2017/04/01

في اليوم العالمي للمسرح: يسقط المسرح (الجزء الرابع)
في اليوم العالمي للمسرح: يسقط المسرح (الجزء الرابع)

بوسطة - بشار عباس 

-4-

القصّة المقيّدة بسلاسل الخشبة

تقع القصّة المسرحيّة في مسافة متوسّطة بين القصّ اللفظي المباشر – كالحكواتي مثلاً- وبين القصّة الفيلميّة؛ هناك الكثير من الحوار على الخشبة: ظروف الشخصية، وماضي القصّة، وسمات الشخصيّة، يجب تقديمها عبر الدّال اللفظي في الحوار، وهناك فعل درامي Action محدود ومجتزأ، وفق مساحة الخشبة أوّلاً، ووفق الفرضيّة التّجريديّة التي تقترحها لمكان حدوث القصّة، وهي بالمجمل ليس مكان طبيعي قصصي.

إنّ فنّ القصّ غير مشتمل في تصنيف المفكّر الفرنسي إيتيان سوريو للفنون السّبعة – ومنها تصنيفه للسينما كفنّ سابع – ولعلّ ذلك يعود إلى اعتماده على رأي بول فاليري في الاستتيقا، فالأخير يقسّم الجمال إلى: طبيبعي، وفنّي، إنّ شجرة على قارعة، أو شمس غاربة - مثلاً - هما جمال طبيعي، وقصده بالجمال"الفنّي"  هو "الصُنعي" الذي تبتكره ذات انسانيّة قامت بصناعته كفنّ، وبما أنّ القصّة في ظرفها الطّبيعي البدهي الأوّلي ليست من صناعة بشريّة، فإنّها لم تظهر بين الفنون السّبعة، مع أنّها مكوّن رئيس للعديد منها، إنّ القصّة موجودة مع الإنسان، يكفي أن يسأل شخصٌ شخصاً آخر: كيف أحوالك؟ ليتوقّع سماع قصّة وقعت دون قصد، أمّا تعمّد صناعتها بغرض القصّ والمتعة الفنيّة، فهذه مرحلة لاحقة في التّاريخ البشري، وهي تتوخّى شروط وظروف القصّة في حدوثها طبيعياً من دون تدخّل، قد نسمع عدد من القصص وقعت لأشخاص، في الواقع، وتمتلك كلّ واحدة منهنّ شروط ومكوّنات القصّة الجيّدة، ولكن لم يصنعها - يؤلّفها - أحد.

لذلك فإنّ القصّة تقع – في شكليها الطبيعي والصّنعي – في مكانها الطّبيعي، أو في أمكنتها الطّبيعيّة، حيث تكون وتعيش الشّخصيّة الّتي قامت بقيادتها كقصّة، وعند تأليفها بنقلها من الواقع مع إضافة تعديلات، أو بتخيّلها بالكامل – وهذا نادر – فإنّ محاكاة طبيعيّتها تكون جزء أصيل من جودتها.

إنّ إحالة الفنّ المسرحي إلى الطّقس أو الملحمة في ظروف النّشوء، لا يُمكن أن تُفهم إلّا كبحث عن عناصر الفرجة الأولى، أو الاتفاق المسبق أن تؤدّي قصّة ما تمثيلاً في مكان محدّد، أمّا كعناصر وتقنيّات فإنّ القصّة سابقة على الملحمة والطّقس، والمسرح لاحقاً، يكفي وجود إنسان ناطق يعي الزمن لكي توجد القصّة، وفي مبحثه القيّم (من تاريخ الرواية) يطرح "حنّا عبّود" تساؤلات افتراضيّة في الاستهلال حول ذلك، فيقول: هل نشأت القصّة بعد أوّل رحلة صيد عندما عاد الإنسان الصيّاد ليجلس  بجانب النّار ويروي لأقرانه وقائع مغامراته مع قيامه بإضافات وتعديلات وحذف؟ وينوّه ب "ليليت" في الميثويولوجيا السومريّة، الربّة التي كانت تتولّى القصّ للأطفال قبل النّوم، ربّما كان ذلك المجتمع يفسّر نعاس ونوم الأطفال كجهود تقوم بها ليليت كل ليلة.

