2012/07/04

شريف خازندار.. من الخطأ أن ندير ظهرنا لموسيقانا العربية..
شريف خازندار.. من الخطأ أن ندير ظهرنا لموسيقانا العربية..

مـوسيقى الـروك لـيس لهـا عـلاقة بالموسيقى الشـرقية..لكل شعب مشهديته المسرحية المستقاة من مرجعيته الثقافية.    
صحيفة تشرين / سامر محمد إسماعيل
اللقاء مع رجل طويل القامة لن يكون عادياً، لاسيما إذا كان هذا الرجل من أهم رواد النهضة المسرحية المعاصرة في سورية، فرغم غياباته المديدة عن الوطن، إلا أنه حاضر في إطلالاته المتعددة على مشاهد مختلفة من الحياة الثقافية السورية والعالمية، ولا ريب أن تصادفه هكذا فجأةً في دهليز حارة دمشقية بكامل أوبهته، أو في مقهى البرازيل جالساً إلى قهوته المسائية؛ إذ لن تخطئه عينكَ ولن تلتبس عليك كياسة ترحيبه بك، شريف خازندار المولود في حلب عام 1940 جاء مع والده الذي استقر أخيراً كموظفٍ في محافظة دمشق أربعينيات القرن الفائت، لم يكن الطفل الذي لم يتجاوز الثماني سنوات من عمره طفلاً عادياً، ففوق جده ونبوغه كان طالباً موهوباً يقدم مشاهداً من مسرحيات عالمية في مدرسة اللاييك عند نهاية كل فصلٍ دراسي، ليسافر عام 1958 بعد إتمام تعليمه المتوسط إلى أمريكا لدراسة اللغة الإنكليزية في ولاية (ويس كانسن) ومنها إلى بيروت حيث درس (شريف خازندار) إدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية. ‏ لم تكن بيروت محطةً عابرة في حياته حيث تعرف هناك على روجيه عساف وجلال خوري ليؤسس معهما المسرح الجامعي ويقدمون سويةً مسرحيات باللغة الفرنسية، أياماً قضاها الشاب على مسارح العاصمة اللبنانية التي كانت تشهد حينذاك نهوضاً كبيراً في الصحافة والحياة الثقافية، قرر بعدها السفر إلى باريس لدراسة الإخراج المسرحي في جامعة الأمم إلى جانب المخرج الفرنسي الكبير (جان فيلار)؛ عدة سنوات في مدينة الشمس ليعود بعدها (خازندار) بأحلامه الكبيرة إلى وطنه عام 1963، وتبدأ مرحلة أخرى من حياةٍ سيأخذها العمل من نجاح إلى نجاح، فنظراً لشهادته الراقية في فن المسرح سيعين كخبير في المسرح بوزارة الثقافة، ويتصدى (شريف) لإخراج أول عمل مسرحي في العالم العربي لبرتولد بريخت، فكان عرض (الاستثناء والقاعدة) عن ترجمة أنيقة للأديب الراحل (نجاة قصاب حسن)، وبعدها ليقوم بإخراج (الجرة المكسورة) لكلايست. ‏ قُدم العرضان على مسرح القباني، وكانا بمنزلة نقلة نوعية للمسرح السوري آنذاك من حيث التعامل مع المسرح البريختي الملحمي المستمد من الجدل الهيغلي الماركسي، انتعاش كبير شهده الفن المسرحي آنذاك ساهم به الخازندار مجدداً عندما قام مع رفيق الصبان بإعداد وإخراج برنامج (شوامخ المسرح) عن أهم كتّاب ونصوص المسرح في العالم لصالح التلفزيون العربي السوري بعد أن شكّل هذا الأخير صدمةً أخرى في الحياة السورية. تعاونه مع الصبان كان مستمراً ليقدما معاً من جديد مسرحية (الحضيض) لمكسيم غوركي لصالح المسرح العسكري عام 