2012/07/04

سعد الله ونوس في الذكرى الرابعة عشرة للغياب
سعد الله ونوس في الذكرى الرابعة عشرة للغياب

سلوى عباس - البعث

في كل عام يطل علينا سعد الله ونوس من ذاكرة الغياب، نستعيد معه أطياف حلم نسج خيوطه بشغف تعشق روحه، ورهن له حياته. لم يكن الطفل سعد ابن الثانية عشرة يعرف أن ضعفه في التعبير سيمثل له مفتاحاً لبوابة الحلم، حيث كان موعده الأول مع القراءة من خلال كتاب "دمعة وابتسامة" لجبران خليل جبران، ثم تنوعت قراءاته ليطلع على نتاج كبار الكتاب والروائيين العرب، كطه حسين ونجيب محفوظ، وميخائيل نعيمة وغيرهم، لكن علاقته الأولى مع المسرح بدأت عبر سنوات دراسته للصحافة في كلية الآداب في القاهرة من خلال محاضرات الدكتور محمد مندور، وعندما وقع انفصال الوحدة بين سورية ومصر عام 1961 كتب أولى مسرحياته "الحياة أبداً" وبعد تخرجه في نفس العام عاد إلى سورية ليشرف على قسم النقد في مجلة المعرفة التي تصدرها وزارة الثقافة، ركز خلال عمله فيها على الدراسات المسرحية إلى أن حصل عام 1966 على منحة دراسية في جامعة السوربون في فرنسا، وفي تلك الفترة حدثت نكسة حزيران التي هزت وجدانه فكتب مسرحية "حفلة سمر من أجل 5حزيران" التي لاقت صدى كبيراً في الأوساط الثقافية، وبعد أن أنهى دراسته في فرنسا عاد إلى دمشق ليتسلم رئاسة تحرير مجلة أسامة التي استمر فيها من عام 1969 إلى عام 1975، وبعدها سافر إلى بيروت ليعمل محرراً في جريدة السفير، ومع نشوب الحرب الأهلية في لبنان عاد إلى دمشق ليعين مديراً لمسرح القباني، ويؤسس مع صديقه المرحوم فواز الساجر - الذي شاركه الحلم والمصير- فرقة المسرح التجريبي بهدف تقديم مسرح وثائقي يطرح قضايا المجتمع ومعاناته ويعمل على حلها وتغييرها، وقد شاركه في خطوته هذه عدد كبير من الشباب المتحمسين للمسرح كالمخرج علاء الدين كوكش وعملوا على إقامة مهرجان دمشق المسرحي الأول عام 1969، وعرضت في هذا المهرجان مسرحية "الفيل ياملك الزمان" لسعد الله ونوس، وفي عام 1978 توقف المهرجان بسبب الأحداث السياسية التي عصفت  بالمنطقة، وفي عام 1977 تسلم رئاسة تحرير مجلة الحياة المسرحية التي أصدرتها وزارة الثقافة وبقي فيها حتى عام 1988.

عمل ونوس على خلق مسرح مختلف يؤمن بالكلمة والفعل فكان مسرحاً وجودياً فلسفياً، وفي حوار أجري معه عام 1979 شرح ونوس تطور أسلوبه المسرحي بقوله: "منذ منتصف الستينيات بدأت بيني وبين اللغة علاقة إشكالية ما كان بوسعي أن أتبينها بوضوح في تلك الفترة، كنت أستشعرها عبر ومضات خاطفة، لكن حين تقوّض بناؤنا الرملي صباح الخامس من حزيران أخذت تلك العلاقة الإشكالية تتجلى تحت ضوء شرس وكثيف، ويمكنني اليوم أن أحدد هذه العلاقة بأنها الطموح العسير لأن أكثّف في الكلمة، أي أن تكون كتابتي شهادة على انهيارات الواقع، وفعلاً نضالياً مباشراً يعبر عن هذا الواقع، وبتعبير أدق كنت أطمح إلى إنجاز الكلمة المقترنة بالفعل التي تتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعلها معاً، إذ لم يكن دور المشاهد وحده يستوعب حدود الفعالية التي أتوخاها، لكن المناضل الذي أريد أن أكوّنه ليس في النهاية سوى كائن فعله الكلمات".

إن وقفة تأمل ومراجعة لمسيرة ونوس المسرحية والإنسانية لما تمثله من الرقي الوجداني جعلته يصل إلى رؤية إبداعية جديدة سواء من حيث الموضوعات أم من حيث الشكل الفني للعمل المسرحي، بعدها انقطع سعد الله ونوس عن الكتابة فترة من الزمن، ومع بداية التسعينيات عاد للكتابة حيث قدم عدداً من المسرحيات التي تتناول الأوضاع السياسية كمسرحية "الاغتصاب" التي تناول فيها الصراع العربي الاسرائيلي، وبعدها أتت مسرحيات (منمنمات تاريخية، طقوس الاشارات والتحولات، أحلام شقية، يوم من زماننا، ملحمة السراب، بلاد أضيق من الحب).

لكن أحلام سعد الله ونوس لم تزهر بسبب إصابته بسرطان الحنجرة عام 1992 وهنا دخل في تحد مع الزمن والمرض بتركيزه على الكتابة، حيث آمن بدور الكلمة في الثورة والتغيير فقدم مسرحاً مختلفاً في أفكاره وفلسفته، وكانت فترة صراعه مع المرض أغنى فترة في تاريخه الإبداعي.

لقد حاول سعد الله ونوس أن يطوّر نظرته للمسرح والحياة بشكل دائم، وكانت كل مرحلة من مراحل تطوره تستند إلى رؤية جديدة لفن المسرح ولدوره بالتناغم مع تطور رؤيته الفكرية والسياسية للفرد والمجتمع والحياة، فتصوره للمسرح لا ينفصل عن تصوره للمجتمع الإنساني، وقد رأى فيه المكان الذي ينمو فيه انتماء الفرد للجماعة، ويتعلم غنى الحوار وتعدد مستوياته، "فالمسرح عنده المرآة التي تضع المتفرج في مواجهة ذاته  ومواجهة عالمه ليصبح ذلك المكان المفتوح للاحتجاج والنقاش والرفض وإعادة النظر بأسس المجتمع" مؤكداً على الدوام أنه "لا معنى للمسرح إذا لم يطرح قضايا الإنسان الجوهرية".

واليوم نعيش ذكرى رحيل قامة إبداعية كان المسرح هاجس روحه الذي أمده بالحياة، والمسرح بعد غيابه يعيش الكثير من التغيرات والرؤى سواء من حيث نشوء فرق مسرحية جديدة بدماء شابة تقدم تجاربها حسب رؤيتها ووجهة نظرها، أم من خلال إعادة عرض أعمال مسرحية لمسرحيين سوريين كبار تركت أعمالهم بصمتها التي تمنحها هوية تبقيها متجددة عبر الزمن كمسرحيات الأديب محمد الماغوط الذي أعادت فرقة "أحلام كبيرة" من حلب إحياء مسرحيته "كاسك ياوطن" التي تحمل خصوصيتها التي تمتعنا وتلامس وجعنا في كل مرة نشاهدها، وهنا نهمس في أذن القائمين على المسرح باقتراح أن يكون هناك إحياء لمسرحيات عمالقة المسرح السوري كعبد اللطيف فتحي ونهاد قلعي وسعد الله ونوس لتعود للمسرح روحه التي افتقدناها زمناً.