2012/07/04

هنالك نكتة قديمة درجت أيام الاصطفاف على الدور للحصول على السلع التموينية.. وهذه النكتة تقول بأن رجلاً كان يسير على الطريق فرأى مجموعة من الأشخاص (مصطفين بالدور)، فأسرع وأخذ دوره في آخر الطابور.. ولكنه وبسبب انشغاله ربما، أو بسبب حرارة الطقس، أو حتى الفضول.. كان لابد أن يسأل الواقف أمامه في الطابور عن الغاية من هذا الطابور، متوقعاً شيئاً ما مهم فعلاً.. ولكن المفاجأة كانت بأن الذي يقف أمامه لم يكن يعرف السبب بالضبط.. فما كان منه إلا أن انتقل إلى الذي يليه، فحصل على نفس الإجابة، وهكذا إلى أن وصل إلى الأول في الطابور فسأله.. فأجاب الأول بأنه انحنى ليثبت رباط حذائه وما أن انتهى ووقف قليلاً ليرتاح في الظل أمام باب مغلق حتى فوجئ بوجود شخص يقف خلفه.. ولم يلبث أن جاء شخص ثالث ووقف خلفهما، وهكذا إلى أن تشكل الطابور.. وعندها سأله الرجل لم لا يمضي في حال سبيله ويفك هذا الطابور.. ما كان من الأول إلا أن احتج قائلاً "بدك ياني أترك دوري وأنا الأول؟!!".. الطابور هذا لا يختلف كثيراً عن حال المعلنين على قتواتنا الفضائية والإذاعية حتى.. وحقيقةً لا أفهم ولا يمكن للمشاهد أن يفهم السبب في سيل الإعلانات "المنهك" الذي يتخم كل شاشاتنا في هذا الشهر الفضيل بالذات.. والمثير في الأمر أن عائدات المحطات من الإعلانات ليست مصادر دخولها الرئيسية.. فمعظم محطاتنا كما يعلم الجميع "مدعومة" بشكل أو بآخر لتصل إلى بر أمان وتعتمد على إيراداتها الذاتية وأهمها الإعلان، وهذا ما لم يتحقق للآن. حيث تشير أكثر من إحصائية إلى أن الميزانيات التي تصرف على الإعلان في منطقتنا العربية تذهب في جزء كبير منها إلى طرق أخرى في الإعلان بعيداً عن شاشاتنا.. (حسب صحيفة البيان الإماراتية فإن الصحف  ما تزال تحتفظ بـ 70% من حجم الإنفاق الإعلاني بين وسائل الإعلام العربية).. وهذا لأسباب معروفة من ضمنها رخص تكاليف الإنتاج في الإعلان غير التلفزيوني بالدرجة الأولى.. وتكثيف الحملة الإعلانية حسب السوق المستهدف.. هذه الحقيقة ولسوء حظنا تنقلب رأساً على عقب في هذا الشهر بالذات (ترتفع حصة الإعلان التلفزيوني في رمضان فجأة إلى 60% من حجم الإنفاق الإعلاني!!!)، ونصبح نحن المساكين المتسمرين أمام شاشتنا الهدف "الأغلى" لكل المعلنين.. من بائعي العلكة والمعكرونة والبسكويت إلى بائعي الأدوات المنزلية والسيارات وحتى المنازل والعقارات!!.. وتتحول صالونات منازلنا إلى أسواق بكل معنى الكلمة والكل فيها يزعق على بضاعته منادياً الزبون الذي لن يأتي وسيكتفي باستخدام الزر السحري منتقلاً إلى قناة أخرى بعيداً عن (الزعيق) الإعلاني ليفاجأ بزعيق من نوع آخر ولكنه يبقى أرحم من تحويل صالون منزله إلى سوق.. والمشكلة الأكبر أن أحداً لا يمكن أن يفهم فعلاً كيف يفكر المعلنون وأية جدوى يعتقدون أنهم سيحققونها عبر هذا الضخ غير المعتاد والذي لا يلبث أن يخبو لاحقاً.. هل هناك من قال لهم إن المستهلك العربي لا يشاهد التلفزيون إلا في رمضان فقط وعليهم اغتنام الفرصة وإغراقه بإعلاناتهم قبل أن يركب طائرته الخاصة ويهاجر إلى قارة أخرى!!.. والحال يصبح أسوء عندما تتابع الإذاعات التي هي بالأساس عذاب حقيقي في فتراتها الإعلانية بالذات.. وليس موضوعنا الآن تدني مستوى الإعلان الإذاعي لدرجة السخف في معظم ما نسمع.. بل ما يعنينا الآن هو هذا الكم الهائل من الإعلانات الذي يحتل نسبة تفوق في بعض الحالات 80% مما تبثه الإذاعات من برامجها كلها، متضمناً الإعلانات المباشرة أو غير المباشرة.. حيث بلغت "عبقرية" البعض ومن خلال رعاية برنامج مسابقات في محطة إذاعية ما، بلغت درجة أن يُسأل المشارك في البرنامج عن نسب النمو في إنتاج الشركة الراعية!!!.. وكأنه ليس خبيراً اقتصادياً درجة أولى فحسب.. بل هو المدير المالي للشركة الراعية للبرنامج!!!.. ولكن يبقى عذابنا مع الإذاعة أكبر.. فهم و"بلؤم" حقيقي برمجوا فتراتهم الإعلانية بحيث تبث في فترة واحدة تقريباً وعلى كامل المحطات بحيث يبقون المستمع المسكين في حالة حصار دائمة.. وينسون أن المستمع بدوره "لئيم" أكثر منهم وقادر على استخدام المسجل ليرتاح من عذابهم.. وبالعودة إلى التلفزيون.. غرامنا الحقيقي في أوقات الفراغ وكل الأوقات.. فإننا وباستخدام زرّنا الحبيب وبسبب المنافسة بين المحطات، فإن أزمنة بث الفترات الإعلانية ليست موحدة، وبالتالي نستطيع الفرار من فترة إعلانية في محطة ما إلى محطة أخرى إلى حين انتهاء الفترة فنعود إلى مسلسلنا الذي لا نلبث أن ننساه ونحن نتابع مسلسل آخر على محطة أخرى خارج الفترة الإعلانية!!!.. هل فهمتم شيئاً؟!!. أنا شخصياً لم أفهم ولا أعتقد أن القائمين على المحطات والمعلنين عندهم يفهمون.. وإلا كانوا أدركوا أن أحد الشروط الرئيسية لقبول منتج ما هو تقبل طريقة عرضه وعدم النفور منها.. وما يفعله الجميع معلنين وأصحاب محطات هو عكس المطلوب حتى لمنتجهم الدرامي اللذين يريدون من خلاله جذب الإعلان الغالي من أجل خاطر عيوننا فقط.. وكأن هناك اتفاقاً مسبقاً بين الجميع على أن يتم الاجتياح الدرامي والإعلاني في وقت واحد.. وكأننا بدورنا سنتحول بقدرة قادر إلى جمعية استهلاكية لتوزيع المواد التموينية على المعلنين والمنتجين المصطفين بالدور أمام بابنا الذي سيبقى مغلقاً!!!.