2013/05/29

كيف غيّـرت هوليوود سينما العالم في غفلة من أصحاب القبضات المرفوعة!
كيف غيّـرت هوليوود سينما العالم في غفلة من أصحاب القبضات المرفوعة!


إبراهيم العريس – الحياة



من تاريخ موارب لبدايات الكنيسة العلموية الأميركية (في فيلم بول توماس أندرسون «المعلم»)، إلى العملية الاستخباراتية/ السينمائية التي أدت إلى مساعدة دبلوماسيين أميركيين على الفـرار من قبضة ثوار الخميني في إيران قبل نحو ثلث قرن (كما في فيلم «آرغو» للممثل بن آفليك وقد تحوّل مخرجاً من جديد)، مروراً بقضية السود الأميركيين وتحررهم خلال القرن التاسع عشر، مرة بالقوة (في «جانغو طليقاً» لكونتن تارانتينو) ومرة من طريق نضالات الرئيس أبراهام لنكولن (في فيلم «لنكولن» لستيفن سبيلبرغ)... وخاصة بقضية الإرهاب وحروب الشرق الأوسط (كما في «نصف ساعة بعد منتصف الليل» لكاثرين بيغلو... ويمكن هذه اللائحة أن تطول لتشمل حكايات أجهزة الاستخبارات الأميركية كما صوّرها كلينت إيستوود في «إدغار»... أو حكايات وول ستريت والعولمة والانهيارات المالية، كما في «كوزموبوليس» لدايفيد كروننبرغ، وأفلام كثيرة غيرها، يبدو واضحاً أن السينما الأميركية –والهوليوودية تحديداً– تزداد أكثر فأكثر اقتراباً من هموم السياسة، ولا سيما في التقاء هذه بالتاريخ، ليندمجا في بوتقة واحدة... ولئن كان من المتوقع أن تخف حدة ظهور هذا النوع من الأفلام السياسية/ التاريخية خلال الشهور المقبلة، فإن هذا لن يكون ناتجاً عن غياب الإنتاج المتعلق بها، بل لأن الموسم الأوسكـــاري المقبل لا يزال بعيداً بعض الشيء، كما لأن مهرجانات تحــــفل عادة بهذا النمط من الأفلام، مثل «كان» و «البندقية»، لم تعلن عن برامجها حتــــى اليوم... ولنضف الى هذا هنا، أن الأفلام التي تشغل الصورة حالياً وتمـــتلئ الصحافة بأخبارها، هي تلك التي تعرض عادة في مواسم الصيف المقبلة، وما يعرض في هذه المواسم إنما هو عرفاً أفلام موجّهة للفتيان والشبان مليئة بالبطولات الخارقة والمغامرات، أي تلك التي تقف على النقيض تماماً مما نحن هنا في صدده.

ما يهمنا هنا هو تلك الأفلام العديدة، والتي قد لا تشكل لائحتنا أعلاه سوى جزء يسير منها، وتتعلق بأفلام تحاول أن تقول هموم أميركا بخاصة، وربما هموم العالم من خلالها... وهي إذا كانت قد اجتمعت معاً بشكل لافت خلال الشهور الأخيرة من العام الفائت بحيث بدت في مجموعها أشبه بالظاهرة، فما هذا إلا للضرورات الأوسكارية، إذ بات معروفاً، وربما بديهياً أيضاً منذ زمن، أن أهل الأوسكار -وهم بشكل عام كل أهل المهنة الهوليووديين تقريباً– باتوا يفضلون أن يعطوا الجوائز الأساسية مرة كل عام لنوع من الأفلام يتسم أكثر فأكثر بالجدية، وهل ثمة في راهن العالم ما هو أكثر جدية من السياسة متضافرة مع التاريخ؟

