2012/07/04

عبدالسلام النابلسي فيلسوف السينما
عبدالسلام النابلسي فيلسوف السينما


دار الخليج - فنون

ملامحه ليست أرستقراطية، ولا غارقة في الشعبية، هو خليط متفرد وغير متكرر، تركيبة غير شائعة، يملك طريقة خاصة جداً في الأداء وإخراج الكلمات ونطق الحروف، عيناه زائغتان هنا وهناك تبحث عن أشياء لا يراها المحيطون به، يثير انتباه الجميع ويشتت تفكيرهم، وفي الغالب ما يبحث عن أشياء وهمية لا وجود لها . متكبر ومتعالٍ لدرجة تثير الضحك والإعجاب وأحياناً الغيظ، شديد السخرية من نفسه ومن سوء حظه، متحذلق لدرجة تجلب عليه المشكلات والمتاعب، لكنه واثق بنفسه من دون أن يقدم مبررات لذلك . عبدالسلام النابلسي كوميديان من طراز فريد، يخترق كل الحواجز من دون استئذان، فهو لم يعتد أن يقف على الأبواب حتى يسمح له بالدخول، ومن يجرؤ على ذلك، يلقى من التهكم ما يجعله يندم على فعلته . غير قابل للتقليد، ومنطقته لم يحاول أحد الاقتراب منها .

يلتزم بالحوار المكتوب، وأحياناً يضيف ويحذف كيفما يشاء ويصبغ الكلمات بنكهته “النابلسية” التي تجد صدى وقبولاً عند معجبيه، لا يخرج على النص، بل يدخل النص إلى عالمه السحري ويثقله، لا يجد حرجاً في مد يده لاقتراض المال لشراء سيجار فاخر اعتاد عليه .

أسطورة من أساطير السينما المصرية عبدالسلام النابلسي أو “فيلسوف السينما” فنان مصري من أصل لبناني، من مواليد عكا شمالي طرابلس في لبنان، أرسله والده إلى مصر ليتعلم في الأزهر الشريف، غير أنه ما إن جاء إلى القاهرة حتى وجد الفرصة سانحة لتحقيق حلم حياته بالتمثيل، اتجه نحوه وبدأ حياته السينمائية ممثلاً للأدوار الثانوية، ووجد المخرجون الذين عمل معهم أنه أقرب إلى أدوار الشرير، فتخصص في البداية في أدوار الشر الخفيفة بلا عنف، كأن يكيد المكائد لغريمه أو ينصب الشراك له، ثم تحول إلى الأدوار الكوميدية الخفيفة التي وجد فيها نفسه، خصوصاً أنه قدمها بشكل مختلف عن الكوميديا السائدة في ذلك الوقت . ولأنه نشأ وتربى في بيت يقدس اللغة العربية ومفرداتها، ما كان له عظيم الأثر عليه، فاتجه إلى الكتابة في الصحافة، فعمل كاتباً في عدد من المجلات المصرية منها، “اللطائف المصورة، مصر الجديدة، وجريدة الأهرام” وكان يتحدث العديد من اللغات منها الفرنسية .

كانت الكتابة عملاً على هامش عمله الأساسي وهو التمثيل، خصوصاً بعد أن استطاع أن يثبت أقدامه كممثل له حضور، حتى أصبح يطلب بالاسم، بل وصل الأمر إلى أن يطلبه نجوم الصف الأول ويضطروا رلى انتظاره لحين تفرغه للعمل معهم، فقد كان ظهوره في أي مشهد قادر على شد الانتباه، فهو من هؤلاء الذين تعشقهم الكاميرا ولا تترك تفصيلة أو إيماءة من دون رصدها، ربما لأنه لم يسع للهاث وراءها، وأغلب الظن أنه كان ينسى أن هناك كاميرا تدور وتسجل أداءه العبقري، ولو كان يدرك ذلك ما خرجت منه كل هذه الإبداعات .

رغم جماهيرية عبدالحليم الكبيرة، فإن فيلمين مثل “يوم من عمري” و”شارع الحب” اللذين ذخراً بالعديد من الأسماء الكبيرة واللامعة، كان للنابلسي فيهما النصيب الأكبر من “الفرجة”، وأي محاولة لاقتطاع دوره بهما يعني ببساطة افتقادهما للتشويق والمتعة وضربهما في مقتل .

فقد ساعده حضوره الطاغي وإمكاناته التمثيلية وقدراته في أن يحتفظ بمكانة متميزة، وهو ما يظهر بوضوح أيضاً في فيلم “بين السما والأرض” للمخرج صلاح أبو سيف، فرغم وجود أربعة عشر ممثلاً وممثلة داخل “المصعد”، إلا أن شخصية النابلسي تبرز بينهم جلية بكل ما تحمله من توهج وبريق، مؤكداً أن الموهبة الحقيقية لا يمكن إخفاؤها، ولا يستطيع أي شيء الحد من انطلاقها .

