2012/07/04

عمر أميرلاي: السينما العربيّة يلفّها الحداد عين ساهرة على الواقع السوري (والعربي)
عمر أميرلاي: السينما العربيّة يلفّها الحداد عين ساهرة على الواقع السوري (والعربي)

خليل صويلح - الأخبار

وسط غياب رسمي تام، ودّعت دمشق أمس عمر أميرلاي (1944 ـــ 2011) بحضور حشد من المثقفين والسينمائيين

السوريين واللبنانيين، أمثال: رياض الترك، ميشال كيلو، أسامة محمد، محمد ملص، نبيل المالح، فواز طرابلسي، سمير

ذكرى، عارف دليلة، أحمد معلا، محمد علي الأتاسي، هالة عبد الله، أسامة غنم، خالد خليفة، موفق نيربية، هالة

محمد، سمر يزبك وديما ونّوس... عائلته وزملاؤه ورفاقه بدوا في ذهول، عاجزين عن تصديق ما يجري، فيما كان

جثمانه يوارى في ثرى مقبرة الشيخ إبراهيم، بالقرب من ضريح الشيخ محيي الدين بن عربي على تخوم جبل قاسيون.

وكان الأصدقاء المفجوعون قد توافدوا، أوّل من أمس إلى منزل السينمائي السوري، غير مصدّقين أن القدر يمكن أن ينتزعه بهذه السهولة... وجلسوا في الدار صامتين كما ليحرسوا جسده من العزلة المباغتة.

آخر ما فعله أميرلاي كان التوقيع على بيان تضامني مع «ثورة الغضب» المصرية، ثم سكت قلبه فجأة بعد ظهر السبت.

رحيل مفجع، وموت مباغت لسينمائي راديكالي لم يساوم أو يهادن على مشروعه في تحقيق أفلام تسجيلية مثيرة للجدل.

المسافة بين اللقطة الأولى التي سجّلها في كاميراه الخاصة لتظاهرات الطلبة في باريس 1968، و«طوفان في بلاد

البعث» (2003)، آخر شريط أنجزه، لم تفعل سوى تأكيد بصمته الشخصية. البصمة التي ظلت حاضرة بقوة في خلخلة

اليقينيات، وإماطة اللثام عمّا هو مسكوت عنه. حين عاد من باريس إلى دمشق أواخر الستينيات، بعد دراسة في معهد IDHEC

السينمائي الذي كان معروفاً آنذاك، شقّ أميرلاي طريقاً جديدة في التأسيس لمدرسة خاصة في الفيلم التسجيلي.

كانت أفلام تلك المرحلة أقرب إلى الأفلام السياحية، فقرر أن يذهب إلى الضفة المضادة، مدفوعاً بنظرة طليعية في

مقاربة قضايا وطنية ملحة. هكذا ذهب إلى الفرات في الشمال الشرقي للبلاد، لتوثيق أولى معجزات النهضة

الاشتراكية حينذاك، وعاين عمليات بناء سد الفرات، فكان فيلمه الأول «محاولة عن سد الفرات» (1970). الفيلم

ستمنعه الرقابة، لكن محاصرة حلمه الأول دفعته إلى التوغل أبعد، في مراودة قضايا أكثر سخونة. مع سعد الله

ونّوس، حطّ الرحال في قرية طينية مهملة تدعى «مويلح» في دير الزور، وعايشا الحياة هناك بكل قسوتها. كانت

حصيلتهما شريطاً آسراً بعنوان «الحياة اليومية في قرية سورية» (١٩٧٤). الوقائع الفانتازية عن حياة بشر مهملين و

غارقين في الوحل، تبدو في هذا الشريط كمقطع من مسرح العبث. بالطبع، منعت لجنة الرقابة عرض الفيلم. لكن، هل

أعلن أميرلاي التوبة؟ سيلتقط مجازاً آخر أكثر عنفاً في فيلمه الثالث «الدجاج» (١٩٧٧)، من دون أن يُفاجأ هذه المرة

بالمنع.في الواقع، مُنعت كل أفلامه اللاحقة من العرض محليّاً، إذا استثنينا العروض الخاصة، ليصبح صاحب أكبر قائمة

