2013/05/29

رفة عين.. الفجيعة والألم تعكسها المرايا السوداء
رفة عين.. الفجيعة والألم تعكسها المرايا السوداء


عمر محمد جمعة - البعث

ينتمي مسلسل "رفة عين" الذي كتبته الفنانة أمل عرفة بالتعاون مع الكاتب بلال الشحادات وأخرجه المثنى صبح إلى ما يسمّى أعمال الكوميديا السوداء، التي ظهرت في المسرح العالمي في القرن العشرين مع انتشار الفلسفات والفنون اللاعقلانية في الغرب، كالسريالية، والدادائية، والوجودية، والعبثية، والعدمية، والتجريدية، والتكعيبية، وانتشار مسرح اللامعقول مع يوجين يونيسكو، وأداموف، وصمويل بيكيت. في حين تجلّت في الدراما العربية في جملة من الأعمال الكوميدية المسرحية والسينمائية والمنولوجات والأغاني التي قدّمها الرواد الأوائل، وعاينت على نحو مغاير ومختلف مشكلات القهر الاجتماعي والسياسي، والإفلاس الروحي الذي ميّز حياة الفقراء والمهمّشين، كما كانت علامة من علامات التلقي العالي والقبول اللافت لأعمال عملاقي الكوميديا السورية دريد لحام ونهاد قلعي، ولاسيما في المسلسلات والمسرحيات التي جمعتهما، وقدما فيها مقولات سياسية ساخرة مغلّفة بالفكاهة والإضحاك.

فالفنانة أمل عرفة وكما في عمليها السابقين "دنيا" و"عشتار" تتغلغل في قيعان المجتمع، لتنبش المخبأ والمتواري والمسكوت عنه بقلم يقطر حزناً وسخرية ومرارة، ملتزمة وبأسلوب مضحك حدّ البكاء بتسليط الضوء على حياة أولئك البسطاء الذين هم الجلاد والضحية في الوقت ذاته في سيناريو يترامى على ضفاف الكوميديا السوداء أو الصادمة، أو التراجيكوميديا التي تدور حول موضوعات تعتبر بالمجمل، كما ذكرنا، من الأمور المحرمة، فتعرضها بشكل طريف وساخر مع الاحتفاظ بجدية هذه الموضوعات، التي غالباً ما يكون متنها الموت والقهر والانتحار والجنون والعنف والمخدرات والجريمة والخيانة الزوجية.. في شخصيات كاريكاتورية، ألفاظها سوقية فجة تشير إلى ماهو غريب وشاذ في سلوكيات الأفراد ولغتهم، وتتغنى بفلسفة العبث والعدم، الموت والحياة، المحبة والبغضاء، وانحطاط القيم الإنسانية الأصيلة، وتحتفي بحياة العبث، والإخفاق، والفشل، والسقوط التراجيدي.. أو كما يرى بعض نقاد الفن "فلسفة الضحك الممزوج بالبكاء الهستيري".

قد تبدو حكاية "رفة عين" تحاكي السائد والمألوف في بنيتها العامة، غير أنها وبالمضمر حكاية تمور بالقهر الذي تحدثنا عنه كركن هام من أركان الكوميديا السوداء، فالبنت "هدية" التي ولدت وتربّت في سجن النساء تنتقم من الظلم الذي تعرّضت له بإتقان فنون النصب والاحتيال كي تدفع عنها وعن أمها الفقر والعوز ونظرة الآخرين، وقد نجحت أمل عرفة في أداء تلك الشخصية بحرفية ومهارة عالية، وبالقدر ذاته استطاعت استفزاز كوامن الشقاء والتمرد في روح "هدية" في صراعها مع محيطها الغرائبي العجيب. على أن حياة "هدية" ليست أقل مرارة من حياة والدتها "أم مهدي" التي سجنت بتهمة قتل زوجها، ولحظة خروجها من السجن وإطلاق سراحها تتعرّض لحادث سير تصبح بعده امرأة مقعدة وعالة على ابنتها الصغيرة "هدية" وابنها المقامر العابث "مهدي"، إذ نلمس هنا مدى عناية أمل عرفة في رسم ملامح شخصيات العمل "المركبة" المهمّشة الفقيرة، وكيف تجرّ "هدية" أمها المقعدة في شوارع دمشق، وسط الأمواج البشرية التي لا تعلم بالتأكيد حكاية هذه المقعدة وابنتها، ولعل المشهد الصادم الذي كسر توقع المتلقي تجلّى في النهاية المفجعة لـ"أم مهدي" التي تسقط في فتحة الصرف الصحي، لتنهي هذه الحياة المليئة بالقهر والشقاء والتعب والعذاب والحرمان.

