2012/07/04

من أجل رقصٍ سوريٍ معاصر: أسئلة للمستقبل
من أجل رقصٍ سوريٍ معاصر: أسئلة للمستقبل

سامر محمد إسماعيل - تشرين

يندرج الرقص المعاصر في سورية اليوم تحت لافتة حداثة مسرحية جديدة توظف فن الجسد ولغويته العالية لمصلحة فرجة أكثر حريةً وانعتاقاً من

الأشكال المسرحية القديمة، وهي بذلك لا تتبنى تياراً فنياً بقدر ما تؤسس لتطور اجتماعي حقيقي في بيئة مازالت تعاني من ربط وجودها

بمستواها البيولوجي الصرف، فجميعنا يعرف ما للجسد من سلطةٍ ذاتية على الفرد العربي، سواء من جهة إخفاء هذا الجسد تحت ثيابه

السميكة، أو عبر ما يصوبه المجتمع من تهمٍ جاهزة . ولذلك يأتي فن الرقص المعاصر المفتوح بخياراته على كل الاحتمالات التعبيرية كضد ثقافي،

أي الجسد الانتهاكي كندٍ خطير ولا يجارى لجسدٍ طهراني مصون من كل الانحرافات، فيصبح الرقص أولى خطاياه وأخطرها، فالجسد بدأ للتو

بالتعبير عن نفسه، عن رقص الفكرة، وعن تخطي عوائقه الأخلاقية المنيعة

من هنا تشكل الحركة كموضوع خالص للرقص منبعاً لا متناهياً من الأقوال والصرخات في وجه تابوهات متعددة، يصير الرقص مجوناً وكبيرة الكبائر لا

يمكن للمجتمع الصفح عنها، ولاسيما أن الرقص المعاصرلا يترك أي حبلٍ سريّ مع لغة الزجر التي أحالت الجسد إلى مجرد آلة تعيش لخدمة

النفس في شهواتها الاعتيادية. هناك جسد وظائفي، أو رياضي في أفضل حالاته، إلا أن حتى الرياضة لا تغدو إلا تنويعاً على مارشات صارمة ولا

فنية، فيما يصعد الرقص عالياً في خلايا الجسد الراقص محيلاً كل حركة، كل إيماءة فيه إلى لغة؛ إلى جملةٍ شعريةٍ خالصة، إلى نبع من الدلالة

والإشارة؛ تماماً كما تفعل الكلمة في النص الشعري، فلم تبقَ اليد يداً وحسب، ولا القدم قدماً وحسب، بل تحولت إلى أعلى طاقة من طاقات

التعبير، أعلى طاقة من طاقات المجاز، إذ يتحول الجسد هنا إلى قامته الشعرية الأكثر مضاءً وعذوبة، فلقد تخلص نهائياً من جلوسه ووقوفه، من

نومه واسترخائه . ‏

ربما كانت حركات الرقص التعبيري والحديث والمعاصر التي انطلقت من أمريكا عشرينيات القرن الفائت مع مارتا غراهام وإزيدورا دنكن إضافةً إلى

كننغهام وترعرعت مع الألمانية الراحلة بينا باوش في استديو فولفانغ استديو، مستمرةً مع مواطنتيها هنريتا هورن وساشا فالس، ربما كانت من

أكثر ثورات الفن الإنساني تعقيداً وصعوبة سواء من جهة إبداع العرض المسرحي الراقص، أو حتى من جهة تلقي الجمهور لهذه النوعية من

العروض، ولاسيما أن هذا النوع الفني ليس من السهل إطلاقاً إيجاد جمهور متابع له حتى في مواطنه الأصلية (أمريكا-أوروبا) فكيف إذاً في منطقة

العالم العربي التي تعدّ الجسد في ذكورته وتحديداً في أنوثته بيت الشرف ومخزنه؟ إن الجسد العربي متوارٍ منذ قرون، ولهذا يصبح من الصعوبة

التنبؤ بمستقبلٍ صحي للرقص المعاصر في شرقنا «السعيد» بل من المستحيل أن نتكهن باستمرار فرقٍ للرقص في بلادنا، خلا فرق الرقص

السياحية التي تقدم تراث الحركة بشكلٍ مبتسر وسيئ، معلنةً تتجير كل شيء، وتحويل الجمل الحركية العريقة في سورية إلى ما يشبه بطاقات

