2012/07/04

محمود حميدة: رجل صناعة السينما في حوار شامل على «بوسطة»
محمود حميدة: رجل صناعة السينما في حوار شامل على «بوسطة»

الميزانيات لا تصنع مهرجاناً سينمائياً بل الموقف العقلي ما يفعل ذلك


نحن نعتبر مهرجان السينما عرساً فإذا مات عزيز لدينا ألغينا العرس كله


فيلم "جنة الشياطين" قدّم قياسات عالمية في الصوت والصورة لأول مرة، وهو ليس للبيع


غياب القانون الناظم لصناعة السينما في مصر هو سبب تدهورها منذ إنشائها حتى الآن


لو لم أشارك في الأفلام التجارية لما اكتسبتُ الخبرة التي أمتلكها الآن


في موقع التصوير أقوم بقراءة الشعر والاستماع لموسيقى معينة تناسب خلفية الشخصية التي أؤديها


أنا غير مرتاح لتواجدي في التلفزيون ولا أعرف كيف سأظهر على الشاشة الصغيرة


الشغل في السينما أصبح الآن أضعف بكثير من السابق بالنسبة لي


لا أحد أو شيء يستطيع إغرائي لعمل فيلم، كما لا تستطيع أن تغري نجاراً أن يصنع لك غرفة نوم أو خياطاً أن يعمل لك جلباباً


المغامرة أساس وليست هامشاً حتى نكتشف أنفسنا من خلال الآخرين


ما أهدف إليه بالدرجة الأولى هو أن أكون مسلياً جيداً بنظر السيد المتفرج وإلا فأنا ممثّل فاشل

حاوره: علي وجيه

محمود حميدة سينمائي خاص جداً ورجل صناعة محنّك لا يُشقّ له غبار. مدافع شرس عن السينما، ينفق من ماله الخاص لتطويرها، وقد يدخل أفلاماً بلا أجر لأسباب يجهلها هو نفسه.

أرشيفه السينمائي الضخم يجعل التعريف به أو التقديم لحوار معه بسطور عابرة أمراً لا طائل منه. لعب دور جثّة متغيرة الانفعالات في الفيلم التجريبي الهام "جنّة الشياطين" من إنتاج شركته الخاصّة «البطريق»، وهو "عدلي" الذي خاطب الله مباشرةً في مشهد لا يُنسى في "بحب السيما"، وهو مصدر مجلة «الفن السابع» قبل أن يغلقها لأسباب تمويلية وإدارية. باختصار هو رجل السينما وخادم الصناعة المخلص دائماً.

دائماً ما يخصّنا حميدة، الرفيق الروحي للشاعر الراحل فؤاد حداد، بحوار مطوّل وصريح للغاية قبل السفر مباشرةً. حصل ذلك في السنة الفائتة بعد منتصف الليل، وتكرّر الأمر هذا العام صباحاً بعد مهرجان دمشق السينمائي الثامن عشر، طالباً عدم التصوير والاستعانة بصور الحوار الأول، ليكون الحديث أقرب إلى الدردشة الشخصية في صباح دمشقي دافئ.

ملاحظة: يُنشر على «بوسطة» بالتزامن مع ملحق «تشرين دراما»، إضافةً إلى بعض الحوار السابق المنشور سابقاً في جريدة «شرفات الشام».

كنتَ مؤخّراً في مهرجان أبو ظبي السينمائي لحضور العرض العالمي الأول للفيلم الوثائقي "جلد حي" الذي أنتجته للمخرج الشاب فوزي صالح.. ما رأيك بالمهرجانات السينمائية الخليجية ذات الميزانية الكبيرة؟ ما مدى تأثيرها على المهرجانات التقليدية كدمشق والقاهرة؟


مبدئياً، الميزانيات لا تصنع مهرجاناً سينمائياً، بل الموقف العقلي ما يفعل ذلك. نحن نعتبر مهرجان السينما عرساً، فإذا مات عزيز لدينا ألغينا العرس كله، أي قد لا يكون السبب عملياً بحتاً كما يُفترَض. يهمّنا السياسة والاقتصاد والسياحة وكثير من العناوين تحت بند المهرجان، ونغفل السينما نفسها كصناعة. يقولون لك «عرس السينما» وعبارات احتفالية كثيرة، في حين لا نسمع شيئاً عن برنامج عملي تطبيقي لدعم الصناعة ومناقشتها.

