2012/07/04

سبل النهوض بالنقد السينمائي العربي
سبل النهوض بالنقد السينمائي العربي

علي العقبانـي – تشرين دراما

كانت النظرة إلى مصطلح «النقد السينمائي» ومازالت إلى حد كبير، ملتبسة، إشكالية، ولا يُنظر إليه بجدية كافية أو مناسبة، فالكثيرون ينظرون إلى النقد من خلال الرواية والشعر والمسرح.

وتبدو مشكلة النقد السينمائي في العالم العربي مرتبطة إلى حد كبير بالنظرة السائدة إلى السينما كوسيلة لقضاء أوقات الفراغ بالنسبة إلى الغالبية العظمى من جمهور المشاهدين، وكصناعة بالنسبة إلى المنتجين والموزعين وصالات العرض وبعض الحكومات، وربما يكون النقد السينمائي العربي في النصف الأخير من القرن العشرين قد تطور تطوراً ملحوظاً وساهم إلى حد كبير في تطور السينما العربية واتجاهاتها الجديدة، لكن حتى تمكن النقد السينمائي من أن يشكل ‏

نصاً إبداعياً قائما بذاته، يوكل إليه مهمة تعزيز الوعي الثقافي والسينمائي لدى القارئ أو المشاهد ويمنحه المتعة والمعرفة والاطلاع، فإنه عانى كثيراً ولايزال من عدد من المشكلات التي تعوق مهمته وتحد من دوره الهام الذي عليه أن يقوم به في حقل النشاط السينمائي...؟ ‏

إن النظرة التعميمية التي يطلقها البعض وتقول بعدم وجود نقد سينمائي عربي وعدم وجود سينما عربية، ويهمشون من دور النقد والنقاد تبدو حكماً مطلقاً وإلغائياً وتشاؤمياً إلى حد كبير ولا تفيد في تطور الفن السينمائي والعملية النقدية المرافقة له، فالأحكام المطلقة والتعميمية قاتلة وفاسدة بالضرورة. ‏

عندما يمارس الناقد النقد، فمن المؤكد أنه يعبر عن نفسه ونظرته (مبادئه وأفكاره وتوجهاته...إلخ) بالدرجة الأولى، وهو يتوجه بكتابته تلك إلى جمهور المشاهدين والمهتمين والمتابعين، وبدرجة ما إلى المخرج أو صناع الفيلم.. وفي العموم فإن الناقد لا يستهدف كسب ود أو غضب الفنان، أو أخذ موقف ما من صانع الفيلم.. إن عمله وكتابته يقتصران على مساعدة المتلقي على التلقي الصحيح وإضاءة بعض الجوانب الفنية والتقنية وغيرها، وكل ذلك سيكون من خلال وجهة نظر الناقد نفسه، وربما تتوافق هذه القراءة من وجهة نظر المتفرج أو تختلف... والمسألة هنا تتوقف على الناقد ومدى ثقافته وعمق تناوله للموضوع ومدى منهجيته ووضوحه وصدقه.. ‏

من المؤكد أنه لا وجود لنقد دون عمل فني، دون فيلم، النقد عملية تالية للإبداع الفني والأدبي. وهو عملية عقلية تتطلب إلى حد كبير المعرفة الضرورية بأصول التميز والبحث والتقويم والتقدير، والنقد هو وجهة نظر ورؤية خاصة في السينما، وهو تعبير خاص ناتج عن تأثير العمل الفني على حس نقدي... وتكمن صعوبة الكتابة في النقد السينمائي من كون السينما (الفن السابع) تستخدم الفنون الستة السابقة كوسائل وأدوات تعبيرية داخل بنية وموضوع الفيلم السينمائي. ‏

يفترض بالنقد السينمائي أن يلعب دوراً أساسياً في تنمية الذوق والمعرفة السينمائية لدى الأوساط الواسعة لجماهير الأفلام، لكن، بالعلاقة مع مطلب تنمية الذوق السينمائي العام فإنه لا يمكن تحميل النقاد المسؤولية عن تردي الذوق العام لمشاهدي الأفلام والذين لا يتقبلون إلا أفلام الترفيه والتشويق والمغامرات والتسلية، (وفي ظل آليات الدعاية والإعلان المرافقة للفيلم وللشركات الكبرى في العالم، والأموال التي تصرف قبل وأثناء عروض الأفلام الكبرى). ‏