وخرائط سياحية عامة. ‏

إن الخطورة التي تتهدد تراثنا الراقص تكمن أولاً في وجود الفرق السياحية الراقصة، والمعدّة دائماً لتسييح كل شيء، محتفيةً بالفلكلور، تقدمه

مجزوءاً كأنه ملكٌ داشر، تعرضه في افتتاحات السينما والمسرح وعواصم الثقافة، تنجزه كلوحة متجانسة يصطدم فيها الجسد بنفسه، فالجسد

هنا لا يغدو إلا سلعةً لتسويق ثقافي رخيص، تنعدم فيه لغوية الجسد، وفتنته الأولى في التعبير عن مكنوناته الفيزيائية، الجسد هاهنا ليس

امتداداً للإيقاع القديم والضغط اللحني التراثي بقدر ما هو مجرد كليشيهات تقدم بين حينٍ وآخر على أنها أصالة وفلكلور أجداد. ‏

وبالنظر إلى ما تركه لنا هؤلاء الأجداد نظرةً خاطفة سنعرف أن الآلاف من الجمل الأصلية للحركة التي أنتجها الإنسان السوري مازالت موجودة من

أقصى شمال سورية وحتى جنوبها وشرقها وساحلها الغربي، فالرقص السوري موجود في أنواع عديدة ولا تحصى في الدبكات والمرواحات

الحماسية والسحجات البدوية واللا لا والمعنّى والأوف والعتابا والميجانا والسماح والكرجة والغربية واللوحة النسوانية والطبيلة والبداوية والدندشية

والنشلة والعثمانية والجوفية والحورانية والفلسطينية والشمالية والدرازية والميجة والولدة ولقبا والشيخاني والقوسر والطق/أزلي والدملي والحلبي

والعربية والغزاوية والصاجية. والعشارية والعرجاء والشرقية والمثلثة الطرطوسية وكرجة الشيخ بدر وكرجة زيدل ودبكة الدلعونا ونخة الشيخ بدر

ودبكة زين يابا الثمانية والشبة والدراجة الرقاوية والماني الديرنجية ودبكة حران العواميد ودبكة الحنة الحورانية.. وغيرها الكثير الكثير. ‏

هذه الرقصات ليست مجرد رقصات شعبية، وليست على هامش الرقص كما يعتقد كل من راقصي الفرق السياحية والمعاصرة، بل هي جوهر

الحركة السورية التي أنتجها العمل وخبرته منذ آلاف سنواتٍ خلت، ولا نستغرب أن معظم هذه الرقصات الفكلورية ترجع من حيث أصولها إلى جمل

حركية آرامية وفينيقية وكنعانية، بل هي كنه القاموس الحركي المحلي، والشغل عليها من قبل فرق الرقص المعاصر ليس بالصعب أو بالمهين،

فالكثير من رواد الرقص في العالم وأهمهم الراقص الإنكليزي المتحدر من أصل بنغالي «أكرم خان» اشتغل على تراثياته الحركية، بل إنه طوّر أنواعاً

كاملة من الرقص البنغالي محيلاً إياه إلى هوية خاصة بشغله ككريوغراف مجدد في حركة الرقص المعاصر جعلت منه محليته عالمياً بكل معنى

الكلمة. ‏

إن الاحتقار غير المعلن للشعبي وتصنيفه تحت بند السياحة لن يجدي نفعاً، ولاسيما إذا عرفنا أن الرقص المعاصر الذي انبثق كرد فني على

خشبية ورخامة وسادية الباليه الروسي، وطقوسيته النسائية الافتدائية للقياصرة والملوك، سنعلم أن الاشتغال على جملنا البدائية هو مفتاح

دخولنا إلى حداثةٍ مسرحيةٍ راقصة، فالعودة إلى أماكن وتنويتات الضغط في الرقص الشعبي هو عودة قبل كل شيء لفهم العلاقة الجمعية

اللاشعورية مع أجساد أسلافنا، مع طريقة تفكيرهم الأولى، مع أصالتهم في التعبير عن فرحهم وترحهم وغضبهم واعتدادهم بالإنجاز، وما علينا

سوى العودة إلى المقطع الآتي كي نعرف أهمية البحث في مقطوعاتنا القديمة على نحو «تجرش حنطة وتجرش بن وقلبا قاسي ما بيحن» وكيف

