2012/07/04

مسلسل طالع الفضة.. محاكاة دمشقية منكهة بالصدق الفني
مسلسل طالع الفضة.. محاكاة دمشقية منكهة بالصدق الفني


بديع صنيج - سانا

يواصل مسلسل طالع الفضة تصوير الحياة الدمشقية مطلع القرن العشرين ضمن إيقاع مضبوط بإحكام لنص كتبته عنود خالد مع عباس النوري بالانطلاق من معرفة واسعة بتفاصيل الشام وأمزجة سكانها على اختلاف إنتماءاتهم الاجتماعية والدينية والثقافية فضلاً عن السعي للبقاء ضمن واقعية الشخصيات وعدم تحويلها إلى مجرد كاركترات فنتازية من خارج الزمان والمكان الذي ينهل منه هذا العمل خاماته الأولية.

ويتميز هذا الطالع والذي يعني النبع بلغة أهالي الشام في تلك الحقبة بالتزامه بتصوير دواخل كل شخصية وجعلها تتكئ على قدرتها في اللعب ضمن المكان مع تطورها الزمني وفق مجموعة من التقاطعات التي لا تتوقف خيوطها الدرامية عن التنامي المتصاعد بغية تكوين أكثر من ذروة تلتقي مع بعضها لتكوين الذروة الرئيسية في العمل وفق تدفقات تعزز المواقف الدرامية وتدفعها باتجاه توتراتها الأعظمية.

ورغم نجاح هذا المسلسل في إنشاء معارضة لأعمال البيئة الشامية التي سادت مؤخراً والتي تعتمد على قبضايات وزعامات تخيلية إلا أنه لا يتخذ من تلك المعارضة أساساً له بل يسعى لإعادة إحياء الشخصيات المكتوبة بالاتكاء على التاريخ الدمشقي الصحيح بكل ما يعنيه ذلك من رسم العلاقات فيما بينها والتأكيد على التوافق بين أزياء البشر الجسدية والروحية والغوص في متلازمات الحب والكره والوفاء والغدر والصدق والكذب حيث أن منطوق كل شخصية كان متناسباً مع مونولوجها الداخلي.

ويكتسب الفعل الدرامي في طالع الفضة مكانته المميزة في قدرته على تجديد ذاته عبر تسارع الأحداث فالمتصرف أبو مصطفى الخال الذي يجسده الفنان عباس النوري لا يلبث أن يعود إلى مسقط رأسه بعد صرفه من الخدمة فيقرر أن يعيد ارتباطه بحارته التي عاش طفولته فيها دون أن يرضخ لأهواء أصحاب السلطة فيها كالمختار ورئيس الكراكون والمتنفذين متكئاً على قدرته المالية ووعيه الاجتماعي والسياسي اللذين يدفعانه لاتخاذ الكثير من القرارات التي لا تعجب الكثيرين.

وتعتبر شخصية الخال المحور الأساسي الذي تصب فيه جميع الشخصيات الأخرى مثل أبو نزيه الدهبجي.. سلوم حداد وتكون في موقع من يحوك الكثير من المؤامرات ضد أبو مصطفى للنيل من هيبته ولاسيما في ظل محبة أغلب سكان الحارة واحترامهم له وشخصية طوطح.. رفيق سبيعي الإسكافي العارف بخفايا الأمور والذي يفلسف الوقائع من واقع مهنته وغيرها من الشخصيات مثل نزيه الشهبندر.. جمال سليمان و رئيس الكراكون.. أحمد زين... ورغم الوضوح في كينونة كل شخصية على حدة واشتمالها على مجموعة محددة من الصفات إلا أن مصائرها تتغير بحسب مجرى الوقائع ما يضعنا أمام منعطفات كثيرة في مسار الشخصيات فمثلاً ابن الخال مصطفى الذاهب لرؤية أول طيارة تحط في دمشق يفاجأ بسوق إلى السحب عسكر على أنه نزيه الدهبجي وهند التي تجسدها نجلاء الخمري تهرب من بيت أبو نزيه وتقرر الخروج عن صمتها وعادل.. يحيى بيازي يبيع حصته في منزله ويتزوج ابنة الدهبجي ويصبح صهر بيت.

التأكيد على حقيقة الشخصيات وانتمائها الصحيح للزمان والمكان فضلا عن الانسجام بين سيرورة الحدث وصيرورة البشر وضعت المخرج سيف الدين سبيعي أمام مادة أولية قوية استطاع عبر خياراته الموفقة على صعيد اختيار الممثلين وتصوير تطورهم الزمني ضمن حركتهم في المكان أن يجعل من المسلسل بمثابة وثيقة تنهل صدقها الفني من صدقها التاريخي ومن قدرة الممثلين على توريط المشاهدين بالتعاطف مع ما يطرحونه من مقولات إيجابية أو سلبية.

كما أن إعادة بناء الطالع الذي قام به مهندس الديكور طه الزعبي والتميز في التقاط تفاصيل المكان وزوايا التصوير جعلنا أمام صورة أقرب إلى السينما في تعاطيها مع تعابير الممثلين وخلجاتهم وحركاتهم ضمن فضاء الكاميرا إضافة إلى دمجها بين أبعاد الشخصية وعمقها النفسي بحيث أن الناس في طالع الفضة يعيشون واقعهم الفني بامتياز وينهلون منه نبضهم المميز والذي ينتقل عبر كاميرا سبيعي إلى المشاهدين ولاسيما في ظل الماكياج المميز للإيراني علي العارفي.

واكب تلك الصور على اختلاف تلويناتها الدرامية الملحن المبدع طارق الناصر الذي استفاد من قدرة الموال في بناء أساسات جمالية لموسيقاه التصويرية بحيث أنه ومنذ شارة المسلسل التي يؤديها المطرب صفوان عابد استطاع أن يضعنا في مناخ درامي آخر تشكله الجمل الموسيقية التي جاءت كخلفيات مميزة للحالات الدرامية المتباينة وأحياناً تتقدم المشهد لتؤكد أهميتها كمكون أساسي من مكونات الدراما الطالعة من عمق الوشائج الاجتماعية لعائلات الشام المنكهة في طالع الفضة بكامل الصدق الفني.