من الأفلام الممنوعة في تاريخ السينما السورية. مطلع الثمانينيات، هاجر إلى فرنسا على خطى مخرج مارق آخر هو

الروسي أندريه تاركوفسكي الذي عاش ظروفاً مشابهة في بلاده. في باريس، عمل لمصلحة محطات فرنسية، وأنجز

أشرطة سجالية عن شخصيات إشكالية مثل بيناظير بوتو، وميشال سورا، ورفيق الحريري. وسيكمل هذه السلسلة،

إثر عودته إلى دمشق، بمشاركة زميليه محمد ملص وأسامة محمد، فأنجزوا أفلاماً عن فاتح المدرس، ونزيه الشهبندر، وسعد الله ونوس، قبل أن يجهَض المشروع لأسباب كثيرة.

من موقع المثقف العضوي الذي كان يحتله، أراد صاحب «مصائب قوم» في التسعينيات، أن يعيد الألق إلى «النادي

السينمائي» أحد أبرز تجليات الثقافة المستقلة والحراك المدني في سوريا (1974 ــــ 1981). لكن التجربة لم تنجح، بعدما منعت وزارة الثقافة عروض النادي في الصالات السينمائية بحجة وجود ورشة يسارية «مريبة» في إدارة النادي.

يعمل أميرلاي على الحدس في التقاط موضوعات أفلامه. لكن حالما تدور الكاميرا، يكتشف أنه يخوض في حقل ألغام

ورمال متحركة. كاميراه تتوغل في المناطق المحرّمة، وتشتبك مع الواقع مباشرة. سينماه مزيج من الروائي والمسرحي.

أبطاله يظهرون من دون أقنعة، في هذه الوليمة العارية. لعل اللغة البصرية الاستثنائية التي كان يستخدمها في نصب

الفخاخ أمام واقع ملتبس، أشبعت رغبته في الإخلاص للسينما التسجيلية من دون أن يخوض مغامرة روائية واحدة.

ذكر مرةً أنه لو فكر في إنجاز فيلم روائي، سيختار رواية ماركيز «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، لكنه أهمل الفكرة

لينخرط في مشاريع تسجيلية أكثر إلحاحاً على مخيّلته. هكذا أتى فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث» مرثية

لأحلامه الأولى التي حققها في «محاولة عن سد الفرات». أغلق القوس على عالم جحيمي تكشّف عن رؤية مغايرة

عمّا كان يرجوه قبل أكثر من ثلاثة عقود في محاولة لتصحيح الصورة عبر محاكمة قاسية لا تخلو من نقد صارم لأوهامه

القديمة. مكاشفة نقدية ساخنة، لما آلت إليه أوضاع البلاد وصرخة تحذير لتصحيح وضع أكثر منه تصفية حساب. المخرج يحاكم نفسه علناً هنا، بوصفه شريكاً قبل أن يحاكم السلطة.

على الأرجح، هذه الخيبات المتلاحقة، وضعت صاحب «الحب الموؤود» (1983) أمام خيارات أخرى في تفكيك هويته اليسارية، فعاد إلى المربع الأول لفحص علاماته الفارقة، وإزالة الغبش عن الصورة المهتزّة.

هكذا راح ينبش تاريخه الشخصي، وينفض الغبار عن سيرة عائلية ملتبسة، في مشروع سينمائي لم ير النور بعنوان

«جدي العثماني». اكتشف أخيراً جذوره الأولى بخليطها التركي والشركسي والعربي، عن ذلك الجد الذي انحدر من بلاد الأناضول ليستقر في دمشق ويؤسس سلالة جديدة.

مشروعه الأخير «إغراء تتكلم» الذي لم يبصر النور أيضاً، مرثية لحال السينما السورية، من خلال استنطاق ممثلة

جريئة، غامرت في الظهور عارية في فيلم «الفهد» (1972) مع المخرج نبيل المالح، وكيف تراجعت الذائقة السينمائية

لاحقاً، ليمتدّ مقصّ الرقيب، ويمحو المشهد رقم 24 من الشريط، بعد سنوات من عرض الفيلم، بحجّة بند أخلاقي مستعار.