ومن هنا لا يمكن تحميل النقاد أكثر من طاقتهم، ففي حين يمكن للنقاد تفسير المعاني وتوضيح الدلالات والتعريف بدور ومساهمة العناصر السمعية والبصرية المستخدمة في الفيلم، إلا أن النقاد لا يستطيعون كشف أسرار السحر الكامن داخل الفيلم السينمائي وأدواته المستترة والتي تجعلهم يستمتعون بفيلم ما ويشيدون به، في حين يجده المشاهدون العاديون فيلماً غامضاً معقداً ومملاً. وهذا ما يؤكده الناقد عدنان مدانات في كتابه الجديد (وعي السينما)، الصادر ضمن سلسلة الفن السابع 180- المؤسسة العامة للسينما). ‏

على من يمارس فعل النقد السينمائي أن يكون مشاهداً جيداً للأفلام السينمائية الحديثة والقديمة، الكلاسيكية والتجريبية وفي تعدد أنواعها، كما أن عليه أن يكون على اطلاع جيد بتاريخ السينما سواء في بلده أو في العالم، وكذلك يجدر به أن يكون على معرفة بالتيارات والاتجاهات المختلفة التي نشأت عبر تاريخ السينما، يضاف إلى ذلك ضرورة تمتعه بثقافة بصرية ولونية والبعض من تقنيات الصناعة السينمائية، والأهم من ذلك كله تمتعه بالحس النقدي والصدق. ‏

النقد السينمائي ليس مقالاً صحفياً، ولا إعلاناً للفيلم ولا نصائح للمتفرج ولا بحثا جامعيا، النقد ليس خبرا صحافيا (بالرغم من أنني أرى أن النقد السينمائي كتابة صحافية ولكن من نوع خاص)، والخبر السينمائي ليس نقدا، النقد السينمائي ليس استطلاع رأي ولا عرضا لأفلام «التوب تن» في شباك التذاكر، أو سرداً عاماً لقصة الفيلم وأبطاله. الناقد مشاهد مختلف، من طينة خاصة، له معرفة وانتباه خاص وله القدرة على تلقي العمل الفني وتحليل محتواه وقراءة مضمونه والجديد والجيد فيه... وباختصار كما يرى كثيرون؛ فإن الناقد يتعامل مع الفيلم، مع العمل الفني، بينما يتعامل الصحفي مع المخرج والنجوم والمنتج والموزع بحثا عن الخبر، إذ إنه ليس من مهمة الناقد أن تصبح كتابته دعاية أو إعلاناً تحت ضغط المنتجين والمخرجين والموزعين. ‏

عادة ما يُهمش النقد السينمائي في الصفحات الثقافية للجرائد الرسمية أو الخاصة بصورة عامة، وقد تُخَصص أو لا تُخَصص مساحة للنقد السينمائي تبعا لتقدير رئيس التحرير أو الجهة المالكة والممولة للجريدة لأهمية النقد، خاصة أن النقد السينمائي لا يقع في مجال لعبة الإغراء المادية لزيادة التوزيع، وهي تكتفي إلى حد ما بالكتابة عن النجوم وصورهم ونشاطاتهم والحديث عن أفضل الأفلام في السوق السينمائية العالمية وغيرها، وهذا النوع من الكتابة تغلب عليه الكتابة الصحفية التي ترصد الأفلام بطريقة موجزة ومبتسرة، إنها مقالات تهتم بسرد الحكاية وتأويلها أو التعريف بالمخرج أو الممثل وذكر أدواره الرئيسة في السينما (وتكثر هذه الكتابات خلال المهرجانات السينمائية المحلية أو الدولية). ‏

