2013/05/29

 	رحل صميم الشريف الموسيقا والأغنية والقصة...أعطى الموسيقا العربية حياته وعشقه وأعطته الرحيل الحزين
رحل صميم الشريف الموسيقا والأغنية والقصة...أعطى الموسيقا العربية حياته وعشقه وأعطته الرحيل الحزين

اسماعيل مروة – الوطن السورية

قامة أدبية وفكرية فنية مهمة تغادرنا وتتوجه إلى العالم الآخر، تاركة إرثاً عظيماً في ميادين عديدة منها النقد والإبداع والموسيقا، صميم الشريف الأستاذ المبدع المميز رحل عن دنيانا في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، ولم يمهله القدر ليدخل عاماً جديداً يتم فيه رحلته الإبداعية..

صميم الشريف كان صديقاً حقيقياً وملازماً لمختلف مناحي الحياة الثقافية والفكرية والفنية. ويعد الشريف واحداً من الشخصيات الموسوعية القليلة والنادرة في عصرنا الحاضر، ومن هنا كانت خسارة الساحتين السورية والعربية الثقافية والفنية كبيرة برحيله، فالشريف لم يكن محصوراً بخبرته وجهوده بالجانب السوري، بل كان دارساً فنياً وموسيقياً عربياً وتراثياً قلّ مثيله.

عمر حافل بالعطاء

المكتبة الإذاعية والتلفزيونية السورية تحفل بالعديد من البرامج والساعات الفنية والموسيقية لصميم الشريف، الذي يكاد يكون أهم الناقدين الموسيقيين في سورية، وخاصة أنه لم يقصر معرفته على نوع واحد من الموسيقا، إذا كانت برامج الصديق الراحل فاهيه دمرجيان منارة كلاسيكية في إعلامنا، وكانت برامج الشريف تتناول الموسيقا الشرقية، والغناء والأصوات، وهو الذي قدم، وبصوته في أحايين كثيرة تحليلات عن صنوف الغناء العربي من القصيدة إلى المونولوج والطقطوقة، وقد أسهم في توثيق وأرشفة الكثير من التراث الغنائي العربي، وصنفه حسب نوعه حيناً، وحسب موضوعه، وأرشف تسجيلات التلفزيون السوري وحفلاته، فكانت برامجه الأسبوعية التي لم تتوقف إلا مؤخراً كنزاً من كنوز التراث الموسيقي العربي، دون أن يغمط حق أي مطرب أو نوع من الغناء ففي برامجه استعاد الشريف وأعاد الأغنيات الشعبية التي كانت دارجة، فكان لكل اسم مهما اختلف الناس حوله دور في التكريم والتقييم من سميرة توفيق إلى نجاح سلام وموفق بهجت وغيرهم من المطربين الذين كانت وقفاته معهم تكريماً لائقاً، وتقديراً لإسهامهم في صنف من صنوف الأغنية العربية الشعبية.. وهو في الوقت نفسه استعاد أغنيات الأساطين وموسيقاهم، وأغنيات الطرب ومبدعيها، فقد كانت برامجه ناطقة وحية وغير استعلائية، وهو في كل ذلك كان الخبير العالم في الموسيقا وشؤونها الذي يعطي كل جهد حقه ومكانته التي تليق به، ولم يشأ، وهو الخبير المتذوق أن يقف إلى جوار ذائقته الطربية العالية على حساب الفنون الأخرى.

أقف عند هذه القضية لأهميتها، فكثير من النقاد الذين لا يملكون عشر معرفته النقدية كانوا ينظرون نظرة استعلائية تجاه الفنون الشعبية والتراثية والطقطوقة، وقد كان له إشادة مهمة بتجربة المطربين السوريين الشعبية، وشجعهم كثيراً، وقدم أغنياتهم في برامجه منتقداً وموجهاً في إطار سعيه للتأسيس لأغنية سورية كان يريدها أن تكون، لكن الأغنية ذهبت جانباً، وبرامجه في الذائقة الموسيقية توقفت أو تحولت إلى قناة أرضية، وكان وقتها ميتاً لا يتابع! فضاعت جهود هذا الموسيقي المؤرخ، وقلّما تجتمع صفتا الموسيقي العارف والمؤرخ الكاتب في شخص كما اجتمعت في صميم الشريف، حتى صار اسمه ملازماً للموسيقا والأغنية في سورية والعالم العربي، ولرأيه قيمة كبيرة عند أغلب الموسيقيين والمطربين العرب الذين يقدرون علم الموسيقا ويحرصون عليه، لكن صميم الشريف غاب في السنوات الأخيرة عن الساحة الفنية والإعلامية فلم يفتقده الذين جهلوا خبرته ومكانته، ولو ذكر أمامهم اسم صميم الشريف، فإنهم لن يعرفوا شيئاً عن علمه وتاريخه!!

