2013/05/29

"شالوم" أم كلثوم وفرن عبد الحليم
"شالوم" أم كلثوم وفرن عبد الحليم


مارلين سلوم – دار الخليج

في هذا العالم الغارق بالفوضى، حيث السياسة تتلهى بالشعوب وتتلاعب بمصائرهم وتعيد رسم ملامح الدول “الصغرى”على أهواء حكام دول ترى نفسها “عظمى«، تأتي أحداث صغيرة تكاد تمر على الهامش، لتستوقفك وتشدك إلى مناطق مهمة تحمل رموزاً كثيرة، فتفرض عليك أسئلة “كبرى”.

فجأة تقرر “إسرائيل”أن تكرّم أم كلثوم . الحدث بسيط وصغير وعابر لا يستوجب أي تعليق أو ضجة . “إسرائيل”تريده كذلك، أما نحن فيجب ألا نراه من المنظور نفسه، بل عيب أن نقرأه بهذه العين “العمياء”.

مَن يعرف ويفهم طبيعة الفكر الصهيوني، يدرك أنه عقل لا ينسى، يفكر بمنطق عصبي ويسجل في ذاكرته أسماء “أعدائه”وتبقى اللائحة متوارثة عبر الأجيال ولا شيء يمحوها إلا اعتراف صاحب الاسم بالكيان الصهيوني . لذلك، من المستحيل أن نصدق أن تكريم أم كلثوم من قبل الكيان جاء اعتباطياً أو بنيات بسيطة وفنية بحتة . فأم كلثوم كانت ولا تزال كوكباً في سماء العالم العربي، لا ينطفئ ولا يسقط رغم رحيل الجسد . وهي لم تكن مغنية، ولا فنانة، بل لم تكن فقط أول امرأة تعتلي منصب نقيب الموسيقيين، ولا هي سيدة الرومانسية والعشق والهوى، ولا هي أجمل صوت غنى المطولات الشعرية، و”إسرائيل”تدرك ذلك جيداً .

أم كلثوم كانت امرأة صاحبة موقف سياسي، وطني، عروبي واضح . صحيح أنها امرأة من زمن غابر، إنما حتى من لم يولد في زمن كوكب الشرق، ولم يتسمر أمام جهاز الراديو بانتظار سماع حفلاتها كل أول خميس من كل شهر، يعرف أنها كانت شامخة فوق الخشبة وفي مواقفها في الحياة . هي من تبنت وعدد من أدباء مصر وفنانيها، في العام 1967 حملة للتبرع للمجهود الحربي، من أجل دعم قدرات الجيش المصري وتعزيز إمكاناته في مواجهة القوة “الإسرائيلية”الأمريكية . وهي من سخّرت صوتها وفنها في خدمة قضيتها الوطنية، وقامت بتنظيم عدة حفلات في أكثر من بلد متبرعة بعائداتها لهذه الحملة التي تعتبر الأشهر في تاريخ الفن العربي . فهل “تنسى”بسهولة “إسرائيل”من تكون أم كلثوم؟ وهل تتسامح تلك الدولة مع من أسهمت في دعم جيش بلدها المصري لمساعدته في حربه ضدها، وتقلب الصفحة بلا معاهدة صلح مع أم كلثوم، وتكتب باسمها شارعاً في القدس الشرقية؟ كيف نصدق أن الجرافة التي تهدم البيوت العربية وتقتلع الزيتون من جذوره لتمحو كل أثر له، تحب كوكب الشرق لدرجة “تمليكها”شارعاً باسمها في قلب القدس؟

كفانا تجاهلاً لقدرات “العدو”ولبراعته في تطوير أدواته كي يطوقنا من كل الجوانب ويشغلنا عن قضايا مصيرية أساسية . ولنعترف أيضاً بأنهم   يتركون أبسط الأمور تمر من دون استغلالها، بينما نحن نفرط في ما نملك، ونُسقط رموزنا من عليائهم، ونتهاون في حق ماضينا وموروثنا الثقافي والفكري والفني . وتسمية شارع باسم أم كلثوم ليس “الاستيلاء”الأول على جزء من الموروث والتراث الفكري والثقافي والفني العربي، ولن يكون الأخير . ألا يبرعون في قرصنة الأغاني، فتسمع فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم ونانسي وإليسا عبر إذاعاتهم؟ ويطلقون برامج باللغة العربية، ويتوجهون إلى المشاهد العربي كي يتواصل مع قنواتهم؟ في برامج اكتشاف المواهب، يغني “إسرائيليون”لأم كلثوم مثلاً، والمقاطع متوافرة على “اليوتيوب”. وهم أيضاً ينسبون التبولة اللبنانية والحمص إليهم، ويجعلون وجبة الفقير المصري المشهورة والأكثر شعبية “الكشري«، “إسرائيلية”ويروجون لها بكل فخر واعتزاز .