مهرجانات الخليج جلبت خبراء عالميين لإدارتها وتوجيه دورها نحو دعم الصناعة بشكل فعلي، وهذه نقطة تُحسب لها.

هل أنت مع المطالبين بإلغاء مهرجان السينما في سورية أو حتى في مصر؟


نحن ما زلنا في طور المراهقة في تنظيم هذه المهرجانات والاستفادة منها. قلتُ لك سابقاً: علينا أن نسأل أنفسنا: هل يوجد خلل؟ نعم يوجد. هل أصلحناه؟ بالتأكيد لا وأنا أشهد، لأنّ الوعي لم يرتقِ لهذا المستوى من العمل. وبالتالي عندما أُسأل عن رأيي بالمهرجان أقول: لا أمتلك أدوات تساعدني لأعطي تقريراً وافياً، لأنّ حيثيات العمل وآلياته لا تسمح بذلك. مثلاً، ما الإضافة الاقتصادية التي قدّمها سوق المهرجان؟ ما فائدة التقاء الناس ببعضهم البعض؟ للأسف ليس لدينا تقارير دقيقة بذلك.

أنا من المعترضين على مهرجان القاهرة مثلاً بسبب خطأ في الأداء، ولكن هذه وجهة نظري كشخص. لستُ أدعو لإغلاق المهرجان بل لإصلاح مكامن الخلل فيه، لأنّ صناعة المهرجانات عندنا لا زالت في طور المراهقة كما قلت.

ألا تعتقد أنّ غياب الجانب العملي عن هذه المهرجانات من أهم المآخذ عليها؟

هذا صحيح. هي تراتبية خاطئة من الأساس. اطّلعنا على الهيكل التنظيمي لمهرجانات السينما الدولية، فوجدنا أنّ هناك مسابقة وتظاهرات وسوقاً دولياً للفيلم، وقلنا: «يلا نعمل كده». هكذا، دون خطّة أو بروتوكول واضح. عندما أذهب إلى سوق كان أو برلين، لديّ تفصيل كامل لما سأفعله هناك قبل أن أغادر مصر أصلاً. أعرف مسبقاً ماذا سأبيع، وماذا سأشتري، ومَن سأقابل.

إذاً، هل يمكن القول إنّها مهرجانات «تنظيرية»؟


بالتأكيد. لقد أصبح كل شيء كذلك وليس السينما وحدها. انظر إلى الفكر مثلاً. نستخدم مصطلحات غربية لأنّنا لا نجد تعريباً لها. محمد أركون، رحمه الله، كان يكتب بمصطلحات فرنسية لعدم وجود مقابل عربي مناسب لما يريد قوله. الباحثون العرب ينجزون دراسات نظرية بحتة لا تنطبق على الواقع.

إذاً، هذه الحالة تتجاوز السينما. الكل يغطّي على (بلاوي) الآخر. الناقد يغطّي على الفنان والعكس صحيح لأنّ كل شيء مرتبط ببعضه. تجد أنّ الشاب يسافر إلى الخارج للدراسة، فيدرس كيفما اتفق ليعود إلى بلاده عالماً، وهي كلمة كبيرة. البعض يدرس فعلاً ويصبح خبيراً في مجاله فيبقى هناك، لأنّه لا يجد فائدة أو جدوى من عودته وعلمه. يجلس في بيته لا يريد التدخّل من مبدأ: «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما». بالنتيجة، يسيطر أنصاف المتعلمين وأرباع المثقفين على الساحة لينتجوا جيلاً أسوأ وهكذا. وفي النهاية يقولون لك «أصل لو كنّا» و«يا ريت»، وهذا كله بعد فوات الأوان.

ما الذي دفعك للرجوع إلى الإنتاج السينمائي في "جلد حي" بعد فترة انقطاع طويلة؟

عندما أسستُ الشركة، أنشأت فيها إدارة لإنتاج الأفلام التسجيلية. هذا النوع صعب التوزيع، لكن قمتُ بذلك على أساس توفير «بضاعة» منظّمة ومتنوّعة، وربطها كلها بعملية التوزيع، وبالتالي تدور العجلة ويصبح الإنتاج مستمرّاً لشتى الأنواع.

