2013/05/29

لماذا لا تعامل الصحافة مثل الدراما؟!...«بقعة ضوء» في نسخته التاسعة.. الدراما كسلطة رابعة
لماذا لا تعامل الصحافة مثل الدراما؟!...«بقعة ضوء» في نسخته التاسعة.. الدراما كسلطة رابعة


سامر محمد إسماعيل – الوطن السورية

لا أحد يدري على وجه التحديد أي رقابة اليوم في سورية، فبعد قانون الإعلام الجديد ومجلسه الوطني-«غير مقبوض» وقانون الأحزاب تبقى الأسئلة عميقة ومحرجة أحياناً عن ماهية الذهنية التي يمكنها البت في شؤون الرقابة

ولاسيما في أتون الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ سنة ونصف السنة، إلا أن نظرة خاطفة على الصحافة السورية وقطاعات الإعلام الأخرى من إذاعة وتلفزيون وسواها ستخبرنا أن سطوة الرقابة ما زالت على حالها من حيث الفهم التقليدي الخاطئ عن وظيفة ما يسمى «حارس البوابة» فهذا لدينا يقبع كحاكم مطلق في آرائه ووجهات نظره إزاء ما هو صالح أو غير صالح للنشر، ما هو ممكن بثه أو من المستحيل تقديمه للمشاهد، وهذا برأيي يبتعد ابتعاداً تاماً عن ماهية الوظيفة التي يضطلع بها «حارس البوابة» حيث يمارس هذا في بلاد أخرى في غير «شرقنا السعيد» مهمة في غاية الحساسية من جهة تمرير الأفكار الجديدة لخلخلة أفكار وبنى فكرية قائمة في مجتمعه، فالرقابة ليست في بعدها التقني مزاولة لمهنة «الشرطي» كما يتصورها البعض، بل هي منظومة من العقول الجماعية المنفتحة على حاجات المجتمع الذي تُشرف على تكوين رأيه العام إزاء قضية من القضايا، سواء كانت ثقافية أم اجتماعية أم سياسية. الحق ليس في سورية رقابة واحدة ولا ذهنية واضحة الملامح، وهذا ما يجعل تناولي لها غير دقيق من جهة تقييمه، لكن السائد في الرقابة السورية الوطنية هو -بشكل عام- متجانس من حيث ارتيابه المستمر من الجديد، وذلك لوجود «مقاومة للتغيير» متمترسة دوماً في بعض العقليات الدوغمائية التي ما زالت تمارس عبر منصبها الوظيفي البيروقراطي «مهامها» دون أن تسمح للقوانين الجديدة لحرية الإعلام بالتحرك قُدماً نحو مفازاتها المُستحقة، وفي هذا الصدد لا يمكن إنكار بعض الهوامش التي تلمع هنا أو هناك في هذه الصحيفة أو تلك تبعاً لرحابة صدر مدير تحرير أو لجهة نظرته الشخصية للموضوع الذي تتناوله المادة الصحفية المُراد نشرها، أو لعلاقة زمالة تنضج في ظل انضمام الصحفي نفسه إلى «جماعات ضغط غير رسمية» موجودة في هذه المؤسسة.

هكذا يمكن بجلاء أن أكشف عن تعطيل مضمر يجري في الخفاء لآليات جديدة تسمح بوجود صحافة سورية بكل معنى الكلمة، لا يعني ذلك أن هناك صحافة أو إعلاماً في العالم غير مقيد بأجندات الحزب أو الدولة أو المؤسسة، فلا وجود في العالم كله لإعلام حر أو محايد، والقاعدة الأكاديمية الجوهرية في هذا الصدد تقول: «الإعلام كلب سيّده» لكن في الوقت ذاته لا تعني كلمة «محايد» هنا أنه إعلام يصر على مخاطبة ذاته، ممعناً في مونولوجيته، إطلاقاً، بل يجب أن يخلق صياغته الخاصة المنفتحة على الآخر، سواء من حيث كان هذا «آخراً» سياسياً أيديولوجياً، أو حتى ثقافياً، لا يمكن الاستمرار في عزف لحن واحد على مدار الأربع والعشرين ساعة، وهذا لن يتم في الصحافة السورية بسهولة؛ تحديداً بوجود «صحفيين موظفين» يفكرون بالراتب والاستكتاب أكثر من تفكيرهم بأن يكونوا حقيقة من حملة «الأقلام الحرة» إضافة إلى التهجير الذي مارسته الإدارات الإعلامية المتعاقبة في السنوات العشر الأخيرة للكثير من الكتّاب والمحررين في الصحف والتلفزيون والإذاعة، وتسلط طغمة من الأميين الثقافيين على بعض مفاصل الإعلام السوري -«بعضهم يعمل محرراً ومديراً بشهادة الكفاءة والبعض يحمل ثانوية عامة ريثما يحصل على شهادة إعلام من التعليم المفتوح»!؟ إضافة للتكسب الإعلامي الذي يربط مصالح بعض المحررين ومعدي البرامج بمؤسسات في الدولة والقطاع الخاص، حيث يتحول المقال الصحفي أو المادة البصرية إلى ما يشبه إعلاناً مبطّناً عن جدارة «مدير عام» أو ألمعية «كاتب» أو «مخرج» أو حتى من حيث برامج وصفحات التنفيعة الرائجة اليوم في إعلامنا العتيد، دون أن نسمع ولو بإجراء يتخذه مجلس الإعلام الوطني حيال ذلك، على الرغم من حجم الآمال التي ينتظرها الكثيرون من هذا المجلس التليد.