1964؛ العام الذي سيسافر فيه رائد المسرح السوري المعاصر إلى الجزائر ومنها إلى تونس ليساهم كأمين عام في تأسيس أول مؤتمر للمسرح العربي هناك إلى جانب كلٍ من علي بن عياد من تونس والطيب صديقي من المغرب، وأنطوان ملتقى من لبنان، وكاكي ولد عبد الرحمن من الجزائر، أقام الخازندار حوالي العامين في تونس قدم خلالهما عدة أعمال مسرحية كان أبرزها «مجنون ليلى» بالتشارك مع علي بن عياد على مسرح الملعب البلدي، عرض يتذكره الكثيرون من عشاق المسرح في تونس، إلى أن تلقى هذا الشريف دعوةً من ألمانيا عام 1966 للمشاركة باحتفال الذكرى السبعين لولادة بريخت وعلى المسرح المسمى باسمه، فرصة اغتنمها الشاب الذي لما يبلغ الثلاثين في عقر المختبر المسرحي الألماني فيقول:»فكرت أن أُقدم بريخت على الطريقة العربية وليس على النموذج المسرحي الغربي فأدخلت الحكواتي وخيال الظل على عرض (الاستثناء والقاعدة) إضافةً إلى الموسيقا العربية. طريقة مختلفة تماماً في فن الإخراج المسرحي اعتمدها هذا الفنان في التغريب والملحمة البريختية، أسلوب غير مألوف، بل وغير مسموح به في مناسبة كانت للاحتفاء بالمنجز المسرحي الغربي، لقد فاجأ شريف جمهوره، هو الأجنبي الذي جاء ليقول أن لدى العرب مسرح أيضاً: (كتبت الصحافة الألمانية وقتها كيف تسمحوا لهذا الأجنبي بإخراج بريخت على طريقته..) ‏ رغم ذلك تم تصوير المسرحية ووزِعت في كل أنحاء العالم، لقد كانت مفاجأة صاعقة للألمان بكل معنى الكلمة، من هنا بدأت ثقة الخازندار تزداد برؤيته الفنية الخاصة يدعمه وعي استثنائي في قراءة الآخر وفهم خطابه، فكان أن شرع بإعداد دراساته الأكاديمية لليونسكو عن المسرح العربي وشخصيته، قاده ذلك فيما بعد للاهتمام بالموسيقا كعنصر مهم من عناصر العرض المسرحي، طريق طويلة جعلت جهد هذا الرجل ينصب ولثلاثين عاماً متواصلة على الاهتمام بالتراث اللامادي وعلى ذاتيات شعوب العالم، لينشأ بعدها معهد ثقافات العالم بباريس 1982 العام الذي سيكون مفترق طرق لمسرحي عربي يتفرغ لمناهضة الشخصية العالمية الواحدة، ثقافة العولمة التي واجهها بقراءة عميقة لثقافة وحضارة بلدان العالم: (كل شعب من الشعوب لديه ثقافة يجب أن يدافع عنها ويحافظ عليها من الذوبان والاضمحلال، وذلك من أجل ضرورة وجوده، فإذا ما وقع التشابه بين الشعوب، سينعدم الحوار بينها ونكون أمام خطاب الذات المضجر..). ‏ علاقته مع المسرح لم تتوقف بل استخدم هذا الفن كأداة للتجربة والبحث عن أصالة الهوية، حيث أخرج مع الراحل (علي بن عياد) مسرحية (لعبة كراكوز) عن نص الكاتبة اللبنانية-المصرية (أندريه شديد) محاولاً نقل الكراكوز من الدمية إلى الشخصية المسرحية، وبعدها ليقدم مسرحيته (الحلاج 1984) عن نص عز الدين المدني على مسارح تونس وفرنسا، محاولاً هذه المرة أن يشتغل على المسرح الغنائي الملحمي. ‏ ظل الخازندار منكباً على مشروعه الضخم بالبحث في ذاتية شعوب العالم، في حين غاب