يمتاز هذا النوع من الكتابة الصحفية بالانطباعية والتسرع في تعميم الأحكام والأفكار والافتقار إلى القراءة الفيلمية الممنهجة (وبالرغم من ذلك فهي مطلوبة في عموم الجرائد والمجلات وأحياناً كثيرة ضرورية وهامة) لكنها مع مرور الوقت يمكن أن تحقق تراكما كميا ينقل صاحبه من مجرد محرر للخبر السينمائي إلى مهتم وباحث في شؤون السينما وينتقل رويداً رويداً إلى عملية النقد السينمائي ويصبح مع الوقت صحفياً متخصصاً في مجال الفن السابع. ‏

إذا كانت تجربة الإبداع السينمائي في معظم البلدان العربية متأخرة نسبياً، فإن تجربة النقد السينمائي كذلك حديثة التكوين والتبلور، وقد ارتبطت إلى حد بعيد بالأندية والجمعيات السينمائية أو الجامعية، والمعاهد الثقافية والسينمائية والمسرحية وكليات الإعلام والصحافة، والملتقيات والمهرجانات المحلية والعربية والدولية، وبالنظر إلى النقد السينمائي التخصصي فكلنا يعلم أن مكانه الطبيعي مجلات السينما المتخصصة سواء الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية، وهذا ما أصبح نادراً في العالم العربي(فمعظمها قد عانى من الإفلاس والإغلاق ولم يبق سوى القليل منها في العالم العربي وبعض دول المهجر)، وفي سورية على سبيل المثال لدينا مجلة الحياة السينمائية التي تصدرها المؤسسة العامة للسينما في وزارة الثقافة، وهي مجلة فصلية متخصصة، وفيها نقرأ العديد من الترجمات حول بعض الأفلام أو النجوم في العالم وبعض القضايا النظرية في عالم السينما وبعض التغطيات لمهرجانات محلية وعربية وعالمية، وقراءة في بعض الكتب السينمائية التي تصدرها المؤسسة، (وهي سلسلة سينمائية مميزة وصل عدد الكتب الصادرة عنها إلى ما يقارب المئتي كتاب تشكل مكتبة سينمائية متكاملة غنية ومميزة في عناويها)، أما في مجال الصحافة اليومية فهناك بعض الصحف التي تواظب على صفحة أسبوعية متخصصة بالسينما وأخبار النجوم والأفلام وهناك منها من توقف لأسباب مختلفة، لاسيما أن حضور الدراما التلفزيونية في مجال الصحافة اليومية قد أصبح طاغياً ويومياً إلى حد كبير، وهناك أيضاً بعض المجلات الأسبوعية أو الشهرية والتي تخصص بين طياتها عدداً من الصفحات للكتابة عن فيلم أو شباك التذاكر أو تغطية لفعالية سينمائية هنا أو هناك، أو للقاء مع نجم، وفي بعض الأحيان للكتابة عن حدث وطني له علاقة بإنجاز فيلم سوري، وهذا في عمومه أمر استثنائي يتم عادة بمجهود فردي خاص. ‏

ومعلوم لدى كثيرين أن النقد بأشكاله الأدبية والفنية والسينمائية أيضاً كان في سنوات السبعينيات، ذا توجه أيديولوجي إذ كانت تقوم معظم القراءات النقدية خلال تلك الفترة وما بعدها بقليل على مفاهيم ذات طبيعة ماركسية عموماً، إلى أن ظهرت في السنوات التالية علوم مثل اللسانيات والسيميولوجيا، والمفاهيم الجديدة في علم الجمال والصورة والمدارس النقدية المختلفة، ومن المعروف أيضاً أن تلك المدارس النقدية في نقد السينما والتي وجدت في العالم يجب أن توجد في ظل علاقة فعالة وحيوية بحركة إنتاج سينمائي، وحراك سينمائي فعال. ‏

