2013/05/29

لـعـبـا مـعـاً ورحـلا فـي يـوم واحـد وحيد سيف ونبيل الهجرسي.. زمن الكوميديا الأبيض
لـعـبـا مـعـاً ورحـلا فـي يـوم واحـد وحيد سيف ونبيل الهجرسي.. زمن الكوميديا الأبيض


نديم جرجوره – السفير

في يوم واحد، رحلا. اختارا موعداً مع الموت، تاركَين خلفهما تاريخاً من الحكايات الضاحكة. تاركَين خلفهما أفلاماً وأعمالاً تلفزيونية ومسرحيات ساهمت، بطريقة أو بأخرى، في كتابة فصل من تاريخ فن وبلد وتحوّلات. وُصفا بأنهما ممثلان كوميديان. التمثيل الكوميدي الجدّي بات نادراً في اللحظة الراهنة. التمثيل الكوميدي السليم، المبني على ركائز ثقافية وفنية وتقنية، تُحوّل الحركة إلى ضحكة، وتجعل الكلام تلاعباً بديعاً بالكلمات والجمل، من أجل انتزاع ضحكة من مُشاهد أو أكثر. أساساً، هما لا ينتزعان الضحكة، لأنهما بارعان في صناعتها من دون جهد. الجهد، هنا، معقودٌ على بناء هذا التاريخ الكوميدي في الفنون البصرية والمسرحية المصرية، وإن شهدت المرحلة الأخيرة من صناعتها هبوطاً حادّاً في إنجاز أعمال راقية وسوية.

في يوم واحد، رحلا. الممثلان الكوميديان المصريان وحيد سيف (74 عاماً) ونبيل الهجرسي (76 عاماً) اختارا يوم السبت الفائت ليغادرا معاً عالماً غارقاً في تخبّطاته المأساوية، العاجزة عن إعادة تطهير الكوميديا والضحك من أدران التسطيح والتهريج والتفريغ الإبداعي. ليغادرا معاً صناعة مصرية أنتجت روائع، وأفرزت حالات غريبة من التجاريّ الباهت. ليغادرا معاً بيئة معجونة بالقلق والتمزّق، بعد أن عاشت (هذه البيئة) محطّات متناقضة بين رخاء وشدّة، وبين عطاء جدّي وآخر سطحيّ. الممثلان الكوميديان وحيد سيف ونبيل الهجرسي عاينا زمناً أبيض للفن السابع المصري، واختارا منذ البداية تلك الطريق الأصعب في التمثيل: الكوميديا. لم يؤدّيا أدواراً أولى أو أساسية، مع أنهما كانا في واجهة المشهد. لم يكن وقوفهما «وراء» الممثل «البطل» تقليلاً من شأن إبداعي، أدركا تحويله إلى بهجة سينمائية أو تلفزيونية أو مسرحية. أدركا وسمه بطابعيهما، المرتكز على بساطة اللغة في القول، وعلى رهافة الإحساس في تقديم الشخصيات، وعلى ابتكار حراك، في اليد أو الجسد أو الوجه، يذهب بالمُشاهد إلى ضحك مريح وممتع.