تقريباً عن المسرح لصالح عالميته التي استقاها من محليات مختلفة من شمال وغرب إلى جنوب وشرق العالم، إلا أنه ظل مسكوناً بعشقه الأول منافحاً عن ضرورة الفن المسرحي وعن أصالة هذا الفن في تاريخ العرب في وجه كل المقولات التي تمضي إلى اعتبار العرب أمة ليس لها مسرحاً: (لا يمكننا أن نقول أنه لم يكن هناك مسرحاً عربياً، فمفهوم كلمة المسرح اليوم تعني بالضرورة -لاسيما في الأوساط الثقافية- الخشبة المسرحية وفق النموذج الغربي، أو ما يمكننا تسميته بالعلبة الإيطالية أو الإطار، وأنا لا أوافق على ذلك، فكل شعب لديه نوع من المشهدية، وأفضل هنا أن أتكلم عن المشهديات لا عن المسرح.) ‏ كلامه هذا سيصب في مشروع آخر بدأه منذ خمسة عشرا عاماً في معهد ثقافات العالم، حيث وبالتعاون مع جامعة باريس الثامنة قام بإحداث قسم خاص في المعهد لدراسة ما يعرف ب (الأثنو سينولوجيا) أو علم الدراسات المشهدية؛ وفي ذلك لايني الخازندار يردد (يجب على كل ثقافة أن تستمد مسرحها من مراجعها الخاصة، من مشهدها الفريد.. كما في مسرح النو الياباني، أو الكاثاكالي الهندي وغيرها، ونحن أيضاً يجب أن نبحث في مراجعنا التي يعتبر الشعر العربي من أهمها؛ خذ مثلاً جلسات سلاطين الطرب الحلبي، الحضرة الصوفية، الدراويش، المولوية، أمسية شعرية يستمع فيها الجمهور لأدونيس مثلاً.. أليس كل هذا مشهديات مسرحية يجب أن نأخذها بعين الاعتبار..؟ الحكواتي في المغرب يكون في وسط حلقة من المشاهدين، أليس هذا مسرحاً دائرياً؟ الحكواتي الدمشقي في النوفرة أيضاً يأخذ هذا الشكل، فحتى في الغرب هناك اليوم رغبة بالخروج من العلبة الإيطالية..) إذاً لكل ظاهرة مكانها ومرجعيتها كما يقول الخازندار، وهو لا ينسى هنا بقايا المسارح الحجرية في سورية التي تدل على المسرح المستدير رافضاً أن تكون بدايات المسرح العربي بمارون النقاش الذي دخلت معه المشهدية الأوروبية إلى المسرح العربي: (المشهدية الأوروبية شيء موجود ويجب أن نستخدمه، لكننا يجب أن ننتبه إلى أنواع أخرى من المسرح وهي موجودة لدينا). ‏ مشروع الأثنوسينولوجيا لاقى نجاحاً منقطع النظير في المكسيك والبرازيل والهند، و بدأ هذا النوع من الأبحاث يحقق نتائج واكتشافات مهمة في مشهديات الشعوب، من حيث خصوصيتها وفرادتها الثقافية، وعند سؤالي للخازندار عن إفادة المعهد العالي للفنون المسرحية من هذا النوع من الأبحاث يقول: (في سورية لا يوجد اهتمام بهذا النوع من البحوث، على حد علمي يوجد في الجامعة اليسوعية بلبنان اهتمام أكبر، المطلوب من المعهد المسرحي في سورية الاهتمام بالأثنوسينولوجيا، وهذا أمر لا أستطيع القيام به بمفردي). ‏ انقطاعه عن المسرح لم يدم طويلاً حيث قدم بالتعاون مع زوجته (فرانسواز غروند) مسرحية (جوليا دومنا عام 2000) في مهرجان المحبة باللاذقية وفي قصر العظم في دمشق، عرض عمل من خلاله على الممثل وقدرته في مخاطبة الجمهور باللغتين العربية والفرنسية