2012/07/04

  علي سفر -  تشرين
طوال عقدين من الزمن، رسخت صورةُ الفنانة القديرة منى واصف في ذاكرة الجيل الذي تشكلت مفاهيمه فيهما، ضمن تشكيلات تتماس بصورة أو أخرى مع تحولات الأم التي تراقب نمو أولادها وتقوم بحمايتهم ضمن مشروع يشبه أو يكاد مفهوم البحث عن البقاء، ورغم أن الطيف الواسع للأدوار التي قامت بأدائها لم يصنع منها مجرد ممثلة لأدوار الأمهات كما يملي التطور العمري الطبيعي، إلا أن دخولها ضمن المرشحات دائماً لأداء دور الأم لم يجعلها غريقة النمطية، والاستسلام للركائز المعتادة والمتفق عليها كأساس لصورة الأم في الدراما أو السينما، شيء ما كان دائماً يحيط بأداء منى واصف ليحول حضورها من طور المتوقع إلى طور المباغتة واللا معتاد، شيء ليس عصياً على الفهم طالما كنا نتعامل مع قامة ممثلة يليق بها أن تنتمي إلى نسق الحالات التي لا تتكرر ضمن تاريخ المهنة محلياً وعربياً وربما عالمياً، فهي وكما يعرفها الجيل هذا، وكما يعرفها الجيل الأسبق ليست ابنة للحظة العابرة في تحولات الأداء التمثيلي، بين القبول بالدور و التعاطي معه ضمن نسقيته، وبين القبول به كمدخل لتطويره و تفعيله ضمن ما يستحق أن يصل إليه، هنا لابد أن نتذكر مشهد هدم المنزل في فيلم (شيء ما يحترق) لغسان شميط حيث تقف منى الأم لتدافع عن البيت ولتشق ثيابها دون أن ترهب رجال الأمن الذين يؤدون المهمة التي أتوا من أجلها، بينما يقف بقربها الراحل يوسف حنا الذي أدى في ذلك الفيلم واحداً من أجمل أدواره، بنية اللحظة المشهدية ضمن المنطق الواقعي كانت تقتضي أن ترتدع الأم لتساند الرجل الذي سيقضي نتيجة لهدم المنزل، ولكن ما نص عليه الأداء في المنجز النهائي جعل من صنيعة الأم مشهداً خالداً في تاريخ السينما السورية فهي تواجه قوة البلدوزر وبنادق المأمورين بدفع الجسد ليكون ساتراً وحمايةً لحلم العائلة في الحصول على المأوى وحين لا تنجح في ذلك يصبح كشف الجسد بمثابة الفضح المطلق لسلطة الواقع المدمرة..!

 