استطاع عبدالسلام النابلسي بما له من حضور قوي على شاشة السينما أن يوعز لكتاب السيناريو بإضافة شخصية جديدة في السينما المصرية، وهي “صديق البطل” خفيف الظل، خصوصاً إذا ما كان بطل العمل مطرباً أو شخصية جادة، فكان لابد أن توجد شخصية صديقة بجواره تعمل على تخفيف حدة المشاهد أو الميلودراما ضمن أحداث العمل، وخلال هذه الفترة منذ منتصف الأربعينات وحتى مطلع الستينات أدى عبدالسلام النابلسي تلك الأدوار ببراعة شديدة، لدرجة أنه كان في كثير من الأحيان يسرق الكاميرا  بلغة أهل السينما  من بطل الفيلم نفسه، ولم يخلُ عمل بعد ذلك من وجود هذه الشخصية، لكنه كان يتناولها بطريقة مختلفة أحياناً تورط صديقه في مشكلات كثيرة مثلما فعل في فيلم “ليالي الحب”، وأحياناً يساعده على اجتياز محنة مثلما فيلم “يوم من عمري” أو يقف بجانبه ويسانده لتحقيق حلمه كما في “حكاية حب” .

رغم إجادة النابلسي للغات الإنجليزية والفرنسية والعربية الفصحى، إلا أنه كان له باع طويلة في العامية المصرية الدارجة، وكان لديه مصطلحات ومفردات خاصة به غير مقلدة وغير متداولة على شاشة السينما في هذا الوقت المبكر، والأهم أنه كان يلقي بهذه المصطلحات والافيهات بجدية شديدة ما كان يفجر الضحكات، ربما تكون الجدية التي كان يجسد بها أعماله والمبالغة المحسوبة في المواقف جعلت البعض يخلط كثيراً بين شخصيته الحقيقية وما يؤديه على الشاشة .

جاءت الفرصة الأولى للنابلسي في السينما على يد السيدة آسيا في فيلم “غادة الصحراء” من إخراج وداد عرفي في عام ،1929 وإن كان فيلم “وخز الضمير” في عام 1931 للمخرج إبراهيم لاما هو الذي فتح له أبواب السينما في الثلاثينات الزاخرة في تلك الفترة بعدد من رموز الفن في ذلك الوقت منهم الأخوان “لاما” وتوجو مزراحي ويوسف وهبي وآسيا وأحمد جلال . ولم يكتف بالتمثيل فقط وإنما عمل كمساعد مخرج في العديد منها وخاصة أفلام يوسف وهبي، ولكنه في عام 1947 اضطر للتفرغ التام للتمثيل بعد فيلم “القناع الأحمر” وخاصة بعد ازدياد الطلب عليه بعد انتشار موجة أفلام الكوميديا ذلك الوقت .

كانت بدايات النابلسي في أدوار الشاب المستهتر ابن الذوات ولم يكن مضحكاً في أفلام عدة منها “العزيمة” لكمال سليم 1939 و”ليلى بنت الريف” لتوجو مزراحي 1941 و”الطريق المستقيم” لنفس المخرج 1943 وغيرها . في عام 1955

ظهر مع عبدالحليم حافظ في فيلم “ليالي الحب” ثم “فتى أحلامي” 1957 و”شارع الحب” 1958 و”حكاية حب” 1959 و”يوم من عمري” 1961 .

أما آخر أفلامه مع فريد الأطرش فكان في العام 1956 “إزاي أنساك” كما شارك فاتن حمامة وعمر الشريف في فيلم “أرض السلام” للمخرج كمال الشيخ في العام 1957 وقام فيه بتجسيد دور شديد الإنسانية حيث لعب شخصية رجل فلسطيني يعيش مع عشيرته تحت الاحتلال الإسرائيلي ويبدو طوال الفيلم متخاذلاً وجباناً، لكن النهاية تكشف أنه أول من ضحى بحياته أثناء مساعدة الفدائي المصري في عملية خلف خطوط العدو .