بالاشتراك مع الممثلة اللبنانية (ميري معروف). ‏ يشغل خازندار اليوم منصب رئيس الجمعية العمومية للتراث اللامادي في منظمة اليونسكو، ويعمل جاهداً ضمن مشروع البحر المتوسط الذي ترعاه منظمة الثقافة العالمية في سورية ولبنان والأردن وفلسطين لتنشيط التراث المعنوي من خلال جهد مشترك مع وزارة الثقافة السورية، لكن (شريف) يسجل استهجانه لظواهر فرق الروك والجاز والكلاسيك الشابة في سورية: (الموسيقا العربية ولاسيما في سورية من الموسيقات الحية في العالم، ومن الخطأ الكبير أن ندير ظهرنا لموسيقانا، ونذهب لتقليد الموسيقا الغربية التي ليس لها أصول في بلادنا، بالنسبة لي شخصياً مايجب أن يدرّسه المعهد العالي للموسيقا في دمشق هو أصول الغناء الشرقي و ليس الغناء الأوبرالي، فنحن عندما ندعو فرقاً من سورية للمشاركة في نشاطات دار ثقافات العالم بباريس، ندعو فرق موسيقا شرقية، فماذا سنفعل بالأوبرا هناك، الموسيقا الشرقية هي روح الشرق، ومن السيء أن نقدمها كمادة سياحية، لأننا مهما قلدنا موسيقا الغرب، لن نصل إلى مستوى أصحابها، ومن يقول أن موسيقا الروك هي إحدى أنواع الموسيقا الشرقية التي تعتمد على سلم أو نغمة الحجاز ليس له علاقة بالموسيقا، هذا كلام خاطئ وأول مرة أسمع به، موسيقا الروك شيء آخر تماماً، ولاعلاقة لها بالموسيقا العربية التي تحتاج إلى سنوات من الدراسة والجهد، فالموسيقا الشرقية غير موسيقا الروك التي تعتمد على نوطة ثنائية، إن من يقولون أن الروك له جذر في الموسيقا العربية لا يعرفون الموسيقا العربية ولم يدرسونها، بل هم لا يريدون أن يعرفوا موسيقاهم، ولا مجال للجدل في ذلك، أعتقد ان ذلك يأتي من عدم وعي وقلة ثقافة لدى الشباب السوريين الذين يقدمون الروك وغيره، وينسون الكنوز الموجودة في موسيقاهم العربية، فمطرب مثل (صبري مدلل) مثلاً كان لديه كل هذه الدراية بالمقامات الشرقية والعرب اللحنية يجب أن يكون مدرسة للجيل الجديد الذي لا يريد أن يعرف كنوزه الموسيقية، أعتقد أن ذلك مرحلة سيعود بعدها هؤلاء الشباب إلى موسيقاهم، وهناك أمثلة جيدة على التمسك بالشخصية السورية، فمغنية مثل (وعد بوحسون) أشعر بالفخر عندما أقدمها في دار ثقافات العالم، أو في معهد العالم العربي بباريس، إنها مثال جميل عن فتاة سورية حافظت على أصالتها العربية، وحققت شهرة ونجاح في العالم أكثر مما نتوقع وبوقت قصير بالنسبة لحداثة تجربتها). ‏ إقامة الخازندار في فرنسا لم تمنعه من المجيء إلى وطنه، إلا أنه اليوم يتابع ما بدأه منذ سنوات طويلة عبر الأبحاث التي يشرف عليها؛ وذلك بعد إصداره عن دار ثقافات العالم لسلسلة (عالمية المتخيل1984) والتي بلغت خمسة وعشرين كتاباً باللغة الفرنسية في ميادين المسرح والأدب والتراث اللامادي، إضافةً لإصداره كتاباً خاصاً بالاشتراك مع فرانسواز غروند بعنوان (أطلس المتخيل2000) عن الظواهر المشهدية في العالم، وكتاباً آخراً عن مسرح خيال الظل. ‏