2012/07/04

عابد عازرية لـ«الوطن»: اكتشفت نفسي دون مساعدة من أحد
عابد عازرية لـ«الوطن»: اكتشفت نفسي دون مساعدة من أحد

دارين صالح - الوطن السورية

فنان سوري عالمي، تشبع منذ طفولته بحب الموسيقا، فتربى على الأناشيد الدينية الشرقية (مسيحية وإسلامية)، واكتشف في مراهقته الموسيقا الشعبية الغربية، والأغنية الفرنسية والأميركية والإيطالية والإسبانية، فدرس بعدها الأدب العربي في الجامعة العربية ببيروت، ثم استقر في باريس منذ عام 1967 لينطلق منها إلى اللاحدود، فجمعت أعماله بين ذاكرة موسيقية وروحية شرقية وبين اللغة الموسيقية المعاصرة.... من أعماق الأعماق يخرج صوت عازرية مرتلا، متغنيا بشعر يوقظ الحب والإحساس في النفوس...... كرمته وزارة المغتربين مؤخراً في دمشق، وأكد وزير المغتربين جوزيف سويد أن الموسيقار عازرية يعتبر من أهم المؤلفين الموسيقيين الذي تناول التراث الحضاري للشرق بهدف إبراز الهوية الثقافية السورية... «الوطن» التقت الفنان العالمي عابد عازرية، وكان معه اللقاء التالي:

كرمت مؤخراً من وزارة المغتربين... ماذا يعني لك هذا التكريم؟

إنه لطف كبير من الوزارة والوزير، ولكن بالنسبة لي لا يضيف ولا ينقص شيئاً في حياتي الفنية، لأنني سافرت بمفردي واكتشفت نفسي وحدي دون مساعدة من أحد.

في البدايات كنت متردداً بين عدة مجالات كالأدب والشعر والموسيقا وأنواع الفنون كافة، كنت على يقين أنني سأكون في أحد هذه المجالات، ولكن من يعش في سورية يتدخل به أهله وجيرانه وأصدقاؤه ويقررون عنه ولا يتركون للشخص حرية الاختيار لأن الناس تعيش بشكل مجموعات.

بداية كنت أعيش في وحدة قاتلة ولكن سألت نفسي ما الذي أريده بهذه الحياة؟ ومن لا يسأل نفسه هذا السؤال يأت ويذهب إلى هذه الدنيا دون جدوى.

أنا شخص لست متديناً ولا أؤمن بالجنة ولا بالنار ولكن متأكد أن الجنة والنار موجودتان في الحياة المملوءة بالأشياء السرية التي يجب البحث عنها واكتشافها وإلا فستبقى حياتنا سطحية.

اكتشفت من خلال وجودي بفرنسا أصول الثقافة السورية والشرقية القديمة إضافة إلى اكتشاف الذات والآخر والبيئة.

أنت تعيش في المجتمع الفرنسي المعروف عنه أنه مجتمع مادي، وأسلوبك بالغناء وأغانيك مشبعة بالروحانيات، كيف استطعت أن تعيش التناقض بين مادية المجتمع وروحانية أغانيك وخاصة أن الإنسان يتأثر بمجتمعه؟

أرى المجتمع الفرنسي عقلانياً، وجمهوري كبير في فرنسا، فعندما أقيم أي حفلة في أي مدينة فرنسية يجتمع الآلاف للحضور، وهذا دليل أنني أقدم شيئاً يهمهم.

عندما وقعت عقداً مدته خمس سنوات مع شركة سوني _من أكبر شركات العالم_ سنة 1995، قال لي وقتها المدير الفني للشركة: نهتم بالتعاون معك لأنك شخص مهم جداً للشباب الفرنسي، فأنت تساعدهم على اكتشاف أشياء كبيرة وعلى تثقيف أنفسهم.