أم كلثوم ماتت وهي رافضة للانكسار العربي أمام “إسرائيل«، فهل يجوز أن نسمع اليوم نقيب الموسيقيين يقول إن تكريم سيدة الغناء في القدس المحتلة إيجابي لأنه دليل على قيمة كوكب الشرق وعلى تقدير العالم لها؟ هل كانت تحتاج تلك الكبيرة إلى هذا التزلف كي نقول إن العالم يعرف قيمتها؟ أم أن ما حصل سيرفع من شأنها؟

يعرفون كيف يستغلون المواقف لفرض السلام على العرب، ولفرض سيطرتهم على العالم، ومن المفترض أن نعرف كيف نرد بحزم، وإلا “شالوم”على أم كلثوم وعلى أي من كنوزنا العربية .

* * *

وبعد نسأل: كنوزنا العربية هل نستحقها فعلاً؟ لا بد أن نشك في ذلك، طالما أن هناك من يهين عمالقة الفن ويستهين بذكراهم، بل قل لا يعرف أصلاً قيمتهم، بينما “العدو”يسرقهم منا .

من المؤكد أن مصر تعاني إهمالاً للمقتنيات الفنية، ومن عدم اهتمام الدولة بتحويل بيوت كبار الفنانين إلى متاحف تجذب السياح من مختلف أنحاء العالم لتشكل دخلاً إضافياً وثميناً للسياحة في البلد . وقد نأسف لما تؤول إليه الأحوال في “هوليوود الشرق”بسبب التغيرات السياسية وعدم الاستقرار الأمني والحياتي الذي تتخبط فيه . لكن ما يحز في النفس ويجعل أي عربي يضحك ويبكي في آن من شدة الصدمة، هو أن تعرف أن بيت عبد الحليم حافظ تحول إلى فرن للخبز .

خبر يشبه النكتة، ويجعلك تترحم على الماضي بكل ما فيه . أليس من المفترض أن يكون الماضي أكثر “جهلاً”من الحاضر؟ وأن يكون العصر الحالي متفوقاً في كل شيء لأن الحياة تتطور صعوداً والبشر يسيرون إلى الأمام؟ فكيف يهبط البعض إلى ما دون القاع ولا يشعرون بعمق الهوّة التي ينزلقون إليها؟ كيف للنقابات الفنية ولوزارة الثقافة والسياحة في مصر أن تهمل أماكن مهمة دون أن تسيجها وتحيطها بكل رعاية تكريماً لأصحابها؟ لا نطالب باحتفالات تخلد ذكراهم، ولا نياشين تعلق فوق القبور، بل نطالب كل مسؤول بحماية الآثار الفنية، ومنها بيوت ومقتنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وغيرهم الكثير من عمالقة الفن في مصر، الذين يستحقون أن تتحول بيوتهم إلى متاحف، وأن تجمع مقتنياتهم فيها، كما يفعل أهل الغرب، وتراهم يجنون أموالاً طائلة من تهافت الناس على زيارة هذه الأماكن .

بيت في محافظة الشرقية أشبه بالفيلا من 6 غرف بجناح صيفي وآخر شتوي، ولد فيه عبد الحليم وورثه عن خاله متولي عماشة، فأصبح “فيلا عبد الحليم”وملحق بها مسرح باسمه أيضاً . وبعد رحيل العندليب انتقلت الفيلا إلى إخوته، وقبل 10 سنوات باعتها الأسرة لأحد أبناء القرية فحوّلها إلى فرن للخبز ومخزن للدقيق .

هل هي سخرية القدر أم سخرية المسؤولين من عقول الناس والقيم الفنية؟ ألم يكن عبد الحليم شخصية عامة، وما زالت أغنياته تتصدر بورصة الأغاني المصرية؟ ألم يعتبر الرئيس جمال عبدالناصر الفن وأهله ركيزة مهمة يلجأ إليها من أجل دعم الثورة والتغني بها، ومن أجل توعية الناس لعلمه بمدى قدرة الفنانين على التأثير في الجمهور، وتحريك مشاعره وحماسته وشحذ وطنيته وهممه؟ إذاً لماذا لم يتم استثمار الفيلا والمسرح قبل أن يصبح “عبد الحليم خبازاً«؟