ما حصل أنّ مدير هذا القسم حسام علي، وهو سينمائي عتيد، توفّي بعد شهر من تولّي مهامه. عيّنتُ بديلاً له لم يكن مناسباً، فألغيتُ القسم كله. بعدها، صرتُ أقابل شباباً بالصدفة يريدون إنجاز مشاريع سينمائية، يكون بعضها جيداً. يبدأ الأمر باستشارتي حول كيفية تنفيذ المشروع، فأقوم بإرشاده ليطرق كل الأبواب المحتملة ويتعرّف على المنتجين والسينمائيين والوسط بشكل عام ودورة العجلة الإنتاجية. بعد كل هذه الدورة، أتصدّى أنا لعملية الإنتاج. في "جلد حي"، حصل المخرج على دعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون أيضاً، وكانت النتيجة مرضية في النهاية.

هل كنتَ تنظّم مسابقات لأفضل سيناريو كي تقوم بإنتاجه؟

جرّبتُ ذلك في أحد السنوات. مدير مكتبي آنذاك، رحمه الله، هو مَن قام بذلك قبل أن تظهر الصعوبات. يجب أن يكون هناك لجنة قراءة معتبرة، وأن يكون عندها الصبر الكافي لقراءة الجيد والرديء وما إلى ذلك. لم تنجح التجربة فلم نكررها.

تستعد للمشاركة في فيلم "ليه؟ الحياة حلوة" الذي تنتجه شركة قبنض السورية ويخرجه أنور القوادري، بمشاركة ممثلين سوريين ومصريين وبريطانيين. حدّثنا عن هذا المشروع الجديد؟

المشروع ما زال في البدايات، وحتى الآن ليس لديّ صورةً واضحةً عنه. نتحدّث عندما تتضّح الأمور بشكل أفضل.

"تَلكَ الأيام" عنوان آخر أفلامك المعروضة. الفيلم لم يُستقبل جماهيرياً ونقدياً على المستوى المطلوب. ما السبب برأيك؟

المخرج جرّب وقدّم ما لديه في هذا الفيلم. استوحى من الرواية الأصلية ما رآه مناسباً من منظوره الخاص بغض النظر عن اتفاقه مع الرواية. البعض تحدّث عن استعراض زائد، وآخرون انتقدوا التوزيع الموسيقي الذي يُنجز بأسعار بخسة في السينما المصرية بحجة ضغط التكاليف. قلّة الدعاية أو انعدامها أثّر على جانب التلقي، وخصوصاً عند النقاد والمتابعين. في النهاية، قدّم المخرج وجهة نظره بالطريقة التي تناسبه.

برأيك، هل أصبحت السينما كفن معرفي وجمالي مهددةً بشكل جدي كما يرى بعض النقاد؟

إذا كنتَ تقصد من حيث القيمة فلا أتفق مع هذا الطرح، لأنّ القيمة لا يعادلها شيء، وبالتالي لا يقهرها شيء، وهي تبقى قيمة بغض النظر عن المحيط، ولكن إذا كانت بعيدة عن متناول الناس فهي ليست سينما، لأنّ الدائرة لا تكتمل إلا بوجود الجمهور.

"جنّة الشياطين" واحد من أهم أفلامك على الإطلاق (إنتاجاً وتمثيلاً)، ولم يُشاهَد على المستوى الجماهيري بالشكل الكافي إلى أن عُرض مؤخراً بشكل محدود على بعض الفضائيات. لماذا؟

هذه النوعية من الأفلام يُطلق عليها في المجتمعات المستقرّة (أفلام عالية الجودة الفنية The very artistic films)، ذات أهمية وظيفية هي استشراف أدوات المستقبل في الصناعة، ويكون صنّاعها على دراية تامّة بأنّ عائداتها لن تأتي مباشرةً كأيّ فيلم آخر.

نحن ليس لدينا مثل هذا الوعي المتطوّر، بل عندنا وعي مغلوط يتمثّل بعمل أفلام فنية للمهرجانات بهدف نيل الجوائز. هذا كلام فارغ.