هذا الواقع الملتبس في الإعلام السوري من حيث طبيعة الرقابات الموجودة، أو حتى من جهة عقلية الصحفي- الموظّف «ماذا عن دمج الثورة وتشرين في هذا السياق؟ إلى أين وصلت الحكاية؟» تخطته الدراما السورية في العديد من أعمالها، وللمفارقة يمكن أن نجد رقابة أكثر مرونة مهدت لبزوغ أعمال في غاية الجدية من حيث تناولها لقضايا حساسة في المجتمع السوري، بل إن بعض المسلسلات السورية شطحت في مساحاتها الرقابية الفارهة أمام الهامش المسموح به في الصحافة، فمسلسل «بقعة ضوء» في نسخته التاسعة فاجأ الجميع من جهة جرأته في تناول الراهن السوري، حتى راح البعض يقول: هذا المسلسل- «إنتاج السورية الدولية» كتبته المعارضة! وهذا من الممكن استيعابه ضمن ما تمر به البلاد منذ 15 آذار 2011، لكن «بقعة ضوء 9» بتوقيع مخرجه عامر فهد لم يضف فنياً إلى الأجزاء السابقة، فالنمط البصري الجاهز سابقاً ظل على حاله، ويمكنني القول إنه تراجع لجهة تقطيع المشاهد وحركة الكاميرا وتوزيع الفواصل الموسيقية، وهذا أيضاً يمكن فهمه في سياق الهوية البصرية التي انطبعت في ذهن مشاهد هذا المسلسل عبر سنواته التسع، لكن في المقابل كانت الدهشة كبيرة من جرأة النصوص التي تم إخراجها في بقع الضوء» كتب معظمها حازم سليمان وأشرفت درامياً عليها رانيا الجبان» ما ترك الأسئلة تتراكم عن «الخيار والفقوس» في رقابة شبه صارمة على الصحافة، ورقابة بالسمن البلدي الخالص لمسلسل تلفزيوني، صحيح أن «بقعة ضوء» كان جريئاً اجتماعياً طوال سنوات عرضه السابقة، لكن هذا العام تقدم إلى الواجهة، وإن كان هناك بعض النصوص التي من الممكن معالجتها درامياً بشكل أكثر حرفية، إلا أن هذا لم يعد له قيمة أمام الجرأة الاجتماعية والسياسية التي تحلت بها لوحات المسلسل في عشريته الرمضانية الأولى، حتى وصلت الحكاية في إحدى اللوحات التي حملت عنوان «جريدة»- كتبها معن سقباني- للتهكم من الصحافة السورية، حيث أظهرت هذه اللوحة استخدام الجرائد المحلية لمسح طاولات المطاعم وزجاج المحال ولف الساندويش وستر العورات، وتنشيف مقاعد الحدائق العامة، لتصل اللوحة في نهايتها إلى قارئ وحيد لا يقتنيها إلا لحل الكلمات المتقاطعة. لوحة كان من الجدير بها أن تثير حنق الكثير من الصحفيين، زلاسيما العاملين في بعض هذه الصحف التي ظهر اسمها في لوحة «جريدة» وهي للحق مجحفة بحق الصحافة الوطنية التي تعاني ما تعانيه من رقابات صارمة وعقليات جامدة في الكثير من مفاصلها، لكن دون أن ننسى محاولات العديد من المحررين ورؤسائهم في التحايل على الرقابة والشجاعة في أحيان كثيرة.

