2013/05/29

سامر رضوان في ساعات الجمر.. من قلم شاعر إلى مبضع جراح
سامر رضوان في ساعات الجمر.. من قلم شاعر إلى مبضع جراح


عمر محمد جمعة – البعث

لم تكن الجرأة التي رفعت السقف واخترقت كثيراً من الخطوط الحمراء وكسرت السائد والمألوف في الدراما السورية، بتجلياتها ومستوياتها ورؤاها المتعدّدة، السمة الوحيدة الدالة على فرادة الكاتب والسيناريست سامر رضوان وتحقيقه كل هذا الجدل وتحريك الراكد، بدءاً بمسلسله الأول "لعنة الطين" مروراً بـ"الولادة من الخاصرة" وتالياً "ساعات الجمر"، وصولاً إلى عمله القادم "منبر الموتى" الجزء الثالث من مشروعه الذي بدأه بـ"الولادة من الخاصرة 1"، بل إن رضوان أضاف إلى ذلك ومن وحي تجربته لغة درامية جديدة ومعادلات بصرية مختلفة، استثمر فيها حساسيته كشاعر يدرك معنى التكثيف والاختزال، والاستغناء ما أمكن عن الثرثرة والاستطرادات الأفقية والعمودية والاستطالات المجانية التي تعامل كثير من كتّاب السيناريو معها بترف مفرط حدّ الملل والسرد اللامبرر الذي يرهق البنيان الدرامي ويشكل غالباً عبئاً كبيراً على الممثل والمخرج على حد سواء.

ولئن كان "لعنة الطين" قد شرع بوابة الجرأة على مصراعيها، و"الولادة من الخاصرة1" تخطاه، فإن عمله الأخير "ساعات الجمر" الذي عُرض في الموسم الدرامي الفائت بإخراج ملفت لرشا شربتجي، وكان صادماً في مقولاته ونهاياته المفجعة، لهو بحق من الأعمال الدرامية السورية التي تستطيع الذاكرة أنّى اتجهت حفظه واستعادته واستظهاره كواحد من الأعمال التي صوّرت الواقع كما هو دون تكلّف أو مواربة، حتى لكأن المتلقي السوري حصراً يرى نفسه مجسّداً في تلك الشخصيات التي أنطقها سامر رضوان بلغة الشارع المحلي ومعاناته، محاولاً رصد اليوميات التي تجمع الشرائح الاجتماعية كافة في بقعة ضوء ضيّقة، نلمس فيها تشريحاً للواقع المؤلم الذي تعيشه تلك الشرائح. مؤكدين أن رضوان في أعماله عامة و"ساعات الجمر" خاصة استبدل قلم الشاعر بمبضع الجراح ليهتك القيم المزيفة والمنظومات الأخلاقية الهشة، مبرزاً الخفايا والأسباب التي أوصلتنا إلى ما نعيشه اليوم من فصول الأزمة الكاوية التي كادت أن تحرق كل شيء، معيداً إلى الأذهان ما قاله في حوار سابق "أن العمل برمته يسعى إلى تحقيق حكاية ترتبط بالحياة ارتباطاً وثيقاً، من حيث بنية الشخصيات ومنطقية حركتها، وهو ليس تجميلاً للواقع كما أنه ليس تعريةً غير منطقية له، بل محاولة لعرض مجموعة من النماذج التي تضجّ الحياة بها وبمشكلاتها وهمومها، وهو محاولة استقراء لعوالم بعض الشخصيات التي تمتلك فرادة في سياق حياتها أو بنيتها السلوكية".

