2013/05/29

(صباح فخري آخر جمرة في صقيع الغناء العربي)...المرجعية من الروح القرآنية إلى الفارابي فالنغم من الأرض
(صباح فخري آخر جمرة في صقيع الغناء العربي)...المرجعية من الروح القرآنية إلى الفارابي فالنغم من الأرض


علي الأحمد – الوطن السورية


يعجبني من يقول الشعر تأدباً لا تكسبا ويتعاطى الغناء تطرباً لا تطلباً -ابن مقلة- القرن العاشر الصوت الذي نسج أسطورته من صدى مآذن حلب القديمة، ورقصات دراويشها على خيط ناي مولانا جلال الدين الرومي، سيّد من غنى وواحد من ترنم، هو الصوت الذي ذابت فيه مقامات الموصلي ومعبد وزرياب وأبوخليل القباني وسيد درويش وزكريا أحمد، فأي مرجعية تملكها هذا الصوت الشفيف، الذي عيبه الوحيد، خلوه من العيب، أتكون مرجعيته مستقاة من مدرسة التجويد القرآني العظيم وحدها

أم من أثير وروح موسيقا الفارابي في مجلس سيف الدولة، أم من خلود الأزمنة الموسيقية التي تشهد عليها حارات وأزقة هذه المدينة الناهضة أبدا، التي احتضنت كل الفرح الموسيقي وكل الإبداع الغنائي في كل مستوياته وتجلياته.

- هو صباح فخري وكفى، ابن هذه المدينة التي تأخذك على الدوام إلى مطارح ومكانات تدهشك بسحرها وفتنتها كما بذائقتها التي لا تهادن أبدا، يكفي أن يتذكر المرء كيف كانت حلب على الدوام القصد والسبيل على أبوابها القديمة وقلعتها الشامخة حطت قوافل طريق الحرير التجارية والثقافية والموسيقية بطبيعة الحال عاش فيها «المتنبي» الشاعر العظيم، وأمها المعلم الثاني «الفارابي» الفيلسوف الكبير الذي وضع أسس وقواعد الفن الموسيقي العربي، ولا ننسى الشاعر الفارس «أبو فراس الحمداني» وحكم الدولة الحمدانية والأمير «سيف الدولة الحمداني» ومبدعين كباراً في الفكر والأدب والفن ما جعل من هذه المدينة مركزاً مضيئاً للإشعاع الفكري والإبداع الفني حيث أنجبت علامات سامقة في الموسيقا والغناء يكفي أن نذكر منهم «الوشاح الكبير الشيخ عمر البطش» والعلامة الشيخ علي الدرويش، والفنان بكري الكردي، والفنان كميل شامبير، والفنان سامي الشوا، والفنان توفيق الصباغ، والفنان أحمد الأوبري، والفنان الراحل محمد خيري، والفنان الراحل صبري مدلل، وعازف العود عزيز غنام، وقائمة طويلة من المبدعين الكبار الذين حفروا مسار الإبداع الموسيقي والغنائي في تاريخ هذه المدينة الساحرة، ويبقى فناننا الكبير صباح فخري أحد أعمدة هذا الفن الذي حافظ على تقاليده وتراثه الغني عبر رحلته الإبداعية المديدة، ما ساهم في تعريف الأجيال برموز هذا الموروث وبمفرداته الإبداعية الخاصة، ولم يكن صوته الماسي إلا بوابة عبور إلى تلك الطقوس السمع بصرية التي لابد لها أن تمتلك الذهن والحواس كلها حتى تنعم بصحبة ورفقة هذا الصوت المعجز بحق، والنادر بخزينه المعرفي وقدرته التي تفوق الخيال على الارتجال والذهاب إلى أقصى حالات الطرب والوجد تحضر هنا قصيدة «المسكين الدارمي» قل للمليحة في الخمار الأسود، كمثال على قدرته المذهلة في هذا الفن الأصعب الذي امتلك ناصيته وأدواته عبر مران وتراكم خبرة ومعرفة قادته إلى إضاءة الكثير من الأسرار الخبيئة في أوراق هذا التراث الغني بتقاليده وأنماطه والذي لم يأخذ حقه من الاهتمام والمتابعة والتقدير لرموزه وعلاماته المضيئة إلا مع هذا الفنان الكبير، صاحب الرصيد الكبير من الأعمال الباذخة بجمالها الموسيقي النادر من القدود الحلبية إلى الموال والقصيدة والموشح والدور والأغاني الدينية والوطنية وغيرها كان عبرها حارسا أمينا ووفيا لتلك اللغة التي تربى في أحضانها ونهل من ينابيعها النقية الأصيلة.