أيها الأفضل؟


إذاً، حتى ولو قلنا إن العدد اللافت من الأفلام المنتمية إلى هذا النوع المزدوج، قد شكل ظاهرة خلال الشهور الفائتة، نلاحظ اليوم، وبعد انتهاء الحديث عن الأوسكار، أنها اضمحلت تماماً. أما ما لا بد من التذكير به في الوقت عينه، فهو أن اهتمام هوليوود بالسياسة والتاريخ، متفرقَيْن أو مجتمعَيْن، لم يأت كالفطر الشيطاني في صحراء قاحلة غير مهيأة له، فالحقيقة أن هوليوود دائماً ما اهتمت بهما وكرست لهما من الأفلام ما كوّن على مرور السنوات متناً سينمائياً ضخماً نعــــرف انه قد أُشبع درساً وتمحيصاً، كما نعـــرف أنه -في شكل عام- يلوح دائماً نوعاً مسيطراً على معظم اللوائح التي تتحـــــدث عن افضل الأفلام الأميركية في القرن العشرين وما بعده. غير أن الذي لا بد من المسارعة في قوله هنا، هو أن ثمــــة فارقاً كبيراً بين التوجه الفكري لأفلام «السياسة والتاريخ» التي كانت تُصنع في هوليوود خلال النصف الأول من تاريخها –أي تحديداً حتى سنوات الستين من القرن الفائت– وبين ما راح يُصنع بعد ذلك... ولا سيما بدءاً من بدايات العقد السبعيني.

في شكل عام، ولو أن التاريخ الهوليوودي عرف في العقود الستة او السبعة الأولى سينما في التاريخ والسياسة، فإن أفلامهما لم تكن بعد احتجاجية أو نقدية إلا في حالات نادرة، كأن تقف إلى جانب قضايا عادلة –مثلاً حين يحقق جون فورد فيلماً عن القضية الإيرلندية أو آخر عن بدايات الرئيس لنكولن المناضلة -، أو ضد الأعداء، من «حمر» أو «نازيين»... ثم بخاصة حين تبلغ سينما السياسة ذروة لافتة في أفلام لفرانك كابرا -مثلاً- تناصر السياسات الاقتصادية التقدمية للرئيس روزفلت... أو ذروة أخرى تتمثل في فضح الحرب وما تتسبب به –كما لدى ويليام وايلر حين يحقق «أجمل سنوات حياتنا»، او كما في فيلم «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» عن رواية إريك ماريا ريماركي-، أو ذروة ثالثة حين يستند جون فورد نفسه إلى رواية لجون شتاينبك عن الانهيار الاقتصادي الأميركي وكوارثه الاجتماعية في الثلاثينات («عناقيد الغضب»)... والحقيقة أن هذه السينما كانت ذات فعل سياسي ولكن من دون عنصر النقد والاحتجاج. أما هذا العنصر، فكان عليه أن ينتظر سبعينات القرن الفائت وهزيمة أميركا في حرب فيتنام وفضيحتها السياسية/ الأخلاقية المدوية في قضية ووترغيت... لكي تولد حقاً سينما تاريخية/ سياسية حقيقية، ومن داخل هوليوود تحديداً.

أصحاب اللحى


صحيح أن إرهاصات تلك الثورة كانت قائمة من قبل، في أفلام مستقلة أو أقل استقلالاً، ولدت من رحم احتجاجات الطلاب والشباب والمهمشين في سياق ثورات الستينات على الصعيد العالمي، كما من رحم إعادات نظر مدهشة وراديكالية في التاريخ الأميركي نفسه، بما فيه من حروب إبادة ضد الهنود الحمر، وقهر للعبيد السود وتفاوتات اجتماعية مرعبة، وعدوانية على شعوب العالم وما شابه ذلك، غير أن الأمر احتاج إلى لقاء حاسم ومدهش بين هوليوود نفسها وتلك الأعمال التي بدت أولاً خارج السياق. ونعرف أن ذلك اللقاء أمّنه أبناء ذلك الجيل الذين كان يحلو لنا أن نسميهم «أصحاب اللحى» قبل أن تصبح للحى دلالات مختلفة تماماً!!