ورغم أن الكاميرا لم ترتق للإحاطة بتفاصيل الأداء الذي قامت به منى واصف آنذاك، إلا أن التفكير بهذه اللحظة الأدائية يقودنا نحو البحث في المنطق الشجاع الذي يحكم عقل الممثلة وهي تمضي في اللحظة إلى نهايتها، طالما أن استحقاق الأمومة يمر برعاية الأطفال والحفاظ عليهم و لكنه لا ينتهي بهم، بل يذهب عميقاً في المواجهة ولتصبح معادلة الأمومة هي شجاعتها..! ‏ قبل هذا الفيلم كانت منى واصف قد لعبت دور الأم في فيلم آخر هو (الطحالب) لريمون بطرس، ولكن الصورة التي اشتغلت عليها في (شيء ما يحترق) بدت مقدمة للصورة التي ستظهر فيها في أدوار الأمومة التي ستلعبها لاحقاً في الدراما السورية التي ستنطلق بعد أعوام تاركة لها إمكانيات التفريد في كل دور بحسب ما تقرأ فيه وليس بحسب المنصوص عليه، فأن يدأب الجميع على مناداتك باسم ليس هو اسمك وأن تصلح لهم خطأهم لهو أمر طبيعي تماماً، مقابل أن تصدق أن اسمك هو ذلك الذي يطلقونه عليك، معادلة الشجاعة لدى منى واصف تتأتى في إصرارها على أن تصلح للآخرين صورة الأم التي يكتبونها على ورقهم..! وحتى تلك التي يحاولون صناعتها عبر كاميرتهم، وليس مهماً أبداً أن نحاول إثبات أمثلة عما نرويه عن شجاعة الممثل في مناكفة الشخصية التي توكل إليه في حالة منى واصف، فهي وفي كل هذا النمط من أدوارها كانت تمنح الشخصية نبض شجاعتها هي، وحتى في اشد حالات انكسارها كانت وبعلو نبضها العالي، تدفع بهذا الانكسار ليكون تحطماً قيمياً يشبه الفجيعة..! وربما وعبر مثال بسيط نستطيع أن نعلي من شأن حضورها في دور الأم دون أن نحتاج للشرح الكثير فهي وكمثال على الحالة في دور «أم جوزيف» في الجزء الرابع من باب الحارة فإنما قد صنعت أنموذجاً مختلفاً عن صورة الأم التي لا نتوقع أن يفكر أحد في البحث عن مقومات أمومتها، طالما أن نسقها الأدائي يحيلها إلى مستوى موغل في رمزيته و مبتعد كثيراً عن تقليدية الصورة..! ‏ أحد ما لم يكن يتوقع أن يكتنف هاجس منى واصف الأمومي تجسير مختلف وتبني ثقافي للفكرة الغريزية حين فاجأت الجميع قبل فترة، إذا أعلنت عن رغبتها بأداء دور مسرحي إشكالي هو شخصية (الأم شجاعة) في المسرحية التي تحمل نفس الاسم، للعبقري برتولد بريخت، تلك الشخصية التي لم تستطع نساء كثيرات أن يتمثلن وجودها في الحياة الواقعية و لا حتى على الخشبة ، فحين يذكر هذا الدور تذكر مباشرة هيلينا فايغل زوجة بريخت نفسها، و تذكر أيضاً و قبل سنوات قليلة ميريل ستريب و عدداً آخر من الممثلات اللواتي برعن في جعل أداء هذا الدور مفترقاً أساسياً في تجاربهن المسرحية و ربما الوجودية، ولكن ولكي يعرف الجميع دقة الاختيار وضرورته فإن عليهم أن يعيدوا رسم المنحنى الذي تخطوه الأم شجاعة و هي تمارس غريزتها في الحفاظ على أطفالها ضمن منطق الحرب التي لا تترك شيئاً على حاله، إنها تلجأ لمنطق التجارة ضمن مساحة الحرب، إذ تشتري من الجنود وتبيعهم وضمن هذا السياق تخسر أولادها واحداً تلو الآخر، وحتى أنها تفقد واحداً منهم أمام عينيها دون أن تستطيع أن تعلن ألمها وحزنها.. بل تكتفي بالصمت الذي يضمر الحزن الهائل، و بينما كان المشهد الأمومي الدائم مرتبطاً بإعلان الفجيعة فإن القوة الهائلة التي تتطلبها اللحظة إنما تكمن في الصمت..! ‏ و بغض النظر عما قيل في أدبيات المسرح من «أن اللحظة المسرحية الحقيقية هي لحظة صمت» فإن اختيار منى واصف لهذه الشخصية كطريق لتحقيق اللحظة المسرحية الطموحة إنما يضعنا في طور السؤال عما يمكن للإرادة الإبداعية أن ترمي إليه وهي تضع لحظة الأمومة إبداعياً في مواجهة أقسى المصائر..! فهل هي إرادة تستكين للمتاح الدرامي أو حتى السينمائي؟ أم إنها نمط مختلف عما اعتدناه من أنماط تفكير ترتهن للمتاح و المقبول؟ ‏ ربما ينفع في محاولة الإجابة أن نتذكر أن منى واصف المتقاعدة من المسرح منذ سنوات طويلة هي ابنة للحظة المسرحية التي لا تقبل الصمت بوصفه فعلاً سكونياً..! ‏ إنها وريثة للخشبة بوصفها مساحة يولد فيها المبدع عارياً إلا من رغبته في الحياة، وهي تدرك أن الخشبة الأم هي خير ما يمكن للممثل أن