أنتج بعض الأفلام في أواخر الخمسينات ليقوم فيها بالبطولة المطلقة مثل “حبيب حياتي” و”حلاق السيدات”، غير أنه اضطر للسفر إلى بيروت بعد أن طالبته الضرائب بمستحقاتها عن سنوات عمله بالفن، والتي بلغت 13 ألف جنيه في حينها ولم تفلح محاولاته التي بدأها في عام 1961 لتخفيضها إلى 9 آلاف وأخذ يرسل لمصلحة الضرائب حوالة شهرية بمبلغ 20 جنيهاً فقط، الأمر الذي يعني أن تسديد المبلغ المستحق عليه سيستغرق 37 عاماً، وهو ما اعتبرته مصلحة الضرائب دليلاً على عدم جديته في السداد، وهو ما جعل النابلسي يسافر سراً إلى بيروت رغم ارتباطه بفيلم جديد مع الفنان عبدالحليم حافظ، حيث كان مقرراً في نهاية العام 1962 أن يشارك العندليب بطولة فيلم “معبودة الجماهير”، ولكنه سافر واضطر المخرج لاستبداله بالفنان فؤاد المهندس الذي لعب نفس الدور الذي كان سيلعبه النابلسي .

في بيروت عاش النابلسي ملكاً وأصبح عام 1963 مديراً للشركة المتحدة للأفلام وأسهم في زيادة عدد الأفلام المنتجة كل عام في لبنان، ومثل في أفلام “فاتنة الجماهير” و”باريس والحب” و”أفراح الشباب” و”بدوية في باريس” و”أهلاً بالحب” وأهمها مع الفنانة صباح والتي كان شاركها من قبل في أفلام “شارع الحب” و”الرباط المقدس” و”حبيب حياتي” وحقق النابلسي رغبته القديمة في الاستقرار الأسري بعد أن ظل متمتعاً بلقب “أشهر عازب” في الوسط الفني وحتى وصل إلى الستين من عمره وذلك عندما تزوج من إحدى معجباته (جورجيت سبات) وقام بإتمام إجراءات الزواج بفيلا صديقه فيلمون وهبي من دون علم أسرة الفتاة والتي دخلت معه في صراع مرير أرغمته خلاله على تطليقها قبل أن تحكم المحكمة بصحة الزواج ويتم الصلح بينهما .

إذا كانت مشاهد عبدالسلام النابلسي تخللها الضحك والفكاهة والمتعة، فإن مشهد النهاية كان حزيناً ومثيراً للشفقة، فقد ظلت عودته إلى مصر مرهونة بتسوية مع الضرائب، وما زاد من متاعبه وهمومه هو إفلاس أحد البنوك الذي كان يودع به كل ما يملك، ثم معاناته الشديدة مع المرض والآلام التي ظل يتحملها من دون أن يخبر أحداً بها، وكانت دليلاً على نقائه واعتزازه بنفسه، لكن ما يعزي جماهيره الغفيرة أن أعماله وقفشاته وعباراته محفورة وباقية في قلوب من أحبوه .

تلاحقت الأحداث سريعاً في الأشهر الأخيرة خاصة بعد أن أعلن بنك “انترا” في بيروت إفلاسه الذي كان معناه إفلاس النابلسي هو الآخر لأنه كان يضع كل أمواله فيه، فزادت شكواه من آلام المعدة حتى إن الفنانة صباح والتي كانت رفيقته إلى تونس لتصوير فيلم “رحلة السعادة” قالت إنها كانت تسمع تأوهات ألمه من الغرفة المجاورة بالفندق رغم أنه كان حريصاً على أن يفتح صنابير المياه حتى تعلو على صوت توجعاته . كما أنه كان يشعر بدنو أجله لدرجة أنه كان يترك مفتاح غرفته من الخارج، وبعد عودته أخذت حالته تزداد سوءاً إلى أن امتنع عن الطعام تماماً قبل أيام من رحيله حتى كانت ليلة 5 يوليو/ حزيران 1968 حيث لفظ أنفاسه قبل وصوله إلى المستشفى، ولم تجد زوجته مصاريف الجنازة، فتولى صديقه الفنان فريد الأطرش عن طريق شقيقه فؤاد والذي كان يحاول أن يخفي الخبر عن فريد، لكنه علم به من الصحف وانهار مريضاً حزناً على وفاة صديق العمر .

بعد وفاته بأيام قليلة أعلنت الفنانة زمردة وكانت صديقة له، سراً يتعلق بحقيقة مرضه، حيث أكدت أنه لم يكن يعاني مرضاً بالمعدة كما أشاع ولكنه كان مريضاً بالقلب مدة عشر سنوات، وأنه تعمد إخفاء ذلك حتى عن أقرب الناس إليه حتى لا يتهرب منه المخرجون والمنتجون ويبعدوه عن أفلامهم، وأنها عرفت بالمصادفة وذلك عندما أرسل معها بعض التقارير الطبية إلى الطبيب العالمي د .جيبسون والذي كان يشرف على علاج فريد الأطرش، وهو الذي أخبرها بحقيقة مرض عبدالسلام النابلسي من دون أن يدري أن النابلسي يخفي ذلك، وعقب عودتها صارحته بما عرفت فبكى أمامها واستحلفها بأن تحفظ هذا السر وهو ما فعلته حتى وفاته