فيلم "جنة الشياطين" قدّم قياسات عالمية في الصوت والصورة لأول مرة كإنتاج مصري خاص، وطرح موضوعاً غير مطروق سابقاً، بوجوه جديدة في التمثيل والعمليات الفنية مثل المونتاج، فكان الفيلم الروائي الأول لخالد مرعي كمونتير مثلاً. وهذا ما أقصده بالأفلام التي تستشرف أدوات جديدة وسينمائيين جدد من أجل مستقبل الصناعة.

هل صحيح أنّك لم تبع الفيلم حتى الآن بعد سنوات عديدة من إنتاجه؟

هذا صحيح. اختلفتُ مع الموزّعين بعد إنتاج الفيلم على السعر، فقلتُ لهم: هذا الفيلم ليس للبيع. فرانك سيناترا اكتشف أنّ أحد أفلامه غير مباع بعد 18 عاماً على إنتاجه، فقرر عدم بيعه والاحتفاظ به كما هو. "جنة الشياطين" ليس للبيع أيضاً، بل أقوم أحياناً ببيع حقوق عرضه لعدد معين من المرات على بعض الفضائيات. الفيلم يُستخدم كذلك للدراسة في بعض الأكاديميات الدولية التي تدفع مبلغاً رمزياً لقاء حق استخدامه في المعمل وما إلى ذلك.

بالحديث عن مستقبل الصناعة، ما الذي أدّى إلى تقلّص الإنتاج السينمائي المصري إلى الدرجة التي نراها الآن؟ ما الحل للخروج من هذه الأزمة؟

قلتُ لك في الحوار السابق إنّ غياب القانون التشريعي الناظم لصناعة السينما في مصر هو سبب تدهورها منذ إنشائها حتى الآن. تظهر ورشة سينما ثمّ تموت لتظهر أخرى وهكذا دون تراكم أو تطوّر. مرّ على صناعة السينما في مصر 2000 منتج على الأقل. دخلوا وخرجوا دون أن نعرف مَن هؤلاء.

مَن استمرّ اعتمد على المعرفة والرؤية المستقبلية ورأس المال. أحمد بدرخان رجل صناعة، اتجّه نحو إقامة البنية الأساسية، فقام بإنشاء استديو الأهرام. استديو مصر قام بإنشاء معامل وتجهيز بلاتوهات. استديو نحاس شارك كذلك. تقرأ «استديو ناصبيان» كثيراً جداً في الأفلام القديمة. هؤلاء رجال بنية أساسية، منهم مَن تعلّم في ورشة، وقلائل جداً درسوا السينما أكاديمياً في الخارج. قامت هذه الورش بالاتفاق مع بعضها والعمل وفق عرف اجتماعي، أي بلا قانون تشريعي واضح. هكذا، عندما نختلف على عقد معين ونلجأ للقضاء، فنحن بالنسبة للقاضي «عيال» ضربوا بعضهم لا أكثر.

سنبقى نتحدّث عن أزمة السينما والإنتاج، ونتشاجر في ظل غياب القانون الذي يؤطّر علاقات الأفراد والمؤسسات مع بعضهم، ويحدّد الحقوق والواجبات، ويوّثق الوظائف. يتخرّج الطالب من معهد السينما دون أهداف محددة يسعى لتحقيقها، ودون أن يدرك مسؤولياته بالضبط، فنصبح كلنا مسؤولين مسؤولية عشوائية في هذه الحالة.

مَن يقف ضد إصدار قانون تنظيم الصناعة يريد أن تبقى الأمور مشاعاً، وأن نظل نحن كالغجر نرقص ونغني بين حين وآخر.