عند النّظر للقصّة بوصفها جمال طبيعي، أو: فنّي – صنعي – يُحاكي حالتها الطبيعية، وذلك حتّى لو ظهرت وفق النوع العجائبي  (سندباد يطير على بساط ولكنّه يعمل ويتنقل ويسعى للتجارة وفق زمنه ومجتمعه) عند النظر إليها كذلك، فلا بدّ من التوقّف عند الفكرة التّالية: إن المسرح – سواء كان في نشأته سومرياً، فرعونياً، فينيقياً أو يونانياً - عند ظهوره وانتشاره كعادة اجتماعيّة، فإنّ فنّ القصّ قد تعرّض لنكسة كبيرة: لم تعد القصّة تحدث في مكانها الطبيعي، بل يجب أن تكون صالحة – دراميّاً – للعرض على خشبة، في مكان ثابت، أمام جمهور مشلول لا يمكنه تتبعها إلى أغوارها السّحيقة.

افتراض الانتقال من مشهد لمشهد لاحق – على الخشبة – لا يمكنه أن يراعي ذلك، إنه يُشير إليه ويقدمه تجريدياً، إذا كان لدينا ثلاثة مشاهد متعاقبة لجان فالجان، في الأوّل يسرق ويضرب الراهب الذي استضافه، وفي الثاني توقفه دورية الشرطة على الجسر، وفي الثالث تعود به إلى الراهب لتسأل عن المسروقات الّتي بحوزته، فّإنّ تتبع ذلك مشهدياً على المسرح سيظهر متكلّفاً، وصعباً، ويجعل قصّة كهذه غير ملائمة – يمكن المناكفة بصنعها على خشبة من باب المناكفة - فالقصّة المسرحيّة لديها شروط محددة.

سوف يختفي عن الخشبة إذاً مشهد حروب طبيعي، ومشهد سقوط من أعلى بناء، مشهد شخص واقف يقرأ رسالة تحت المطر فيذوب حبر الحروف مع المطر، رجل يجد نظارة طبية في بركة سباحة فيُخفيها، سائق صهريج ينزل ويصعد ويتفقد الموتى فيه، طائرة تهبط، صديق يشجع صديقه الخائف على اجتياز النّهر، رجل يركض ويتبعه حشد؛ الأمثلة لما قد يغيب عن الخشبة لا تُحصى، وخياراتها المحدودة تقيّد القصّة، فكيف تظهر طبيعيّة في مكان وشرط غير طبيعيّين؟

الحصول على قصة تحدث ها هنا، أمامنا، على الخشبة – في حيّز محدد – ومع هذا يجب ألّا تبدو أنّها مُجبرة في الحدوث على خشبة، هذا ببساطة شرط الكتابة الجيدة للمسرح.

هيّا إذاً يا سوفوكليس اجعل أوديب يجأر بالصراخ ويندم ويفقأ عينيه وهو واقف أمام الجمهور، ويا شكسبير اجعل شخصيتك يكتشف ويطعن شخصيّة أخرى خلف السّتارة، واجعل العاشقين ينتحران ها هنا أمامنا، بعد أن تعارفا ها هنا أمامنا، ويا هنريك أبسن اجعل شخصيّتك تتردّد في إطلاق النّار على البطّة لتطلقه على نفسها، على مقربة من الجمهور، ويا تشيخوف اجعل شخصيّتك يدخل على أرملة في حداد ليتبارز معها، أيضاً هنا وامامنا، ويا جان جينيه اجعل شخصيّتيك يقلّدان بالأداء المتناوب كيف تعاملهما السّيدة، ثمّ دعهما يشربان السمّ، ويا تنسي ويليامز اجعل شخصيتك تقصّ علينا ماضيها، ثمّ اجلب ذلك الماضي إلينا عبر شخصيّة ثانية إلى الخشبة، نحتاجه مطلوباً هنا، ويا ادوارد إلبي نحتاج قصّة كاملة على مقعدين متجاورين في حديقة، فلا الشخصيّات يجب ان تتحرّك – إلّا ضمن أمتار قليلة مربّعة – ونحنُ الجمهور إنّنا ها هنا قاعدون.