تغني للفرنسيين الشعر العربي وباللغة العربية؟

طبعاً باللغة العربية ولكن هناك ترجمات، فجميع أسطواناتي موثقة، وكل أسطوانة فيها 3 لغات على الأقل، النص الأصلي بالعربي، إضافة إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية، حيث لدي ثلاثة مترجمين ينقلون النص للغة الإنكليزية ثم أراجعها من بعدهم، وأترجم بنفسي نصوصي إلى اللغة الفرنسية.

كما أن غلاف أسطواناتي غلاف معاصر لا يشبه أغلفة الأسطوانات العربية المصنوعة من الورق.. فمثلاً أسطوانات أم كلثوم مغلفة جميعها بنفس الغلاف والصورة لكونه لا يوجد منتجون في السوق العربية. ولأن لدي منتجين فأهتم بصناعة الغلاف الذي يشكل جزءاً لا يتجزأ من نجاح أي عمل، فأنا أقدم عملاً معاصراً 100% من الداخل والخارج، والجمهور الفرنسي يأتي ويحضر الحفلة ويدفع نقوداً مقابل الحصول على شيء مهم وثمين.

ما الأسباب التي جعلتك تفكر بإعادة التراث الموسيقي العربي بتوزيعات جديدة؟

لم أستعن بألحان قديمة إطلاقاً، فأعمالي كلها تأليف جديد، أخذت النصوص القديمة فقط

أعدت توزيع نص ملحمة جلجامش وحققت نجاحا كبيراً، أكثر من أعمالك الأخرى! ما السبب برأيك؟

أعتقد أنها أشهر أسطوانة لي في أوروبا، ومع مرور الوقت اكتشفت سبب الإقبال المتزايد عليها، فهي تتحدث عن إنسان تمرد على الآلهة التي قررت أن مصير الإنسان هو الموت، فمثلا عمر الخيام تمرد على المسلمين في ذلك الوقت، والأمر نفسه ينطبق على جلجامش.

وعموماً كل النصوص التي عملت عليها من الروح نفسها تتحدث عن أناس تمردوا على البيئة والمجتمع والإله والإنسان.

بدأت أعمل على جلجامش منذ السبعينيات واكتشفت مع الوقت النسخ المختلفة للعمل حيث يوجد ثماني نسخ، والترجمات الموجودة بالعربي في ذلك الوقت ثلاث نسخ فقط والآن زاد العدد، على حين يوجد بالفرنسي والإنكليزي عدة نسخ....

عندما استمعت للنص بدأت أحلله.... فعندما يعجبني نص لا أقرؤه وحده لألحنه، بل أحاول أن أقرأ أشعار الفترة كلها، فإذا أردت أن ألحن لأبي العلاء المعري يجب أن أقرأ شعر القرن التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر لأفهم ماذا حدث في المنطقة سياسياً واجتماعياً لأفهم النص وأدخل إلى أسرار الحروف والكلمات فالمقامات لا تأتي اعتباطاً..... الغرب علمني أن يكون بيني وبين الأشياء مسافة وألا أنبهر بها، وجلجامش علمني أن يكون لدي في آن معاً جنون بالأشياء وعاطفة كبيرة وانفعال كبير وعقل كبير.... عندما قرأت النص حياتي كلها تغيرت فأصبحت أفكر بطريقة ثانية، فنحن تربينا وتأسسنا توحيدياً، والأشياء أحادية (أب واحد، أم واحدة، وأخت واحدة).

جلجامش يمكن أن تكون متعددة، صرت أقرأ نصوص ذلك الوقت... ولحسن حظي وجدت مطبوعات فرنسية تحوي نصوصاً أدبية وأسطورية، وللأسف الشديد لا يوجد الشيء نفسه بالعربي فقلائل هم الذين اهتموا بهذه النصوص ولكن مع الوقت يزداد عددهم.

فمثلا فراس سواح أعطى هذا المجال الكثير من حياته لذا يجب أن تكون كتبه منتشرة بشكل أكبر علما أنه بالأصل كان مهندساً.