إذاً فالكاتب سامر رضوان الذي قدّم تلك النماذج المذكورة بصور وبزوايا مدوّرة وبيّن ما في كوامنها من قبح، لم يشأ أن يقول إن الهمّ الاجتماعي منفصل كلياً عن الهم السياسي وكذا الاقتصادي وسواه، وبالقدر ذاته لم يشر إلى الزواج القسري والإجهاض والدعارة والتهريب والمخدرات والسجن والظلم والتعسف والغنى والفقر والقهر الذي يولد أمراضاً نفسية واجتماعية مختلفة كمشكلات قائمة في ذاتها أو منفصلة عن بيئتها، بل إن ما سعى إليه هو إظهار الفرد كضحية لممارسات المجتمع، والمجتمع كضحية لسلوك أفراده. وبذلك لا يمكن أن نعتبر شخصية ضابط المخابرات "رؤوف" التي أداها الفنان عابد فهد شخصية قاسية وتعسفية دون النظر إلى الظروف التي أفرزت وولّدت تلك الشخصية، وبالمستوى ذاته شخصية "جابر" التي جسّدها الفنان قصي خولي وحكاية الفقر والحرمان والظروف القاسية التي عاشها وأدخلته السجن ظلماً، دون تقييم العوامل والمحيط الاجتماعي الذي دفع بـ"جابر" إلى خوض صراع يثبت براءته وينقذ أسرته المهدّدة بالانهيار، والحُكم أيضاً ينطبق على شخصية "أبو الزين" بائع الفلافل التي قدمها الفنان محمد حداقي، و"أبو مقداد" التي جسدها الفنان فادي صبيح، وشخصية "أبو نبال- شيخ الوادي" التي أداها الفنان المبدع باسم ياخور بكل قسوتها، واستفز فيها غضب المشاهد، ولاسيما في مشهد قطع قدم "أبو مقداد" ونشرها بالمنشار بعد أن حاول الأول ابتزاز صاحبته "رندة". وهنا لابد من الإشادة بالأداء الخلاق لباسم ياخور الذي تقمّص تماماً شخصية الضابط السابق ذات العُقد والإشكالات وغير المتوازنة نفسياً وإنسانياً، الدموية في أغلب حالاتها وتقلباتها وردود أفعالها، بل إن العنف والقسوة كانا الملمح الأهم في تكوين هذه الشخصية المركبة التي لم تكن بالطبع أقل أهمية من باقي شخصيات العمل.

إن نزوع الكاتب في "سنوات الجمر" كان هذه المرة منصبّاً على التغلغل بعمق في البنية الاجتماعية التي أخرجت لنا هذه النماذج والشخصيات المأزومة، متعمداً رصد ظروفها الضيّقة أو الواسعة، ودراسة انفعالاتها وردود أفعالها، والقسوة والمرارة التي دفعتها نحو الفساد السياسي والاجتماعي والإنساني، وانخراطها في الصراع على المال والنفوذ والسلطة السياسية. على أن جرعة العنف العالية التي عرضها العمل في سلوك تلك الشخصيات والنماذج من سادية وتعذيب ورغبة بالانتقام أو الانتحار، وإن اعترفنا بوجود ما يوازيها أو يتجاوزها أحياناً كثيرة في الواقع، سنختلف مع الكاتب والمخرجة في طريقة تقديمها للمشاهدين الذين تتعدّد مستويات تلقيهم ومرجعياتهم الفكرية، حيث يتقبلها البعض فيما يرفضها البعض الآخر بالمطلق للمنعكسات السلبية والمؤثرات التي تتركها في وعي الشريحة العمرية الأصغر التي تتشرب هذه السلوكيات الخطرة بكليتها، دون أدنى محاكمة عقلية!!.

إن جرعة العنف والقسوة التي أراد إظهارها سامر رضوان في "ساعات الجمر" وسعت إليها رشا شربتجي في حلولها الإخراجية وخياراتها البصرية المفتوحة، نزعم أنها كانت محاولة منهما للاقتراب أكثر من الواقع، ومقاربته على نحو مغاير يفضح المشكلة ويكشف المسكوت عنه فيها، والجهر بأنها لو لم تكن كذلك لما اكتشفنا فظاعتها وارتداداتها على الوعي الإنساني. وهو ما لخصه الفنان سلوم حداد في تقييمه للعمل بجزأيه والقول: "العمل لامس الواقع في مواضع كثيرة ووضع الإصبع على الجرح في جوانب عديدة من المجتمع السوري، وأرى أن على القائمين على الشؤون العامة والاجتماعية في البلد الاستفادة مما طرحه "الولادة من الخاصرة" و"ساعات الجمر" لأنه نبّه إلى مشكلات ربما كان المعنيون يحتاجون إلى من يشير إليها".

حقاً وإن اختلفنا في بعض تفصيلات العمل ومقولاته، غير أننا نعترف أن "ساعات الجمر" بما توفّر له من عوامل النجاح، كالحكاية والسيناريو والحوار المحكم، وطريقة بناء الشخصيات البسيطة منها والمركبة، والجرأة المفعمة بالصدق، كان تعبيراً محرضاً لفضح التراكمات والسلوكيات اللاأخلاقية سياسياً واجتماعياً، والتي عاينها سامر رضوان كما ذكرنا سابقاً بحساسية الشاعر المبدع ومبضع الجراح الماهر.