2013/05/29

فــايز قـزق.. مـا زال يحـلم بدمشــق المـقبلـة
فــايز قـزق.. مـا زال يحـلم بدمشــق المـقبلـة


رغد مخلوف – السفير

يختزن فايز في صوته دفء خشبتيْ مسرح «الحمراء» ومسرح «القباني «في دمشق. حفر عليهما ذكريات كثيرة، ممثلاً ومخرجاً.. ربما يستمّد هالته من رهبة الخشبة. هو فنان من طينة مختلفة، وصاحب تجربة خاصّة، لم تكن الطريق ممهّدة أمامه مثل معظم أبناء جيله.

فايز قزق هو ابن الخشبة، وعشيقها الدائم. تجده تارة ممثلاً وتارة أخرى مخرجاً يحرّض الممثلين على التحليق. ورغم ظروف المسرح السيئة في سوريا، إلّا أنّ قزق لم يغادره، وجعل له حيّزاً ثابتاً على جدول أعماله.

في زمن الحرب، يحنّ قزق إلى طفولته في برزة (ريف دمشق). «أذكر أشجار الزيتون ومعاصره في المنطقة. أذكر المكان أخضر بالكامل يُسْقى بمياه نبع منين، وخمس شجرات كينا ضخمة نختبئ خلفها أطفالاً في لعبة الغميضة. أذكر بوضوح البيوت الطينية، والجِمال التي كانت تدخل حارتنا في ستينيات القرن الماضي. أمّا اليوم فقد أكل الإسمنت كل ما سبق، لتبقى المباني البشعة بتصميمها، تاركة بالضرورة بشاعة في الروح، وسقوطاً للوجدان والضمير».

يثق فايز قزق بالشعوب العربية، وعليها وضع رهانه الأساسي، منذ عودته من دراسته العليا في بريطانيا أواخر الثمانينيات. «أنا مؤمن بهذا الشعب. فلولا هذا الشعب، وإرث هذا البلد وعظمته الممتدة من سومر وآشور وأكاد، عقل البشريّة الأول، ما كان من الممكن لي متابعة حياتي هنا. رجائي لشعوب المنطقة أن تحاول النهوض مرةً أخرى على ذلك التراث الذي أسَّس للعالم زخماً فكرياً يعيشه حتى الآن».

ترتسم على وجهه ابتسامة فخر كلما ذُكر اسم ابنه نور. قبل ولادة ابنه، ربطته علاقة صداقة أبويّة بطلابه في «المعهد العالي للفنون المسرحيّة». «في لحظة ولادة نور تغيّر كل شيء في حياتي ابتداءً من لساني الذي ناداه خطأً «عمّو» بدلاً من بابا في أول مرة لمحته بها. لقد عوّضني بقدومه عن والدي الذي توفيّ في السنة نفسها فلم تغب كلمة بابا بغيابه». زوجته راما، رافقته في كلّ محطات حياته يداً بيد، هي «منظّمتي، وحبيبة قلبي، لولاها لكنت تائهاً في فوضى عارمة، وكانت دوماً بجانبي كإنسانة وصديقة». ومع شقيقه أحمد، رسم مشاريع حياتيّة ومهنيّة عديدة، «فهو فنّان بكل معنى الكلمة، وأنقذني في أكثر من مناسبة كمهني عمل على الديكورات في مشاريع مسرحية عدة لي، أهمها مسرحية «حلم ليلة صيف»».

أما على المستوى المهني فلأستاذه فواز الساجر حيّز في الروح لم ولن يحتله أحد سواه. «أعطاني أولى مفردات الحديث عن الفن والمسرح والسياسة. كان شخصاً استثنائياً في حضوره وشجاعاً، لن أنسى يوماً كيف كان يأتي إلى الصف في أيام مرضه الشديد صابراً مكابراً على الألم ليعطي كامل الوقت. هو واحد ممن غيّروا نمط التمثيل في سوريا على الخشبة».

ثبّت فايز قزق أقدامه على الأرض، وترك في الوقت نفسه العنان لرأسه ليحلّق في فضاء مليء بالأحلام. «كنت أحلم أن أكون ذلك الممثل العملاق، ولكن في اللحظة نفسها كنت شديد التخوّف من كيفية الوصول إلى ذلك المكان، من دون فقدان صفاتي كإنسان. لذلك أنا على يقين اليوم بأنّ نجاح الفنان مرتبط بالضرورة بتفعيله حياتياً لكل ما حصّله أكاديمياً».

أحلامه لا تتوقّف. «حلمت أن يشارك الجيل الجديد بآلاف المحاضرات والعروض في سوريا كلها، لكني اصطدمت على الدوام بجملة من العوائق. فوزارة الثقافة في سوريا لطالما كانت ضد اجتماع البشر في مكان واحد كالمسرح، يحرّضهم على الثرثرة الإيجابية. ولذلك كان التلفزيون اللقية التاريخية لجميع الأنظمة العربية لسجن الشعوب العربية في بيوتها ليأتي الكمبيوتر فيما بعد زنزانةً فرديةً للبشر».

بيروت ترتبط عنده بالمسرح أيضاً. أتاها للمرة الأولى في العام 1990، لعرض مسرحيّة «الاغتصاب» على خشبة «مسرح بيروت» (عين المريسة).. كانت يومها خارجةً من الحرب. أما دمشق فلم تفارق أحلام فايز قزق منذ المراهقة، حيث كان يراها في المقبل من الأيام مدينة مذهلة بكل تفاصيلها. «كنا نحلم ونحن طلاب، بمدينة مقبلة بكل مسرحها وروايتها وسينماتها ورقصها. أذكر أنني حينها كنت أصطاد السمك في القابون، إلا أن فساداً ما دخل المدينة، فاختفت الأسماك تدريجياً وجفّت مياه بردى في منطقة المرجة، حيث كنت أركب القوارب مع كل دورة جديدة لمعرض دمشق الدولي. كنا نأمل بظهور مدينة قوية بصناعتها لتكون دمشق التي لا يمكن لهولاكو الغرب المقبل نحوها أن يحبطها أو يهدّ حجارتها. وأنا حتى اليوم أنتظر عودة السمك إلى المرجة لأتأكد أن الفساد قد زال من مدينة دمشق».