أصحاب اللحى هؤلاء من الذين ظهروا معاً تقريباً منذ نهاية الستينات وبداية السبعينات، لم يتطلعوا إلى تحقيق سينما هامشية سياسية ذات قبضات مرفوعة من النوع الذي لا يبشر عادة إلا بين المؤمنين، بل إلى غزو هوليوود نفسها، إلى تحويل السينما الهوليوودية –أو جزء منها على الأقل– إلى سينما راديكالية تصل إلى الجمهور العريض المعني وليس الى رهط من الرفاق... وللوصول إلى هذا، عرف أبناء ذلك الجيل، من فرانسيس فورد كوبولا إلى ستيفن سبيلبرغ مروراً بمارتن سكورسيزي وبريان دي بالما وجون لانديس وجورج لوكاس وغيرهم، أن المطلوب لتحقيق «المشروع» إنما هو الوصول إلى توليفة تجمع بين ابتكارات جون كازافيتس الجمالية والإنتاجية، وحصافة ريتشارد بروكس وسيدني بولاك وآرثر بن الإنتاجية، وراديكالية رالف نيلسون وبيتر واتكنز السياسية... وعلى هذا النحو، إذ تم الوصول إلى التوليفة، راحت تولد بالتدريج تلك الأفلام الرائعة المتتابعة التي خلطت بين الترفيه والاستعراض الكبير والفضح والاحتجاج السياسيين ونظام النجوم –مع إصرار على استخدام مختلف جذرياً لهؤلاء– ناهيك بنظم الإنتاج والتوزيع الهوليوودية نفسها.

تصدّ للمحظورات

وعلى هذا النحو ثُورّت هوليوود، حتى وإن راح أصحاب اللحى يقصون لحاهم ويدخلون في دهاليز «المؤسسة التقليدية» بالتدريج... فهم قبل ذلك كانوا، على أي حال، قد أوجدوا متناً من الأفلام «الفيتنامية» التي فضحت الممارسات الأميركية وعدوانيتها هناك (وهو متن نعرف أن كباراً غيرهم، من طينة ستانلي كوبريك ومايكل تشيمينو ثم أوليفر ستون قد شاركوهم في صنعه)، ومتناً من الأفلام التي راحت تتصدى أكثر وأكثر لقيم الحلم الأميركي والعائلة الأميركية والنفاق الاجتماعي، مرة أخرى، ولأكاذيب التاريخ الرسمي الأميركي برمّته...

ومنذ ذلك الجيل الذي كان أول من علّق الجرس في ذيل الثعلب إلى حد ما، راحت تتوالى على هوليوود أجيال متعاقبة من مبدعين لم يعد عليهم إلا أن يغرفوا من جرعات جرأة وتمرد لا بأس من القول إنها كانت هي ما أعاد إلى هوليوود اعتبارها، في وقت كان لا يزال فيه كثر من محترفي كلام الحرب الباردة ومناضلي الخمسينات لا يزالون غير مدركين حجم التغيّر الجذري الذي طرأ على السينما الهوليوودية الأميركية، بين زمن يُنفى فيه المبدعون التقدميون إلى أوروبا (كوبريك، لوزاي، اورسون ويلز وحتى تشارلي شابلن)، وبين زمن جديد تعيد فيه هوليوود تعليم سينما العالم كيف يمكن السينما الاحتجاجية أن تكون مسلية ومقبولة فتُحدث ثورتها العميقة في الذهنيات، حافرة عميقاً في وعي المتفرجين لا في مواقفهم السياسية الآنية المضطربة...

والحقيقة أننا إذا وجدنا انفسنا اليوم عند «ختام» موسم سينمائي بدا حافلاً بالأعمال السياسية المتضافرة مع لون متجدد من السينما التاريخية، فإن ليس في الأمر ما يدهش ولا سيما من عاصمة للسينما تشهد منذ عقود تغيرات وانفتاحات على العالم وعلى التأقلم مع ما هو راديكالي ومتقدم في هذا العالم... وأكثر من هذا: متبحّر في إدانة جزء من الماضي الهوليوودي الخاص وطريقة هذا الماضي في التعاطي، تحديداً مع السياسة والتاريخ!