الموسيقا وتأريخها

لم يقتصر عمل صميم الشريف على البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الموسيقا والغناء، بل كان محاضراً دوماً في أمسيات الموسيقا، متحدثاً عن الموسيقا وأهميتها، موجوداً في المؤتمرات والمنتديات، ممثلاً الذائقة النقدية المحبة التي لا تعرف كره أي شخص، وإن اختلف معه في الرؤية، وكذلك لم يكن صميم الشريف إعلامياً موسيقياً وحسب، بل كان مصنفاً، فإضافة إلى سعيه الدائم لنشر الموسيقا الراقية والأغنية الجميلة في الإعلام قدم الشريف مؤلفات مهمة في الموسيقا والأغنية منها: الأغنية العربية تناول الأغنية العربية وتاريخها وفنونها، وهو بذلك قدم مؤلفاً مهماً في الوقت الذي تتهافت فيه المؤلفات والكراسات التجارية التي تعمل على تشويه الأغنية والمغنين على السواء، لكن الشريف عمل على مؤلف له وزنه وروحه، ومن مؤلفاته السنباطي وجيل العمالقة الذي أرخ فيه للموسيقا العربية وأعلامها، ومنها أساطين الموسيقا العالمية.. وفي هذه المؤلفات ظهرت معرفة الشريف التي كانت ذات طيف واسع، من العالمية والكلاسيكية، إلى الطربية العربية، إلى أساطين النغم العرب يتقدمهم السنباطي ومعرفته العميقة ومناهله الموسيقية الشرقية والعالمية، وكذلك الأغنية العربية بمختلف أنواعها وتعدد مطربيها، وهذا ما أشرت إليه من معرفة موسيقية ليست إلى جانب دون آخر، فقد أرّخ لكل جانب من جوانب الغناء الكلاسيكي والشعبي، والأغنية الطربية، والموسيقا الكلاسيكية العالمية.. إنه صميم الشريف الذي حمل الموسيقا والأغنية في روحه ودمه وانحاز إليها انحيازاً تاماً.

الإيمان بالموهبة

أذكر ما كان صديقي المبدع صفوان بهلوان يرويه من ذكريات عطرة عن صميم الشريف، وكان يذكر له على الدوام إيمانه بتفوقه الموسيقي والغنائي معاً، وقد بقي الشريف متحمساً وداعماً لموهبة بهلوان العالية، وقد تحدث كثيراً وفي كل جلسة عن صفوان وتفوقه الغنائي، وعن صفوان المؤلف الموسيقي الذي لا يجارى.. وقد فعل، وتحدث عن تفوق صفوان بهلوان الصوتي والموسيقي، وهو من أكثر الناقد إنصافاً وتمييزاً بين صفوان وعبد الوهاب، وقليلون هم النقاد الذين أنصفوا صفوان من سطوة الصوت الذي أحبه وعشقه وتابعه، ولا يزال متابعاً لإيمانه الشديد بالخط الغنائي والطربي الأصيل، وقد سمعت آراء صميم الشريف مرات عدة، وعلى منابر متعددة وهو يتحدث عن هذه القدرة الصوتية، والمعرفة الموسيقية، والقدرة العزفية والتأليفية، وهو من القلة الذين دافعوا عن المواهب والخبرات وبقي على ذلك، وكثيراً ما كان يتحسر على هجرة هذه الخبرات، والخسارة التي تنزل بسورية لأنهم لم يستقبلوا كما يجب، ولم يتم احتواؤهم، وإلى ذلك يشير د. علي القيم في كلمة رثائه الأولى:

«كان محباً للحياة وأصدقائه، وكان مدافعاً كبيراً عن الموسيقا العربية، وبالرغم من أنه كان يعي كل أعلام الموسيقا الغربية، شارك في مجموعة كبيرة من المؤتمرات التي تؤكد أهمية الموسيقا العربية والحفاظ على هويتها».

