كما زعمت الإدارة الأمريكية حينها . وعاد إلى الولايات المتحدة وأصر على كشف الحقيقة متّهما الإدارة بالتلاعب وإعداد العدّة لضرب العراق بصرف النظر عن عدم وجود ما تدّعي وجوده من قوى نووية . صوته يصل إلى واشنطن ويؤثر ذلك سلباً في عمل زوجته التي تفاجأ بأن السريّة خلعت عنها وباتت معروفة حول العالم كعميلة للسي آي أيه . تحاول إنقاذ حامد وعناصر أخرى لكن ادارة السي آي أيه تمنعها من الصلاحيات والمحنة تنتقل من العمل إلى البيت حيث تحاول فاليري إقناع زوجها بالكف عن الحديث عن كذب الإدارة الأمريكية . وثمّة مشهد جيّد آخر في هذا الصدد هو المواجهة بينهما حين يصرخ في وجهها: أنا لم أكذب، البيت الأبيض هو الكاذب . لاحقاً ما تلتقي وأبيها الذي حارب في فيتنام وهو يعرف ما لاتعرفه بعد عن اللعبة التي يمارسها السياسيون .