وعلى نحو مفاجئ ومتحوّل بانعطافة حادة، تسير حياة "هدية" لتصير "نانا الراقصة" في الكباريه، وكأن الأقدار تدفعها من عالم السجن المظلم المغلق، رغم حكاياته الطريفة المؤلمة، إلى عالم مفتوح لكنه أشدّ ظلماً وظلاماً "الكباريه" كي توفر المال اللازم لإعالة والدتها المقعدة والسعي إلى تخليص شقيقها "مهدي" من آفة القمار والنساء والزواج الفاشل التي كانت دوماً تفضي به إلى ذلك العالم الذي تعرف "هدية" تفصيلاته وتحفظها جيداً "السجن"، ومن ثم لنتفاجأ أكثر بتحول تلك الراقصة إلى امرأة متدينة تائبة بعد أن غرقت واستغرقت كثيراً في ملذات الحياة.

ورغم أننا قد نتفق أو نختلف مع الكاتبة أمل عرفة في قسر شخصياتها وتوجيهها نحو هذه التحولات والنهايات الصادمة اللامتوقعة، غير أن ثمّة مبررات كثيرة نتفهمها جيداً، وهي أن الكاتب أدرى بتشعبات حكاياته وتوظيف مقولاتها في الاتجاه الذي يحدده هو لا المشاهد أو الناقد.

إن تماسك البناء الدرامي لـ"رفة عين" ومتانة محاوره وخطوطه الثابتة أو المتحوّلة على مستوى الأحداث والشخصيات، قد ساعد المخرج كثيراً في إدارة الصورة وحركة الكاميرا وأبعادها وزواياها وانتقالاتها التي يتقنها جيداً المخرج المبدع المثنى صبح، وحافظ من خلالها على سيرورة الصراع والإيحاء البصري ليمتعنا ويشدنا وبمشهدية مشوّقة منطقية إلى صورة الأب السكير والأم المقهورة المغلوب على أمرها، مروراً بمشاهد "هدية" وأخيها التائه "مهدي"، وقراءة الكاميرا للقهر البادي في عينيها وهي تحمل وزر سجن أمها، أو تحول شخصيتها من سجينة إلى سارقة وراقصة ومن ثم سمسارة عند طبيب أسنان فاشل، أو عملها فتاة قهوة وشاي في محل تجميل شهير ثم مسؤولة أظافر وسكر بنات في المحل ذاته وصولاً إلى عطف وحنان أبي نورس الثري الذي يحيطها بالرعاية التي تستحقها.

إزاء ذلك كلّه، يمكن القول إن السيناريو المتقن الذي كتبته أمل عرفة وبلال الشحادات، ولجوئهما إلى عوالم العشوائيات التي تطرقت إليها الدراما السورية سابقاً بهذه الرؤية المختلفة التي قدمت الفجيعة والألم وعكستها بمرايا سوداء شديدة القتامة، إضافة إلى الإخراج الذي تخطى فيه المثنى صبح تجاربه السابقة ارتقاء وإبداعاً متجدداً، قد وفر كل عوامل النجاح لـ"رفة عين" الذي سيتذكره المشاهدون كثيراً بعد أن لامس أرواحهم شهراً كاملاً وفارقها دون أن ينفض عنها!!.