هناك ملاحظة لافتة تتعلّق بأرشيفك السينمائي. في أحد الأعوام قدّمتَ 11 فيلماً، ثم قلّ العدد في الأعوام التالية وصولاً إلى فيلم كل بضعة سنوات. ما سرّ هذا التفاوت في الكم؟

ما دمنا نتكلّم عن الصناعة، سأوضّح خطأ آخر في آلية التوثيق والتصنيف. الفيلم، كمستند وورق، يمرّ إلى عدّة جهات أثناء إنجازه. هناك مستند يخرج من المعامل عند بداية الإنتاج، وآخر عند نهايته، وثالث من غرفة صناعة السينما، ورابع من الرقابة، وآخر إذا أردنا تغيير اسم الفيلم. والنتيجة أنّ الفيلم يدخل التعداد باسمَين، مثلاً، بوجود 4 مستندات بتواريخ مختلفة، وبالتالي قد يختلف عدد الأفلام على الورق عن الواقع، وتاريخ الإنتاج يصبح محل شك لدى إجراء دراسة أو إحصاء. هذا الشرح لأقول لك إنّ عدد الأفلام في السنة التي تتحدّث عنها 10 فعلياً وليس 11 كما على الورق.

أذكر فترة عملتُ فيها 28 فيلماً خلال 3 سنوات، علماً أنني لا أجمع بين فيلمَين في نفس الوقت. الاستثناء حصل في مرة واحدة توقف فيها فيلم كان من إخراج سيد طنطاوي، وكان باق لي مشهد واحد فدخلتُ فيلماً آخر. عندما دارت عجلة الفيلم الأول مجدداً، صوّرت المشهد الباقي في نفس فترة الفيلم الجديد.

سر التفاوت الكمّي هو أنّه كان لديّ مخزون كبير في البدايات، فكنتُ قادراً على إنتاج الشخصية والتخلص منها سريعاً للدخول في شخصية أخرى. كان عندي جلد وصحة لبذل الجهد الأكبر والقيام بالاسترخاء الأكبر خلال وقت قصير. كنتُ أتخلص من الشخصية السابقة وأرسم الجديدة خلال يومَين، وأقوم بتمرينها على الاقتراب والابتعاد في يوم، ثم آخذ يوماً واحداً بعد انتهاء التصوير لمسحها تماماً.

قلّ عدد أفلامي بالتدريج آنذاك، فلدينا 28 فيلماً خلال 3 سنوات و33 خلال 5، أي أنّني خلال عامَين قدّمتُ 5 أفلام وصولاً إلى فيلم كل سنتين أو ثلاثة الآن. يبدو أنّ هذا هو التطوّر الطبيعي.

خلال هذه المسيرة الحافلة، لامك البعض على بعض الأفلام التجارية التي لا تتناسب مع أهميتك وإمكانياتك. كيف تنظر الآن إلى تلك الأفلام؟

لو لم أدخل تلك الأفلام وغيرها لما اكتسبتُ الخبرة التي أمتلكها الآن. كان لدينا مخرج اعتبر مثالاً للتهافت. أنجز فيلماً خلال 6 أيام باستخدام 17 علبة خام فقط. في تلك الفترة قال لي محمد خان عنه: إذا كنتَ تظنّ أنّني مهم بالنسبة للسينما، فهذا الرجل يمتلك الأهمية نفسها. وقتها لم أفهم الجملة، ولكن لاحقاً استوعبتُ ماذا يعني العمل، وماذا يعني أن تجرّب وتنتقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وتقفز من سابع أرض إلى سابع سماء. في مرة شوهد نجيب محفوظ يقرأ لكاتب يُعدّ من التافهين، وعندما سئل قال: لا بدّ أن تقرأ لهذا الكاتب بنفس الاهتمام الذي تقرأ به لكاتب مهم.

طبعاً وقتها لم أدخل هذه الأفلام وفق خطة أو منهج كالذي ذكرتُه، ولكن فعلتُ ذلك لأسباب لم يفهمها النقاد آنذاك. ماذا يعني أن تساعد مخرجاً جديداً في فيلمه الأول وبالمجان؟ ماذا ستستفيد من المشاركة في فيلم سيء لمخرج يحاول تجريب شيء جديد؟ الاستفادة من تلك التجارب في بنائي الشخصي كانت عظيمة جداً جداً.

هل يمكن أن تكرّر ذلك الآن؟

حالياً لا يمكن. الآن أعمل «عَ رواق» كما تقولون.

أحياناً تصرّ على أجر معين، وأحياناً تعمل مجاناً. على أي أساس تقرر ذلك؟

لا أعرف حقيقةً. «هو كده وخلاص».

