2013/05/29

ما بين الأسمرين
ما بين الأسمرين


مارلين سلوم – دار الخليج

“يفرح الكاتب عندما يتجسد له فيلم، لكنني لم أسعد بفيلم “حليم” أبداً، فلقد دفعنا فيه ثمناً غالياً” . هذه الجملة الصادرة عن الكاتب محفوظ عبد الرحمن، تأخذك إلى غياب الأسمرين، عبدالحليم حافظ الذي كتب سيرته محفوظ، وأحمد زكي الذي جسد الدور . وأكثر ما تأخذك إليه العبارة هي حكاية الألم التي جمعت بينهما، وأشياء كثيرة خبأها لهما القدر ليلتقيا عن بعد، ويتواءما دون أن يتعارفا، ولعل ما يغفر لفيلم “حليم” أخطاؤه أنه آخر توقيع لأحمد زكي، وهو يحاول فيه أن يجعل عبقريته في التمثيل تطغى على آلام المرض ووهن الجسد .

ستبقى الذكرى تجمع بين أحمد زكي والعندليب، كما كان الحلم يجمع بينهما، حيث عاش الأول طوال رحلته الفنية، يحلم بتجسيد دور عبدالحليم . لم تشأ الظروف أن يتحقق الحلم، رغم العمل عليه عدة مرات وتأجيله لظروف كثيرة، إلا وقد داهم المرض أحمد زكي، وشارف على ختام رحلته، ليكون مسكها وهو يلبس زي “حليم” وشخصيته .

وكأن القدر كان يخبئ لعبقري التمثيل أحمد زكي أكثر مما يتمناه، وأراد أن يخلّد ارتباطه بفنان كل الأجيال عبد الحليم، فجمع بينهما في موعد الرحيل، لتصبح ذكراهما واحدة . علماً أن مسيرة الفنانين تلاقت في محطات كثيرة: كلاهما عاش الفقر وجسده على الشاشة، وكلاهما عانى وعاند حتى وصل إلى القمة .

كلاهما عرف كيف يصل بفنه إلى الإنسان البسيط الأمّي في الأرياف، وتجول في كل الشوارع والمدن حتى وصل إلى القصور والملوك والمثقفين في كل بلد عربي وفي كثير من بلاد الغرب أيضاً .

بعض “الحظ” يفصل بين العبقريين، فالطرب عند العرب ما زال أكثر رواجاً من التمثيل، وعبدالحليم ما زال يفرض نفسه على الأجيال والأسواق، فتراه في أفلام الأبيض والأسود التي خصصت لها بعض القنوات حصة كبيرة لعرضها يومياً، وتسمعه من خلالها أو عبر بعض الإذاعات، فهو ما زال “مطرب الرومانسية” الأول الذي تتردد أغانيه في كثير من المناسبات وفي الأمسيات . بينما نادراً ما تشاهد فيلماً لأحمد زكي، بل تشتاق إليه وإلى إبداعه في أداء الأدوار، وتشتاق إلى غضبه وثورته وضحكته المميزة .

أحمد زكي ترك وراءه أكثر من مجرد اسم ونجاح، وأكثر من مجرد أفلام محفوظة في شرائط . ترك ابناً ظلمته الحياة بوفاة والدته مبكراً، ووفاة أبيه لاحقاً، لكنها أعطته من ملامح “النمر الأسود” كثيراً، وزرعت فيه موهبة ظهرت حقيقة ملامحها أخيراً، بعدما فشل في فيلمي “حليم” إلى جانب والده، وفي “البلياتشو” . لم يستسلم الشاب، بل عمل على نفسه ليثبت أنه موهوب بالجينات ويستحق الميراث الوحيد الذي تركه له أبيه، وقدم نفسه بشكل مختلف في مسلسل “دوران شبرا”، الذي يعد الولادة الحقيقية للفنان هيثم أحمد زكي .

الصحافة تحتفل كل عام بذكرى حليم وتفرد له الصفحات، لكن البعض يصر على تصويره وكأنه كان “ملائكياً” في الواقع، ولا نفهم لماذا خصصت له إحدى المجلات عدداً كاملاً لتظهر الجانب الإيماني فيه، وكم وكيف كان يصلي؟، وهو الذي عاش عمره كله رافضاً إظهار ما يفعله من أعمال إنسانية للعلن، ورافضاً أن تُلتقط له الصور وهو يصلي، لأنها لحظات خاصة جداً . فهل يحاول البعض أن يُثبت أن عبد الحليم مطرب جيد يمكننا سماعه الآن “لأنه كان مؤمناً”؟ . وهل يحتاج العندليب اليوم إلى من يسوّق له ويُظهر تلك المحطات الإيمانية كي يعترف به من ينادون بهدم الفن ونبذ الفنانين؟

عبد الحليم كان إنساناً وكفى . تحلى بكل الصفات الإنسانية، بإيجابياتها وسلبياتها، وهذه نقطة مهمة لأن بعض محبي الفنانين يصورونهم في مخيلتهم وكأنهم “ملائكة”، ويحاسبونهم وفق هذه الصورة، وغير مسموح لهم أن يُخطئوا أو يتحرروا من قيود المهنة . بينما هم ليسوا كذلك، والدليل معاركهم خلف الكواليس مع منافسيهم، إضافة إلى ما كتبه عبدالحليم في خواطره السرية التي لم يُكشف عنها إلا حديثاً، حيث قال عن نفسه: “تسيطر عليّ روح الشر في بعض الأحيان، فليس هناك إنسان تخلو روحه من أفكار الشر، الشطارة هي كيف يتغلب الإنسان على هذه الأفكار” .

ويبدو الصراع لدى العندليب في حديثه عن النجاح إذ يقول: “النجاح لا يصنعه الأعداء ولا الأصدقاء، النجاح يعتمد على الموهبة والإرادة، إذا كانت الموهبة موجودة وتسندها الدراسة، فليس هناك قوة يمكن أن تمنعها من الوصول إلى النجاح” . وفي مكان آخر يدوّن: “لو لم يضمر الناس العداوة لي لكنت أكثر نجاحاً بكثير مما أنا عليه” . ويبدو أن العبارة الأولى كتبها وهو في قمة السعادة والنجاح، بينما الثانية كان يعيش فيها إحساساً ببعض التراجع في التفوق .

أحاسيس طبيعية وصراعات يعيشها الفنانون كما يعيشها أي إنسان عادي، ومن المؤكد أنه كانت لأحمد زكي أخطاؤه أيضاً، لكن الروح الطيبة هي التي سيطرت على الراحلين، وميزت عطاءهما وكرمهما . فلنحفظ لهما ما ظهر من أعمالهما، ولتكن ذكراهما طيبة بلا متاجرة، ومن فنهما يستقي أهل المهنة دروساً في كيفية تطوير الموهبة . كل منهما مدرسة في مجاله، يجب أن تتوقف عندها الأكاديميات لدراسة “الظواهر والعلامات الفنية المميزة، واستمرار نجوميتها حتى بعد الرحيل” .