يبدو لي أن ظهور المدونات والمواقع السينمائية والمنتديات الخاصة على شبكة الانترنت، والتي من الممكن أن معظمها يقوم بعمله هواة أو محبو السينما، وفي بعضها الآخر محترفون ونقاد سينما معروفون، ظاهرة طبيعية وصحية جدا بالرغم مما قد يشوبها من شخصانية واعتبارات فردية خاصة، لكنها يمكن أن تساهم وإلى حد كبير في ظهور أسماء شابة جديدة تحاول إيجاد نفسها من خلال الممارسة النقدية اليومية للأفلام والمناقشات المفتوحة على الفضاء الالكتروني، وذلك في ظل غياب حيوي ومؤثر وكبير للنوادي السينمائية أو للمنابر الإعلامية السمعبصرية والمكتوبة والتي ساهمت في بروز أسماء هامة في النقد السينمائي في سنوات بعيدة ماضية، وربما تساهم هذه الفضاءات المفتوحة في نشر الوعي بالسينما بين جمهور بات عالمه الافتراضي على الشبكة أكثر حضوراً وواقعاً من عالمه الواقعي واليومي، وربما نقرأ فيها بعض المقالات السطحية أو الترهات التي لا معنى لها، وربما تكون في مجال ما مكاناً للمهاترات والخلافات الشخصية وتصفية الحسابات، وكتابة النصوص التي لا حسيب ولا رقيب عليها، لكننا في المقابل قد نحظى بفرصة اكتشاف كاتب جديد يملك رؤيا وثقافة ومعرفة ورغبة صادقة في البحث عما هو جديد ومهم ومؤثر في عالم الفن السابع... وفي جانب آخر ليس هناك من يحاسبك على ما تكتب ولا على عدد الكلمات التي تكتبها أو على موقفك من هذا الفيلم أو المخرج أو التجربة، ولن تكون حينها أسير صفحة أسبوعية أو مزاج رئيس التحرير ومسؤول الصفحة الثقافية أو غير ذلك الكثير؟ ‏

النقد السينمائي، كمنظومة فكرية ومعرفية، لا أهمية له إذا لم يخلخل أو يفكك بعض المفاهيم الجاهزة أو على أقل تقدير يحرك المياه الراكدة في السائد والمكرس، وإذا لم يولد ردود أفعال عند الطرف الآخر الذي تتوجه إليه، والنقد كفعالية عقلية وفكرية وكمجموعة من الآليات والأدوات المعرفية المتصلة به، لا يمكن أن يأخذ مكانته ضمن الحقل الثقافي العام ببساطة وسهولة وسرعة، بل سيواجه في معظم الحالات بالرفض والإبعاد والاستخفاف وغير ذلك، ولن يستقر حضوره في الساحة النقدية والثقافية إلا بفضل العديد من العوامل الرئيسة ربما يكون منها حضور دائم للكتابة النقدية وحضور مستمر للنقاد في معظم المحافل السينمائية، وكذلك تماسك منطقه الداخلي وقوة مفاهيمه ومتانة مناهجه وأدواته المعرفية والفنية في دراسة الأعمال السينمائية، إذ إنه من غير المناسب والمجدي التحدث عن فيلم هوليودي أو هندي بالطريقة نفسها التي نتحدث فيها عن فيلم عربي في بلد خليجي أو بلد ضعيف الإنتاج وذلك لاختلاف ظروف الإخراج والإنتاج وآليات العمل السينمائي وطرق التوزيع والعرض بينهما. ‏

وهنا سيكون علي أن أنهي ما سبق بكلمة للناقد «آندريه بازان» ANDRE.BAZIN

يقول فيها في أحد مقالاته: «ما يجب تأكيده دائماً أن السينما فن له إمكانات ليست بالضرورة متوفرة في بقية الفنون الأخرى... هي تواصل وجداني بقدر ما هي لقاء فكري وتفاعل جمالي مع الصورة... وهذا هو ما على الناقد السينمائي بلورته وشحذه في ذهن المتفرج للانتباه إليه والتعاطي معه». ‏

وربما يكون تعريف جان بول سارتر هاماً وضرورياً عندما قال: النقد لقاء بين ثلاث حريات: حرية الناقد وحرية المتلقي وحرية الفنان

ورقة عمل قُدمت في ندوة (سبل النهوض بالنقد السينمائي العربي) في إطار الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للفيلم العربي وهران (الجزائر) 16-23 كانون الأول 2010.‏