اسمك مرتبط بعدد من المشاريع السينمائية والتلفزيونية، منها مسلسلَا "النيل الطيب" و"ميراث الريح". هل أنت متوتر من التجربة الجديدة؟

ما زلتُ حتى الآن غير مرتاح لتواجدي في التلفزيون، ولا أعرف كيف سأظهر على الشاشة الصغيرة. أسأل نفسي بقلق: مَن يريد رؤية نفس الشخص يومياً؟ على العموم اسم "ميراث الريح" مؤقت، وحتى الآن لا أعرف إن كان أيّ من هذه الأعمال سيلحق بالموسم الرمضاني القادم، فسيناريو "النيل الطيب" ما زال في طور التصليحات.

لماذا غيّرتَ رأيك المعارِض للعمل في التلفزيون بعد كل هذه السنوات؟

لأنّ الشغل في السينما أصبح الآن أضعف بكثير من السابق بالنسبة لي، وبات عندي محصول جديد أريد إخراجه لأتنفس.

ماذا عن الأجر المرتفع؟ ألم يشكّل إغراءً بالنسبة لك؟

الأجر لافت ومهم بالتأكيد، ولكنّه ليس الأساس. دائماً أقول: لا يمكن للمال مهما بلغ أن يقابل أيّ عمل في الدنيا.

هل ستشارك في فيلم يسري نصر الله الذي يحمل عنوان "مركز التجارة العالمي"؟

لم أعد ضمن فريق عمل هذا الفيلم. لم يتمّ الاتفاق مع الشركة.

ماذا عن فيلم "الأستاذ إحسان" لمحمد خان؟

تأجّل هذا الفيلم. يقوم محمد خان الآن بعمل فيلم آخر.

دار حديث عن مشاركتك في فيلم للسوري زهير قنوع بعنوان "ميك أب". هل المشروع مستمر؟

جاء زهير إلى مصر لعمل هذا الفيلم منذ بضعة سنوات، وعرض عليّ السيناريو الذي كتبه، فأبديتُ عليه الكثير من الملاحظات. سألني: إذا عملنا الفيلم، هل توافق على المشاركة فيه؟ قلتُ له: لمَ لا؟ سنتفق. بعدها غاب زهير، ونسيتُ الموضوع كله. يبدو أنّه لم يوفّق في التركيبة الإنتاجية. هذه القصة حدثت منذ سنوات، ولم أعد أسمع شيئاً عن الموضوع.

كنتَ مؤخراً في حفل توزيع جوائز أدونيا. ما رأيك بالدراما السورية عموماً؟

الدراما السورية متطوّرة، وجمهورها عريض على امتداد الوطن العربي.

بعد كل هذه الخبرة، كيف تقرأ النص السينمائي الآن؟ ما الذي يغريك فيه؟

أولاً لا بدّ أن يناسبني العمل من كافة النواحي حتى المالية، فقد أطلب أجري كاملاً وقد لا أتقاضى أجراً. أنا عامل في هذه الصناعة وشغلي أن ألعب الشخصية أمام الكاميرا، وفي هذه الناحية لا أحد أو شيء يستطيع إغرائي أو مفاوضتي أبداً، كما لا تستطيع أن تغري نجاراً أن يصنع لك غرفة نوم أو خياطاً أن يعمل لك جلباباً.

أنا صاحب مهنة أحترمها وأدّعي أنّي أجيدها، وأي كلام من قبيل أخذ الفرصة لاستعراض العضلات مرفوض تماماً.

ألا يتنافى هذا مع مشاركتك في مشاريع شخصية لبعض المخرجين مثل يوسف شاهين وخالد يوسف؟

أبداً، ليس بالضرورة أن أتفق معك في الرؤية لنعمل معاً، فقد يكون عملك يناسبني رغم الاختلاف الذي أسعى إليه أصلاً.