فكلما انتشرت هذه النصوص في بلادنا ودرست ونوقشت في الاجتماعات والمحاضرات والمدارس أمكن أن يعلو مستوانا الذهني ونفهم الإسلام والمسيحية واليهودية بشكل أفضل فعلى ضوء الحضارات القديمة يمكن أن نفهم الأشياء بشكل واضح.

فالديانات التوحيدية قائمة على نماذج موجودة قبلاً، والأنبياء جاؤوا للإصلاح حاملين رسالة إنسانية عالية ولكنها ليست جديدة وإنما نماذج قديمة.

نلاحظ مؤخراً انتشار حركات موسيقية عربية في الغرب مثل تجربتك وتجربة مالك جندلي كيف ترى هذه الحركات؟

هي تجارب شخصية لها عدة دلالات، فمن الممكن أن الفرصة لم تسنح لهؤلاء الشباب أن ينجزوا في بلادهم ما أنجزوه في الخارج، وقد تدل على أنهم سباقون في مجالهم، كما يمكن أن تدل على أنهم يحبون العيش في الغرب، ولكن أهم شيء أن كل عمل وكل نشاط وكل جهد يشكر عليه الإنسان مهما كان نوعه، والوقت هو من يقرر هل هذا الشيء نافع بيولوجياً أم لا؟

ففي القرون الوسطى كان هناك رسامون مشهورون بشكل مرعب ولكن بعد خمسين سنة لم يعد أحد يسمع عنهم، وبالعكس هناك موسيقيون بعد وفاتهم بمئات السنين عرفوا وانتشروا وتألقوا، لأن أعمالهم التي قدموها تعبوا عليها، والموسيقا ليست للمتعة...

سنة 1970 أجرت معي ناقدة أوبرا مقابلتي الأولى، في العدد الأخير من مجلة الأدب الفرنسية، سألتني وقتها عن الموسيقا التي أقدمها ووصفتها بأنها ليست موسيقا عربية! فقلت لها للأسف الناس لا تسمع موسيقا إلا إذا كانوا مسرورين أو مجتمعين، فهم لا يعتبرونها حالة روحية أو ثقافية.

ففي تسجيلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ نسمع الجمهور يصفق، ويصفر طوال وقت الحفلة! والسؤال هنا هل أحد بإمكانه أن يصفر أو يصفق في المسجد أثناء الصلاة؟... فالصلاة لحظة تأمل وتركيز، والموسيقا أيضاً.... ولكن على ما يبدو أن هذه الموسيقا ليس فيها تركيز بالتأليف فهي معمولة للتمتع بالوقت.

هل ترى أن موسيقا عبد الحليم وأم كلثوم ليس فيها تركيز؟

هي موسيقا شعبية صنعت بالأصل للترفيه وليتمتع بها الناس باللحظة ذاتها، ولكن مع مرور الوقت لا تحمل حالة تجعل المستمع يتوسع بالحياة ويتواصل مع الكون على الاطلاق.

إذاً ما سبب النجاح الكبير الذي ما زالت تعيشه هذه الأغنيات والألحان وبعد مرور كل هذه السنوات؟

هذا نجاح شعبي يمكن أن يدوم مئات السنين، لأننا بحالة يرثى لها من اليقظة الروحية، ليس لدينا أحد ممكن أن يسمع

أقمت حفلات في عدة بلدان عربية كنت أشعر بالاستياء عندما يتحدث الناس مع بعضهم أثناء الحفلة... الحفلة الوحيدة التي أقمتها في الوطن العربي والتي كان فيها صمت وإصغاء كبيران، هي آخر حفلة أقمتها في دار الأوبرا السورية في بداية شهر آذار...

فالناس في البلدان العربية ليس لديها قدرة على التركيز، فهم يعيشون في (طوشة) عمرها آلاف السنين.. فلا شخص يستطيع أن يجلس وحده مع نفسه..

