2012/07/04

صرخة مخرجته نادين لبكي ضد حماقة الاقتتال «وهلأ لوين» نساء لبنان يحملن السلام إليه
صرخة مخرجته نادين لبكي ضد حماقة الاقتتال «وهلأ لوين» نساء لبنان يحملن السلام إليه


عرفان رشيد – خمس الحواس


تبدو الصرخة التي تُطلقها آمال (نادين لبكي) ضد الرجال الذين احتشدوا في مقهاها البسيط في ضيعة لبنانية نائية، وكأنها صرخة تُطلق في وجه كل مشعلي الصراعات والمواجهات داخل المجتمع الواحد، ويبدو اختيارها أن تنطلق تلك الصرخة الغاضبة من شفتي الشخصية التي تؤديها هي بالذات، رغبة في تأكيد الموقف الذاتي ضد حماقات الاختلافات التي قادت إلى حروب مريرة ودمار وفقدان للأبناء في منطقتنا ولا تزال، ويكفي أن ننظر إلى فلسطين والعراق، وقبلهما، إلى لبنان نفسها، لندرك مقدار الخسارات التي تسببت (وتتسبب) بها تلك الصراعات.


الحرب الأهلية

شريط نادين لبكي الثاني (وهلأ لوين) والذي قدمته أمس في الدورة الرابعة والستين لمهرجان (كان) السينمائي الدولي، وحاز على تصفيق عالٍ وطويل من الجمهور المحتشد في القاعة، ينتمي إلى مجموعة الأفلام اللبنانية التي أُنتجت في الآونة الأخيرة وأنجزها مخرجون شباب فتحوا في ملف الحرب الأهلية صفحة جديدة كتبت خلالها عدة أسئلة تحدد مسارات للتواجه مع الماضي وحساب المسؤوليات ومحاولة وقف الخسارة والدمار، ومن بين الأسئلة العديدة، السؤال الذي اختارته نادين لبكي عنواناً لفيلمها، (وهلأ لوين)؟، وماذا بعد ، ولماذا، وإلى متى ستستمر هذه الحال؟ وأسئلة أخرى عديدة، لن تُرجع من فُقد ولن تُعيد بناء ما دُمّر، لكن ( ربما) ستُقلّل حجم الخسارات اللاحقة.

مرة، في أحد آخر الحوارات التي أدلى بها الراحل الكبير محمود درويش، قال لي (نحن العرب، أمسنا أفضل من يومنا، ويومنا سيكون أفضل، دائماً، من غدنا). لم يكن محمود إنساناً متشائما، وبعد لقائه الموت في جلطته القلبية الأولى، فقد الأمل في أن تتمكن هذه الأمة من أن تتوقف لبرهة وأن تتأمل في الدمار الذي تمارسه مع ذاتها، وربما استوعب الجيل الجديد من المخرجين اللبنانيين، وبالذات أولئك الذين ولدوا وعاشوا في أتون الحرب الأهلية، أنه آن الأوان لذلك التمهّل والتمعّن، لوقف النزيف المتواصل، ولكي يحولوا دون أن يعيش أبناؤهم، الذين ولدوا في مرحلة اللاحرب واللاسلم، من العيش في أجواء أقل عدائية ومع بعض الأمان. وهي حالة تصح ليس على لبنان لوحدها، بل على المجتمع العربي بأسره، وبالذات في مرحلة ما بعد ثورات الربيع التي تفتح آفاقاً رائعة، لكن المستقبل لا يزال مُضبباً بسبب الخراب الذي تركه الحاكمون السابقون الذين أطاحت بهم تلك الثورات.


الضيعة اللبنانية


تعلن نادين لبكي لنفسها ولبنات جنسها من النساء الحق في الإعلان بصوت عالٍ بامتلاك القدرة على تهدئة النفوس والحيلولة دون بلوغ مرحلة التصادم، وبالفعل لا وجود لحرب أشعلتها امرأة أو قادتها نساء (باستثناء حرب جزر المالفين في الأرجنتين التي قادتها السيدة مارغريت تاتشر ضد الجنرالات الأرجنتينيين وانتهت بإسقاطهم)، والنساء، مثل الأطفال والمسنين، هن الضحية الأولى في الحرب، وفي أي حرب، فهن أمهات يفقدن أبناءً، وزوجات يفقدن أزواجاً وأخوات يفقدن أشقّاء، ونادين لبكي جمعت كل هذه النساء في بوتقة الضيعة اللبنانية القصيّة، وروت حكاياتهن اليومية وسعيهن الدائم والدءوب إلى دفن بنادق الماضي تحت طبقة سميكة من التراب، وربما، أيضاً استخدام تلك البندقية لإطلاق الرصاصة التي تحول دون خروج الابن من المنزل للمواجهة والصراع اللذين قد يرديانه قتيلاً أو سيجعلان منه قاتلاً لابن جارة لم يقترف ذنباً غير كونه من ( الجماعة الثانية).

يعيش في الضيعة مسيحيون ومسلمون ولا يُبعد الجامع عن الكنيسة إلاّ بضعة أمتار، وبرغم أن الحرب (وضعت) أوزارها، وبرغم أن قسيس الضيعة وإمام مسجدها يسعيان حثيثاًً من أجل تهدئة النفوس، إلا أن الشبيبة لا تألو جهداً في الالتحام والاشتباك بسبب أية حماقة صغيرة ودون أي تحكيم للعقل أو المنطق.

الماضي الثقيل

في هذا المشهد يدخل دور النساء، مسيحيات ومسلمات، شابات ومسنّات، متزوّجات وعوانس. فحين تقتل رصاصة طائشة، خارج الضيعة، أحد أبنائها، تعمل النساء المستحيل لوأد الفتنة القادمة تستعنّ بشتى الوسائل لوقفها وتتمكّن من ذلك في النهاية، لكن، وربما لأن الماضي ثقيل بثقل الجبال ولأن عملية التحاسب لم تجر بعد، يصل موكب جنازة ذلك الشاب إلى مفترق الطريقين. ودون الإجابة الواضحة والصريحة على تساؤلات نادين لبكي وجيلها لن يتمكن ذلك الموكب من بلوغ المحطة الأخيرة، وهي المحطة التي تفرض كل الشرائع والتقاليد والأعراف والأخلاق، أن تبلغها تلك الجنازة، أي أن يُوارى الميت في أرض مسالمة.

نادين لبكي، تخلط أوراق القناعات والمعتقدات دون أية إساءة إليها، وتجعل من حماية النفس البشرية الهدف الأول، وهو ليس إلا الهدف الأول لجميع الأديان والمعتقدات السماوية والأرضية، إنها تستعين بالسورة القرآنية التي تقول من قتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً، فدون أن تُنطق بها، هي تقول (من سعى لإنقاذ حياة إنسان، كأنما أنقذ الناس جميعاً). مصنع النجوم

كما في شريطها الروائي الأول، تقدّم نادين لبكي في (وهلأ لوين) مجموعة رائعة من الممثلات والشباب الذين نأمل أن تستفيد السينما اللبنانية من طاقاتهم، فبهذا الفيلم زادت نادين من عدد ممثليها ووسّعت الفضاء الذي تتحرك فيه الشخصيات وتمكّنت من إدارتهم بشكل رائع، زادت عليه براعة السيدات وهجاً إضافيا، وهو فيلم جميل ومثير للعديد من التساؤلات، ولا بد سيثير الكثير من السجال، وهو تأكيد لحضور طاقة سينمائية عربية شابة ومبدعة.