يحق لبقعة ضوء أن تمد لسانها ساخرة من الصحافة السورية، لكن من يقف وراء تعريض الصحافة لهذا الموقف المحرج؟ وكيف لمسلسل تلفزيوني أن يحظى بهذا «الكرم» الرقابي على حين تجهد قريحة بعض الصحفيين لكتابة مقالات بميزان من ذهب حتى لا ينتبه الرقيب، ولا يحذف من المقال، أو يرفض نشره بالكامل؟ من يضحي دائماً بقيمة الصحافة على حساب التلفزة؟ مم يخاف الرقيب فعلاً؟ ولماذا يخاف من الصحافة على حين يمد للمسلسلات يده على كامل راحتها؟ هل هو الخوف من المكتوب إزاء بصري شفهي يمر مرور الكرام؟ أجل إنه المكتوب المخيف وليس الشفهي العابر، الكتابة خطرة إلى هذا الحد، تكلم ما تشاء وفيما تشاء أن تتكلم، ليس على الكلام رباط كما تقول العامة، لكن أن تكتب فهذا سيقيم علينا عفاريت الأرض، هكذا على الأقل نفهم لقب «السلطة الرابعة» الذي وهبه عالم الاجتماع الفرنسي مونتيسيكيو للصحافة، فصاحبة الجلالة في بلادنا يهينها مسلسل تلفزيوني! عجيب! بل يحرجها، يحرج لعثماتها وارتباك كتابها وهجرتهم ونفيهم إلى جرائد الخارج، اكتب كل شيء دون أي شيء، اكتب لكن صحيح لا تقسم ومقسوم لا تأكل. الآن نفهم لماذا هناك نجوم دراما في سورية يتطاولون على النقد الصحفي وعلى الصحفيين، ويتهمونهم بالأمية، فليس هناك نجوم صحافة سوريون، ليس هناك كاتب عمود واحد في صحافتنا ينتظره القراء ليعرفوا رأيه بما يحدث في بلادهم، وإذا كان ثمة كتّاب فقد تم تحييدهم من الصحفيين الموظفين، أجل قد يوجد بعض المقالات والزوايا الهارب بذكائه الشخصي لكاتبها من الرقابة، لكن ما حجمها؟ ما مستوى انتظامها لقارئ لا يطيق صبراً؟ لا أحد يمكنه معرفة ذلك، فالكتابة في الصحافة السورية تستدعي الحيلة والتورية واللف والدوران، تستدعي التمويه والتخفي، لكن في «بقعة ضوء» فكل الرقابة تسقط، كل التخفي يزول، كل الخجل يذوب، كل المجاملات ليس لها معنى.

أجل من حق الصحافة أن تغضب من هذا «التمييز الرقابي» من حقها أن تصرخ قليلاً لماذا يحدث بنا كل هذا؟ ومن حق «بقعة ضوء» و«نجومه» أن «يتمضمضوا» بسخريتهم من المكتوب المرتهن لعقلية رقابته البائدة، لكن في مقلبٍ آخر ينتظر الكثيرون فرج ربهم لينضموا إلى التاريخ، فالصحافة هي تأريخ اللحظة، إذ ما الذي يفسر كل هذا الكم من المقالات النظرية على نحو «ذكرى رحيل فلان، وحدث في هذا اليوم، وتقارير الملوخية وفوائد العرق سوس»؟ ماذا يفسر وجود كل هذا الجيش من الموظفين في «التلفزيون السوري» الذي يأخذ تقاريره عن الأماكن الساخنة من مراسلي الإدارة السياسية؟ على حين لا نسمع تقريراً واحداً من المراكز التلفزيونية المنتشرة في كل المحافظات؟ ماذا يفعل معظم مذيعي التلفزيون في المركز الإخباري سوى قراءة النشرات عن القارئ الإلكتروني الموجود أمامهم، وتوجيه أسئلة يتم تلقيمهم إياها بالملعقة من كنترول الإعداد؟ لماذا يستعين التلفزيون الوطني بخرائط «غوغل إرث» للتحدث عن حلب وحماة وحمص ودرعا؟ أين المراسلون؟ فعلاً يستحق «بقعة ضوء» في نسخته التاسعة التحية، ويستأهل الإعجاب على أعطياته الرقابية التي انتزعها من الرقيب، أو أخذها هبةً من هبات المفارقة التاريخية، لكن ما لا تستحقه الصحافة هو لوحة «جريدة» التي تناولتها بهذه القسوة، وجلدتها دون أن تنتبه أن ثوبها الرقابي اللافت تمت حياكته بمزاج صُنّاعِه، وفي توقيت حاسم يمكننا إطلاق صفة «تنفيس» عليه لا أكثر ولا أقل، فقط عندما يتقاسم الجميع عطايا رقاباته، ففي لوحة «الله يرحمو-كتبها حازم سليمان» يمكننا استعارة كلام بطل اللوحة الفنان فايز قزق: «كل هذا الموت عندنا وتمثّلونهُ».