في "دكان شحاتة" يطلب حجاج من ابنه أن يغطّي الشرخ الهائل في الجدار بصورة جمال عبد الناصر. هل تتفق مع الرؤية المتشائمة للمستقبل التي قدّمها الفيلم؟

سُئلتُ عن هذا المشهد كثيراً. الجملة صدرت عن الشخصية كما هي بعفويتها وضرورتها. هناك شرخ وصورة شخصية لرمز القومية والنضال وما إلى ذلك، وهو صعيدي مثله يدعو للنخوة والشهامة فكانت الاستعارة مناسبة هنا. الموقف عائد للشخصية نفسها وهي تتبع لرؤية المخرج. أنا أقوم بتصنيع تفاصيل الشخصية وأدائها فهذه وظيفتي. أمّا شخصياً، فأنا أرى الوضع أسوأ من ذلك بكثير.

هل أنت ناصري؟

لا، ولكن عبد الناصر كان زعيماً كبيراً ومؤثّراً جبّاراً من الناحية العاطفية. لا زلتُ أذكر منظر الناس في المقهى وهم يستمعون لخطابات عبد الناصر بعد رحيله، وكان قد اعتاد افتتاح خطاباته بعبارة: «أيها الأخوة المواطنون»، ففي مرّة وقف الناس بعد العبارة لاعتقادهم أنّ عبد الناصر عاد إلى الحياة مجدداً. هذه سطوة الشخصية، ومن الطبيعي أن أتأثّر بالمجموع.

لستُ في مكان يخوّل لي الحكم على عبد الناصر والخلل الذي تسبّب فيه سواءً كان يدري أم لا، ولكن عاطفياً كنتُ أميل إليه كثيراً في ذلك الوقت. الوضع تغيّر الآن، فالمرحلة اختلفت و«الزمن غير الزمن» كما يُقال.

الآن يتكلّمون عندنا عن مجيء جمال مبارك ومسألة التوريث من عدمه. الحياة هكذا، مَن يملك دكّاناً يريد أن يوّرثه لابنه، ولكن في الدولة الوضع مختلف. علينا أن نسأل أنفسنا: هل يصلح الشخص أم لا؟ فليس لمجرد وصف «وريث» نقيم الحجج على الشخص ونرفضه قبل أن ننظر إلى كفاءاته وبرنامجه الانتخابي.

هي مناقشة مفتوحة بعيداً عن مسألة التوريث، لأنّ البشر لا يوّرَثون، ومَن يتحدّث بهذه اللهجة وضع نفسه مكان العبيد. إذاً، البلد ليس دكاناً أو قطعة أرض، ونحن لسنا عبيداً. عموماً أنا لا أقرأ الصحف ولا تعنيني السياسة ولستُ منتسباً لأي حزب أو حركة.

لديك نظريات خاصة في السينما وطرائق معينة في التعامل مع الكاميرا، حتى أنّك أصدرتَ مجلة خاصة بالسينما باسم «الفن السابع». حدّثنا عن تمارين المرآة التي اعتدتَ ممارستها في السابق؟

هو أسلوب وتدريب خاص بي لم أعلّمه لأحد لأنّي اكتشفتُه بالصدفة، فإذا وقفتُ أمام المرآة على بعد متر مثلاً، هذا يعني أن الصورة تبعد عن المرآة متراً أيضاً، وبالتالي فإنّ المسافة بين الأصل والصورة متران. وهذا ممنوع في علم الحركة، لأنّ مثل هذه التدريبات يجب أن تتم تحت إشراف أستاذ، ولكن في أسلوبي الخاص عملتُ الممنوع لأكون الأستاذ والتلميذ في نفس الوقت. واستفدتُ من ذلك في سهولة الحركة إلى خارج الجسد والعودة إليه، فأنا أصدّر الشخصية لبؤرة العدسة، أي أتحكم بالإشعاع الصادر عن جسدي كيفما أشاء. بعد أن وصلتُ إلى المنهج توقفتُ عن ممارسة هذه التدريبات، فلم أعد بحاجة إليها.

تُعرَف بالمغامرة في اختيار أفلامك، ألم تقلّل هامش المغامرة الآن خوفاً من الفشل بعد كل هذا المشوار؟

المغامرة أساس وليست هامشاً حتى نكتشف أنفسنا من خلال الآخرين، ومن حق الجمهور أن يبدي رأيه مثلما يريد.

هل يكون تاريخ الممثّل حامياً له أم حجّة عليه في هذه الحالة؟

لا ندري. اليوم إذا ما ذُكر الشنفرى في مكان ما، كم من الناس يعرفه؟. الأمر نسبي.