فالشريف لم يمنعه تفوق الآخر وعالميته من الدفاع عن موسيقاه العربية والشرقية والدعوة للمحافظة على خصوصيتها، وربما كان هذا من أسباب ميله إلى السنباطي وسادة الموسيقا الشرقية، وأهمية هذا الدفاع والدعوة تنبع من معرفته المزدوجة بالموسيقا العالمية الكلاسيكية وأعلامها وتراثها، ومعرفته بالموسيقا العربية التي تتجاوز اللحن والمقام والنغمة لتصل إلى عمق الموسيقا تاليفاً وتأريخاً وأعلاماً، بل إن كثيراً من مبدعي الموسيقا العربية لم نتعرف إليهم إلا من خلال برامجه وبرامج الموسيقي الدكتور سعد اللـه آغة القلعة.

صميم الكاتب القاص

كان فناناً بالنغم والبحث، وكان كاتباً رائداً ومهماً، فقد كتب القصة مبكراً ونشر مجموعته القصصية (أنين الأرض)، وخص الكاتب المبدع يوسف إدريس صميم الشريف بمقدمة لمجموعته القصصية الثانية (عندما يجوع الأطفال) وحين يكتب د. يوسف إدريس صاحب (بيت من لحم) لكاتب آخر مقدمة، وهو من هو في القصة والمسرح والإبداع، فهذه شهادة للشريف بالبراعة في الكتابة، وإن كان القارئ اليوم لا يعرف شيئاً عن قصة الشريف، فذلك لبعد المسافة الزمنية، وعدم وجودها في الأسواق والمكتبات، وأنتهز لأدعو إلى طبع هاتين المجموعتين مع أعماله الموسيقية، وأعماله الموسيقية نحتاجها اليوم للفنان وثقافته، إن كان في ميدان العمل أم يريد أن يبدأ رحلة الفن والموسيقا والنغم، والشريف يستحق من المؤسسات والأصدقاء أن يكرّم، وهو الذي كان له نشاط بارز في اتحاد الكتاب العرب، في تحرير مجلة الموقف الأدبي، وفي عضوية المكتب التنفيذي للاتحاد، وكذلك عضويته في جمعية القصة والرواية، وكذلك يستحق تكريم الأصدقاء وهو الذي ما عرف منه إلا الحب لأصدقائه وخدمتهم والانحياز إليهم، ولو كلفة ذلك فوق طاقته.

رحل صميم الشريف في ظروف جعلت رحيله صامتاً، حيث شيع إلى مثواه في ثرى دمشق (الباب الصغير) يرافقه صفوة أصدقائه الذي علموا أو تمكنوا من وداعه، ولم يتهيأ لأصدقائه ومحبيه أن يرافقوا قامته ويحملوا نظارته وبسمته الودودة في الرحلة الأخيرة.. فلن يصل صوته من بعد إلا من خلال تراثه الفني والموسيقي الضخم الذي تركه بيننا ولم يبخل بكلمة أو نغمة..

رحل كبير آخر، ليلتقي بالباب الصغير بكل الذين سبقوه إلى هناك، واختاروا دمشق وبابها الصغير مكاناً ومستقراً، ليدلفوا إلى الشاغور وشوارع الياسمين الدمشقي الشامي الذي لا يطوله الهرم وإن تعمدنا النسيان.

صميم الشريف

ولد عام 1927/ ناقد موسيقي وكاتب قصصي.

من كتبه: (الأغنية العربية) و(السنباطي وجيل العمالقة) و(أساطين الموسيقا العالمية) ومجموعتا (أنين الأرض) و(عندما يجوع الأطفال).

ترك مئات الساعات الإذاعية والتلفزيونية الموسيقية.

عمل أميناً لتحرير مجلة الموقف الأدبي.

عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب سابقاً، وعضو جمعية القصة والرواية توفي الاثنين 24/12/2012 ليوارى في باب الصغير.