2013/05/29

صانع الحدث
صانع الحدث


مارلين سلوم – دار الخليج

خلف المقاعد الجامعية، يتعلم طلبة الإعلام كيف يكتبون الخبر، وكيف يلتقطون الحدث . ومن يفهم المهنة وأسرارها، يعرف أن الإعلامي “الشاطر” هو الذي يصنع الحدث أحياناً، ولا يبقى على الهامش ينتظر الأحداث لتغطيتها بعد وقوعها، وهو القادر على لفت الناس إلى نقاط صغيرة، يضيء عليها بمجهر كبير كي يراها المشاهد والقارئ بوضوح .

الإعلام المرئي اليوم لم يعد ناقلاً للخبر بقدر ما أصبح شريكاً فيه، يلونه وفق ميوله، ويدعمه بمشاهد ولقطات وتصريحات . يغذي عقول الناس ويساهم في زيادة نسبة الوعي فيها، إذا لعب دوره بشكل إيجابي . أما إذا لبس قناع الطيبة والإيمان والبراءة ليخفي دوره التخريبي، فبإمكانه أن يسرق عقول الناس ويستغل سذاجة بعضهم وجهل بعضهم الآخر . واليوم نرى القنوات وهي تمارس أدوارها علانية، لأن اللعب أصبح على المكشوف، ولم يعد إخفاء الهوية أو الميول يشغل بال أصحاب القنوات، بل وصلنا إلى مرحلة يعبّر فيها المذيع عن آرائه الشخصية التي قد لا تتناسب مع توجهات قناته، فيصطدمان على الهواء مباشرة، كما حصل مع إعلاميين كثر وكان آخرهم خيري رمضان حين أعلن توقفه عن استكمال تقديم برنامجه “ممكن” بعد رفض “سي بي سي” استضافته إحدى الشخصيات السياسية، ثم عودته بعد أن استجابت الإدارة لإرادته .

مهم أن تكون صانعاً للحدث وليس مجرد ناقل له، لكن هذه الميزة تشبه السحر الذي يحمل وجهي الخير والشر . ففي كل روايات الأطفال نجد الساحرة الجميلة الطيبة، تقابلها الساحرة الشريرة التي تخدع الناس الطيبين وتحاول اللعب بعقولهم، فيستسلموا لها وكأنهم مخدرين، ينفذون ما تمليه عليهم، وبعد وقت يكتشفون حقيقتها، وذلك طبعاً بعد تدخل مستميت من الساحرة الطيبة التي لا يهدأ لها بال قبل أن تفتح عيون الناس على الحقيقة . انظروا إلى المشهد الإعلامي لتجدوا الصورة هذه مجسدة بوضوح في الاتجاهات كافة، ولعلها أكثر وضوحاً الآن في مصر، حيث تتلاعب قنوات خاصة بعقول الناس وتخدعهم ببعض الكلام “المعسول” وبادعائها الطيبة والإيمان، بينما تجيد فبركة الأحداث وتلوين الوجوه وتزييف كل الحقائق ليكتمل مفعول السحر الذي تمارسه على الأميين والمغيبين . وفي المقابل قنوات خاصة أيضاً، تحمل المصابيح لتضيء الحقائق، ويحاول إعلاميوها كشف المستور، وملاحقة كل الأكاذيب لتحذير الناس من المضللين .

الصراع الإعلامي يخرج عن إطار المهنية أحياناً، ويستخدم فيه البعض ألفاظاً وعبارات أقل ما يقال عنها بأنها سوقية لاأخلاقية . فهل بهذه الوسائل يستنير الناس؟ وهل يعد هذا إعلاماً صاحب رسالة؟ طبعاً هناك أنواع من الرسائل التي بإمكان المرء أن يحملها، لكن مرفوض أن تكون الرسائل الموجهة إلى العامة وعبر الشاشة، تحريضية، فجة، مستفزة، وتزرع الفتنة في المجتمعات، خصوصاً إذا كانت قنوات ناطقة باسم الدين .

بإمكان المذيع أن يصنع الحدث، كما بإمكانه أن يصبح هو الحدث . من هؤلاء نماذج كثيرة، ونحصرها في ثلاثة من مصر، هم: إبراهيم عيسى الذي عرف كيف يخلق لنفسه أسلوباً مميزاً لا يشبه إلا نفسه، بل أصبح الآخرون يتشبهون به وببرنامجه “هنا القاهرة” . هو الذي جعل من موعد عرض برنامجه المسائي، موعداً مقدساً، يضبط الناس مواعيدهم على إيقاعه، وتجدهم يتسمرون أمام الشاشة، يسمعون تعليقه على الأحداث بشكل مبسط وعفوي وساخر . والثاني هو عمرو أديب المستمر منذ سنوات في تقديم “القاهرة اليوم” على قناة “اليوم”، ولعل “شطارة” أديب في أنه جعل الناس تبحث عنه وتتناقل مقاطع من كلامه في البرنامج عبر اليوتيوب، لأن المحطة مشفرة ويتعثر على الأغلبية متابعته مباشرة . والمعروف عن أديب حدته في تناول الأحداث والتعليق عليها، وهذه الحدة ممزوجة دائماً بالسخرية . أما الثالث، فهو الأكثر سخرية من سابقيه، وهو “الدخيل” على المهنة الذي عرف أن يصل إلى قلوب الناس بموهبته، وهو الطبيب الجراح باسم يوسف، الذي نجح في أن يكون هو الحدث، بفضل استفزازه لمناهضيه، وبفضل تلك الحرب المتبادلة بينه وبين القنوات التي تعد “دينية” . وبفضل “البرنامج”، أصبح باسم يوسف محط أنظار الناس، و”شطارته” في اجتهاده و”صناعته” لبرنامجه، ويبدو واضحاً أن الإعداد لكل حلقة يستغرق وقتاً وجهداً، وهو يدعم كل موقف وحدث بمقاطع حقيقية من الأرشيف يستشهد بها ويعلق عليها بسخرية ظريفة .

ما يجمع هؤلاء الثلاثة، أنهم يضعون أصابعهم على الجراح، يعبرون ببساطة عن آرائهم وآراء فئة كبيرة من الناس، ويستشهدون ببراهين مصورة . والأبرز، أنهم يجعلون “السخرية” لا التهكم أسلوبهم في إيصال رسائلهم، ولعلها أشد الوسائل سحراً وتأثيراً في الناس، لأنها محببة وبسيطة وتغلف الحرقة ببسمة .