الفيلسوف باسكال يقول: (العالم لن يتغير لأن البشر لا يملكون القدرة على البقاء وحدهم ساعة في غرفة مغلقة) وأنا أؤمن بهذا الكلام، على حين في الخارج الأقلية الكبيرة منهم يجلسون ساعة مع أنفسهم باليوم، وهذه الأقلية هي التي تقدم العظمة لبلادهم، فالأقلية هم من يحدثون التغيير.

أحد الصحفيين الأوروبيين سألك سؤالاً مفاده: ما الشيء الذي استطاع العرب أن يصنعوه؟ فأجبته:الحب...!

كانت مزحة لكن أؤمن بها! قال الصحفي لي وقتها نحن بأوروبا اخترعنا العلم والمعرفة والطيران ولكن العرب ماذا اخترعوا؟ فأجبته اخترعوا الحب بكل مجالاته! فصدم ولم يستطع إكمال الحديث.

من يراقب عملك مع الجماعة يلمس هذا الحب الذي تحدثت عنه!

بيني وبين الناس الذين يعملون معي محبة كبيرة، على الرغم من أننا ننتمي إلى ثقافات مختلفة فالحب يلغي الثقافات ويقرب الناس من بعضهم.

لاحظنا في السنوات الأخيرة أنك تزور سورية بشكل سنوي، هل زيارتك لسورية ستصبح طقسا سنويا؟

أزور سورية منذ ثلاث سنوات تقريباً، وأتمنى أن أزور البلد كل سنة بل كل شهر لأن لدي أشياء كثيرة أود قولها للناس هنا من خلال فني، أنا لا أحب مخاطبة الناس بشكل مباشر، بل أعتمد على الإيحاء.

من يسمع قصيدة يا امرأة التي ألفتها ولحنتها بنفسك يشعر بعلاقة مختلفة تجمعك مع المرأة!!

أنا لم أغن لامرأة معينة بهذه النص، وبالنسبة لي أرى المرأة أنها النظير، إلا أنه لا يوجد إنسان بالشرق ولا بالغرب يراها هكذا، فالرجل بشكل عام مخلوق نرجسي وطبعا ليس كل الرجال.

هل ترى أن المرأة أكثر وعيا من الرجل؟

المرأة أغنى من الرجل، فهي دائماً صاحبة نظرة مستقبلية، أما الرجل فرجل واقع لا يرى إلا اليوم لأنه مخلوق عابر، على حين المرأة فيها الحياة والبشرية

فالمرأة: أم وعشيقة خطيرة وهي مستقبلية فهي موجودة للدفاع عن الوجود.

ماذا تحدثنا عن عائلة عابد عازريه؟

أنا لست متزوجاً ولكن لدي ولدين بنتاً وصبياً، في فرنسا لا أحد مضطر للزواج لكي ينجب أولاداً... لدي ولد من أم وبنت من أم أخرى، وأنا لا أستطيع أن أعيش مع أحد أنا لست إنساناً عائلياً.

ماذا تحدثنا عن مشاريعك القادمة؟

لدي أسطوانة ستصدر في 31 آذار ستوزع في كل العالم اسمها ملحمة جلجامش نسخة جديدة 2011

فبعد 33 سنة أعدت توزيعها بكتابة جديدة ولكن اللحن لم يتغير هي عبارة عن نموذج فني يري الناس كيف يمكن للموسيقي أن يعيد عمل قدمه قبل 33 سنة وكيف استطاع أن يطور نفسه خلال هذه الفترة فهي نموذج كبير يعكس طريقة عملي ونموه وتقدمه، سجلتها مع مجموعة موسيقية من سورية ومن فرنسا.

كما هناك مشروع كتبته مؤخراً علماً أنني طوال فترة حياتي المهنية لم أنفذ عملاً كتبته حديثا، فعادة انتظر بضع سنوات، والعمل سيكون احتفالاً بأدونيس الشاعر والمفكر الحر، الذي يقول رأيه بكل جرأة، فيجمعني بأدونيس صداقة واحترام متبادل منذ سنة 1967 قرأت له كتابات قدمها في البحرين والخليج ومصر وقطر والجزائر فأينما يذهب يترك فضائح وراءه