لكن، على الرغم من براعته الكوميدية، قدّم وحيد سيف أدواراً مزجت شيئاً من الكوميديا بنوع من الدراما، في أفلام صُنّفت سياسية أو اجتماعية. أفلام ناقشت بؤس المجتمع، أو قذارة الأمن، أو أزمة الضمير. فهو شارك في «زوجتي والكلب» (1971) لسعيد مرزوق، و«الكرنك» (1975) لعلي بدرخان، و«التخشيبة» (1984) لعاطف الطيّب، من بين أفلام كثيرة. أي أن سيف لم يكن مجرّد «كوميديان»، بل ممثل امتلك خاصيّة الكوميديا من دون أن يتخلّى عن تقنية التمثيل وطقوسه وقواعده ونُظمه. ابن المسرح الكلاسيكي، الذي درس التاريخ، انتقل إلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة من دون أن يبتعد عن المسرح. من شكسبير إلى مخرجي السينما الواقعية والاجتماعية والسياسية، الذين واجهوا أنظمة الفساد والقمع والنهب بلغة سينمائية فاضحة، عاش وحيد سيف مراحل التحوّلات المصرية منذ العام 1965، أي قبل عامين على هزيمة «حرب الأيام الستة»، التي (الهزيمة و/ أو الحرب) أطلقت موجة سينمائية انتقادية وكاشفة وقائع وتفاصيل، استمرّت لغاية الثمانينيات المنصرمة، أو إلى ما بعدها بقليل. بهذا المعنى، بدأ وحيد سيف حياته المهنية في لحظة تأسيسية أثمرت هذه الموجة المتحوّلة، بفضل براعة سينمائيين عديدين، إلى حالة متماسكة، جعلت الصورة مرآة بلد وناس.

من جهته، حافظ نبيل الهجرسي على تمثيل كوميديّ بحت، وإن تخلّل حياته المهنية بعض التنويع. عمل مع وحيد سيف في أعمال عدّة، منها مسرحيتا «الزنقة» و«قانون الحبّ»، اللتان أخرجهما الهجرسي نفسه إلى جانب مسرحية ثالثة بعنوان «موعد مع الوزير». في هذه الأخيرة مثّلت إسعاد يونس، التي تزوّجته في بداية شبابه، قبل أن تنفصل عنه لاحقاً. ما جمعه بوحيد سيف يتعدّى مجرّد الزمالة في مهنة تتطلّب جهداً جسدياً واجتهاداً عقلياً لتطوير كياناتها التقنية والفنية. عملا معاً. اشتغلا في عدد كبير من الأعمال البصرية والمسرحية. تألّقا في أزمنة مختلفة. عاصرا استبداد سلطة وقيام ثورة. غابا في لحظة انكشاف مزيد من الاهتراء في جسم المهنة وروحها. نبيل الهجرسي بدا، بوقوفه في الصفّ الثاني، مراقباً يحلّل حضور الشخصيات الرئيسة، فيبرع في اختزال المسافة بينها وبين شخصياته. هذا عمل صعب ومعقّد، في الكوميديا كما في التراجيديا، وإن مالت كفّة الكوميديا في السجل التمثيلي لنبيل الهجرسي، الحافل بأدوار وحكايات. مثّل بإدارة حسن الإمام في «القضية المشهورة» (1978)، كما بإدارة حسن حافظ في «فيفا زلاطا» (1976). فيلمان منجزان في حقبة واحدة، يفترقان في مادتهما وأسلوب عمل مخرجيهما. من فعل الجريمة وسؤال الخطأ والخطيئة ومعنى البراءة والذنب في الأول، إلى ذروة الإضحاك في لعبة منسوخة عن «فيفا زاباتا» (1952) لإيليا كازان، بهدف تحميل النصّ المصري مواقف ضاحكة، ابتعدت كلّياً عن جمالية الأصل الأميركي في الثاني. اختيار هذين الفيلمين من السيرة الفنية لنبيل الهجرسي تأكيد على حرفية الراحل في استخدام مخيّلته الذاتية لإضفاء طابع حميميّ على دور أو شخصية أو حالة. تأكيد على التناقض الواضح بين الفيلمين/ النمطين، القادر على إثارة حماسة الممثل في إيجاد معطيات أدائية لائقة به وبالصنيع الفني، وإن غاص بعض الأعمال في تهريج الكوميديا، لا الكوميديا الصرفة. تأكيد على أن نبيل الهجرسي التقط اللعبة السينمائية بتناقضات أنواعها وأساليبها واشتغالاتها، كما فعل وحيد سيف أيضاً.

في يوم واحد، رحلا. ممثلان كوميديان برعا في الإضحاك، ونجحا في تفعيل الحضور التمثيلي التراجيديّ، وسط انقلاب الأزمنة المصرية، سينمائياً وسياسياً واجتماعياً.