مزج الفلاح هنا صدود امرأته مع عملها في طحن الحبوب، كيف صاغ هذا المشهد، وكيف على مصممي الرقص السوريين أن ينكبوا على أمثلتهم

الشعبية، فصياغة رقص معاصر تنبغي أن تأتي أولاً نتيجة مراكمة حضارية للعمل وقيمته، أي محصلة لثورات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية

كبرى، ومن هنا يمكن البناء على هذا المنوال لشخصية مختلفة وهوية مغايرة في معاصرتنا. ‏

إن رقص السماح الصوفي الذي نبعت منه معظم الدبكات الشعبية الحلبية على سبيل المثال ليس نوعاً من العارض الثقافي المؤقت، بل هو

شيفرة ثقافية معقدة في طريقة التعبير عن الشخصية الجمعية، ودورانية الدراويش في رقص المولوية ليست من قبيل المصادفة، بل هي من

صلب الفهم الاجتماعي لعلاقة المخلوق بخالقه، ذلك أن هذه الجمل تقترب من صياغة أجمل وأرقى حالات الجسد ذوباناً في المطلق، إفناء

الجسد وتدويخه بغية الحصول على الرضا الإلهي، إنه طواف لا يرد لجسد يشذّ عن قواعد اليومي. ‏

إن في مرواحات الفلاحين أمام غلاّت الدرس والحنطة، وثوبٌ عالي الدلالة على ضرب الأرض واستنطاق خيراتها المضمرة لصيف آخر سيأتي

بالغلال، فليس غريباً أن تكون الدبكة كرقص كرنفالي موجودة على طول خط المطر المنطلق من خط الساحل السوري القديم وحتى جبال الأناضول

وبلغاريا وبلاد السلاف، لأنها بلاد تزرع القمح وتفرح بحصاده. ‏

هذه القيمة الفنية التي أنتجها العمل تجب دراستها وتفنيدها، وليس الاكتفاء فقط بتدوينها وجمعها، فهي ليست تراثاً لا مادياً وحسب، بل هي

جوهر الشيفرة الثقافية المعقدة التي أنتجتنا في عصور طويلة مضت، ولهذا إن استمر الراقصون السوريون الجدد في احتقار فلكلورهم سيقعون بما

وقع به المسرحيون عندما أداروا ظهرهم لمظاهر وتأصيلات أصول أشكال فرجتهم الأولى، أو كما أصاب التشكيليين العرب عندما قفزوا دفعةً واحدة

من التصويرية إلى الانطباعية والتعبيرية من غير الأخذ بقيمة منمنماتهم وزخارفهم وحروفياتهم العريقة ومراكمة خبراتهم عنها، أو ما دهى

الموسيقيين العرب عندما اعتمدوا على أشكال غناء البوب الأمريكي لإنتاج أغنياتهم والاستغناء نهائياً عن موشحاتهم وأدوارهم وطقطوقاتهم. ‏

إن المطالبة بإعمال المخيلة السورية في الشخصية الثقافية الفنية لا تنبع من حالة انغلاق وتقوقع على الذات، بل تنبع من احتفاء خاص بما يمكن

أن نقدمه فيما لو استمعنا جيداً لأصواتنا الداخلية، فالاحتفاء بالتراث ليس معناه الانقطاع عن فورة المعاصرة، بل هو دعوة صارخة للبحث والتأمل

في الجمل الأولية للثقافة والفن السوريين بهدف إعادة صياغة وتطوير وتنويع هذه الجمل، حيث يتم استنباط خصائص مضاعفة من هذه الجمل،

والبناء عليها من دون إعلان القطيعة معها، أو ازدرائها واضعين إياها كفرجة وتسلية سياحية، فالأنماط الموجودة لدينا سواء على صعيد الرقص أو

المسرح أو الغناء أو الموسيقا أو الفنون التشكيلية البصرية لانهاية لتمظهراتها في الأمكنة السورية، لكن ما ينقصها هو احترامنا لتفاصيل وجهنا،

لأزيائنا وطرق تعبيرنا عن أنفسنا، من دون الشعور المزمن بعقدة النقص الغريبة تجاه الآخر، الآخر الذي هو أنا، والأنا الذي هو آخر على حد تعبير

رامبو الشهي. ‏