هو بالفعل نسيج وحده صوتا وأداء وحضوراً، وامتلاكا لناصية الكلمة واللحن، ومن الصعب تجاوز منجزه الإبداعي المديد الذي اجترحه بإرادة وإصرار على مدى أكثر من نصف قرن كان عبره مثالا ناصعا للفنان الملتزم بأصالة هويته وانتمائه إلى تربة هذا الوطن الذي عشق، فغنى له وللعروبة والإسلام روائع خالدة، وطني وطني، أسماء الله الحسنى، كما غنى للحب والمرأة «سمراء: حتى ما أرجو والرجاء يخيب، وانتهينا وانتهى الحب الذي كان، خمرة الحب اسقنيها، أنا في سكرين من خمر وعين، على العقيق اجتمعنا، لما أناخوا قبيل الصبح، يامن يرى أدمعي، حامل الهوى تعب، ولعل صباح فخري في مسيرته الفنية الحافلة من أكثر المطربين العرب في العصر الحديث ممن قدم موروثه الموسيقي والغنائي في صور وأنماط عديدة حملت في طياتها الروح والمزاج الطربي النفسي العربي، بما أفضى إلى الحفاظ على القواعد والأصول الراسخة التي دافع عن قيمها وأخلص لها ولرموزها حتى آخر المدى نجد ذلك في كثير من أعماله في الموشح والقصيدة والدور «أيها الساقي اليك المشتكى، لو كنت تدري ما الحب يفعل، حبي دعاني للوصال، ياغصن نقا، يابهحة الروح، قلت لما غاب عني، وأدوار:ضيعت مستقبل حياتي، إيمتى الهوى، ياللي تشكي من الهوى، أصل الغرام، ياما أنت وحشني، الحب ماهوش بالسهل»، ومواويل حلق بها إلى ذرا إبداعية «من عيسهم، ياراكب الحمرا، أشوف جمال القمر، حبيبي على الدنيا، كم نوب ياقلب، وقدود حلبية وأغنيات تراثية أعاد إحياءها وتوزيعها بقالب عصري: تحت هودجها، أول عشرة محبوبي، زمان زمان، القراصية، قدك المياس، يامال الشام، نويت اسيبك، يلبقلك شك الألماس، زروني كل سنة، ولا ننسى بطبيعة الحال عمله البديع «فاصل اسق العطاش» عبر إخراج موسيقي ساحر، كما قدم مع المطربة الكبيرة وردة الجزائرية برنامج «الوادي الكبير» والمسلسل الإذاعي «زرياب»، ويبقى برنامجه الغنائي «نغم الأمس» الذي وثق من خلاله الإبداع العربي في الموسيقا والغناء من أدوار وقصائد وموشحات وقدود وطقاطيق ومواويل، كإحدى أهم المحطات الخالدة في مسير ومسار هذا الكبير، الذي كرّم مرات عديدة من رؤساء وملوك وحكومات ومنظمات ثقافية كان آخرها في دمشق حيث قلده الرئيس بشار الأسد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة تقديرا لإبداعه الفني العظيم وتكريم مستمر من عشاق فنه في إرجاء المعمورة ممن رأى في هذه التجربة الغنائية الصوت الأكثر كبرياء واعتزازا بعروبة وأصالة موسيقاه وهويته التي ينتمي إليها بكل روحه ووجدانه.

إنه صباح فخري صناجة الغناء العربي المعاصر، فخر الأغنية العربية، وفارسها النبيل الذي لم يغادر رنين صوته الماسي أسماعنا وذائقتنا التي اغتنت بهذه التجربة الباذخة بجمالها وفرحها الموسيقي المنشود هذه الذائقة لا تنفك تحاول وتحاول ملامسة سر هذه التجربة المضيئة والعثور على كنوزها الخبيئة في أثير هذا الصوت النادر الذي نجح في خلق ألفة جمالية وذوقية مع موروث هذا الغناء، الذي بعُيد انقضاء أكثر من نصف قرن لا يزال يتلألأ كقصيدة حب، يحملنا على أجنحة النغم والحلم إلى تلك الضفاف الهانئة بعيدا عن كل القبح والرداءة والسطحية السائدة، ليبقى هذا الصوت العذب الذي ملك وتملك أسماعنا، ملاذنا وقنديل لأرواحنا في ليل الغناء الطويل.