إنّ مساحة حركة الشخصيّة المسرحيّة محدودة، وفرصة أن يلحق بها الجمهور غير قائمة أصلاً، وعليه فإنّ الكاتب المسرحي الجيّد هو الذي يستطيع أن يراعي هذين الشرطين، وفي نفس الوقت لا يظهر أنّه يراعيهما.

ولكن ماذا يعني ذلك حين مقارنة القصّة التي يقترحها النصّ المسرحي بالقصّة الّتي تقترحها رواية ؟ الفيلم يُجيب على ذلك السّؤال، بوصفه عودة إلى مرحلة القصّ اللا لغوي؛ المشهد الفيلمي يُراعي الذهنيّة البشريّة في إدراكها للواقع بطريقة اللاكتابة، الواقع كما تحدث فيه القصّة، دون ليّ عنقها وجلبها مقيّدة ونازفة إلى الخشبة.

لقد بدأ فنّ القصّ باستعادة عافيته من الانتكاسة التي تعرّض لها بفعل المسرح، وذلك عندما أخذت الرواية في مطلع القرن التّاسع عشر تُعلن عن نفسها كنوع أدبي رئيسي ومُهيمن – بصرف النظر عن الف ليلة أو دونكيخوته كتطوّرين روائيين تاريخيين -  وفي منتصف العشرينات ومطلع الثلاثينات أقبل الفيلم على الرواية في الاقتباس والمحاكاة، فعادت القصّة إلى مكانها الطبيعي، توجد مع الأسكيمو، في الصّحراء، داخل مكتب أو على قارعة الطّريق، في خندق، في بحر هائج، توجد حيث تشاء ويجب أن توجد، وليس في المسارح الضيّقة لدى جمهور ثابت لا يتحرّك، المكان القصصي – المشهدي يظهر كما ينبغي، وليس على شكل دوائر أو مثلثات أو أنابيب متدلّية من السّقف.

غير أنّ دراما الشّاشة المحلية لم تسمع بهذا الشّفاء الّذي تعرّضت له القصّة، فلم تزل الأخيرة على الشاشتين الكبيرة والصّغيرة متأثّرة بتفشّي الثّقافة التّنظيريّة المسرحيّة، فالبلاد غائبة عن الشّاشتين، مدن بأكملها لم نرها، بما فيهنّ دمشق العاصمة نفسها، ذلك يطمئن – طبعاً - شركات الانتاج؛ فهي لا تريد أن تنفق كثيراً، والشرط المسرحي عند الكتابة للشاشة هو شرط اقتصادي جيّد، الاستثناءات في ذلك لم تزل نادرة وشبه معدومة، والحديث عن الخروج بالكاميرا من الاستوديو لا يعدو خروجاً إمّا إلى قرية نائية – منخفضة التكاليف – أو إلى حي عشوائي، وفي أحسن الأحوال إلى الحيّ الخلفي من شارع المزّة كيوان: تتخذه الدراما التلفزيونية المحليّة كاستوديو هوليودي في الهواء الطلق.

إن "فبركة" القصّة لكي تناسب – مكان تجريدي محدّد – أو: الخشبة، ليست المعضلة الوحيدة جرّاء هيمنة الذّهنيّة المسرحيّة على الدارما في البلاد، فهناك إشكاليّة اخرى متعدية لذلك، وهي : تعطيل معنى الفعل الدرامي The action بمعنييه، أو بشكليه: الروائي، والفيلمي، إنّ الفعل الدّرامي the Action  الذي لا يستطيع أن يحكي القصّة بمفرده، فيتعكّز على الحوار الشّارح، قد يؤدّي إلى نزوع جماهيري وشعبي في الحديث واللغو، دون "الفعل" وهذه سمة المثقّف المحلّي المُمسرح، وذلك هو عنوان المقال التّالي: الفعل الدّرامي The Action  المعطوب بالحوار.