إذاً، أنت ممَن يؤمنون بالنخبوية في بعض الأفلام..


ما أهدف إليه بالدرجة الأولى هو أن أكون مسلياً جيداً بنظر السيد المتفرج، وإلا فأنا ممثّل فاشل. بعد ذلك ننظر إلى ناحية وصول الخطاب وفهمه، فقد يقول لي أحد الحضور: أعجبتني في هذا المشهد ولم تقنعني في ذاك، فأقول له «عَ راسي» كما تقولون.

كيف كان العمل مع الراحل يوسف شاهين؟

كان ممتعاً جداً بالنسبة لي وفيه قدر كبير من التواصل، أنا استفدتُ منه وهو استفاد مني حسبما قال لي، رحمه الله.

لكنّه يوصف بالدكتاتور في موقع التصوير


ويجب أن يكون كذلك. المخرج الذي لا يقدر أن يكون دكتاتوراً في العمل لا ينفع لهذه المهنة «يروّح بيتو أحسن». لم أشعر بذلك مع يوسف شاهين، وكان النقاش بيننا مثمراً.

هل العمل في هوليوود أو خارج السينما العربية هاجس لديك؟

عبر عليّ الهاجس لكنّه لم يستقر طويلاً، لأنّني اكتشفتُ أنّي لم أقم بتسلية أهلي كما يجب بعد، كما أنّ الممثّل لا يصلح لغير بيئته برأيي، لأنّه سيكون مفتعلاً ويشمله الكذب.

شوارزينغر بعد أن أصبح حاكماً لكاليفورنيا مُنع من التمثيل لأنّ هذه المهنة محتقرة، وليس لديّ تفسير آخر.

هل تفكّر بإعادة مجلة "الفن السابع" مجدداً؟

لا، فقد أغلقتها وانتهى الأمر. أضفتُ الموقف العقلي السينمائي إليها وألغيتُ الاجتماعيات ونحّيتُها عن الصراعات، فنشأ الطلب عليها وهذا يكفي، لأنّ هناك مَن سيأتي ويكمل الطريق وهكذا.

حدّثنا عن طقوسك الخاصة في موقع التصوير..


أقوم بقراءة الشعر تحديداً والاستماع لموسيقى معينة تناسب خلفية الشخصية التي أؤديها، لأنّي أقوم باستحضار الكاراكتر وصرفه أكثر من مرة خلال وقت قصير، وهي عملية شاقة جداً على الممثل.

ما يخطر ببالك تلقائياً لدى سماع الكلمات التالية:

نجيب الريحاني: سبعة أفلام بسبعة آلاف فيلم.

فيلليني: كنت أنوي دراسة فيلليني وتاركوفسكي في مشروع بحثي كبير، لكنّي نسيتُ المراجع التي جمعتها في أمريكا، فأهملتُ الموضوع كله.

كيوبريك: شعر.

لوريل وهاردي: بهجة لا تناسبني. أحبّ اسماعيل ياسين، زينات صدقي، عبد الفتاح القصري. ومن الجيل الجديد يستهويني أحمد حلمي.

شارلي شابلن: من أرباب الصناعة، عمل كل شيء في السينما، والوحيد الذي يناظره في الصناعة العربية هو أنور وجدي.

توم وجيري: قط وفأر، كنّا نتفرج عليهم في السينما وليس على التلفزيون.

دمشق: هي المكان الوحيد الذي أشعر فيه أنّني عربي مع إحساس بالفخر بذلك، وهذه حقيقة. قلتُ لك سابقاً إنّ دمشق مكان يلازمني. عندما ينتقل جسدي من القاهرة إلى دمشق كأن لا انتقال. المكان الوحيد الذي لا أشعر بتوتر عند السفر إليه، رغم أنّي ممن يتوترون بشدة عند السفر حتى لقريتنا التي تبعد 70 كم عن القاهرة. وما زلتُ أذكر أول زيارة لي حتى الآن. أحبّ أن آتي إلى بلودان مع العائلة في الشتاء.

القاهرة: عاشق بلادي بعللها وبهبلها كمان، في العين وفي الحلم واللي في بالها أحلى كمان (فؤاد حداد).