2013/05/29

من الأستوديو إلى مزاج الطبيعة الدراما تبدل كاميراتها القديمة..
من الأستوديو إلى مزاج الطبيعة الدراما تبدل كاميراتها القديمة..


تمام علي بركات – تشرين

عندما قام المخرج السوري المبدع نجدت أنزور بإخراج مسلسل «نهاية رجل شجاع» عن نص للروائي حنا مينة سيناريو حسن م. يوسف عام 1993، كان المشاهد السوري على موعد مفاجئ مع نجم جديد ومختلف عن كل النجوم الذين اعتاد رؤيتهم في تلك الفترة (تسعينيات القرن الماضي)،

حينها لم تكن الصحون اللاقطة تغتصب الأسقف والأسطحة، وهي تصطاد كل ما تبثه الأقمار الاصطناعية من إشارات باردة وساخنة لتمرر تلك المصائد الشمسية إلى منطقة اللاوعي لمقتنيها من «علية القوم» عناوين ومتاهات وزواريب العولمة الجديدة، بصخبها وعنفها، بإبداعها وانعدام ذوقها، معلنةً مرة واحدة وإلى الأبد، نهاية الأحلام الخاصة بكل متفرج شاهدَ «ذهب مع الريح» مثلا، من أي بقعة كان في الأرض، عندما كان وعيه الصافي، يضع حاجزا معنويا إشكاليا بين ما رآه بهذا الفيلم من فرجة بصرية متكاملة: (قصة، موسيقا، مؤثرات بصرية، ألخ)، تركت في روحه أثرا وجدانياً عميقاً، وبين مدى بُعد واختلاف ما رآه عن سلسلة المعطيات الاجتماعية والأخلاقية والمعرفية، بشقيها العلمي «مراحل الدراسة» والبيتي إن صح التعبير، بمعنى البيئة الشخصية والمحلية المحيطة، التي ساهمت بتشكيل وعيه، طبعا كل حسب منهله.

البطل الذي قدمه «أنزور» آنذاك لم يكن ممثلا «فلتة» كما يقال في توصيفنا للأشياء الرائعة، أو ممثلة بمواصفات خاصة، ما قدمه وترك المتفرج السوري أولا، والأجنبي «غير السوري» ثانيا، جالسا مبهورا بما تراه عيناه، من كمال في الأداء، وجمال أخاذ، استحوذ عليه قبل أي شيء آخر في المسلسل، هو الطبيعة السورية الساحرة المدهشة والصادمة أيضا وخصوصا للسوري الذي يعرف أي سائح أجنبي عن بلاده أكثر مما يعرف وأولهم أنا.

عندما قام مخرج «ما ملكت أيمانكم» باستخدام الكاميرا الواحدة، أي ما يعرف بأسلوب الإخراج السينمائي، التقنية التي استخدمها المخرج هيثم حقي في مسلسل «دائرة النار» كما قامت الدراما السورية قبلها باللجوء لهذه التقنية، عندما استعانت بكاميرا السينما، حين اضطرت إلى تصوير مشاهد خارج الأستوديو، ومن ثم تعرض على الشاشة الصغيرة بآلة «تليسينما»‏‏ خصوصاً بالأعمال التي كان مضمونها توثيقياً وإن كان بقالب درامي، كثلاثية «العرس»، كما كان لقسم السينما في الجيش العربي السوري دور بارز في تصوير مشاهد سينمائية من حرب تشرين المجيدة، وحقيقة.. فإنه كلما وصل إلينا من مشاهد سينمائية عن وقائع حربية في تشرين كان بإشراف قسم السينما في الجيش العربي السوري، إلا أن الميزة التي أعطت «لنهاية رجل شجاع» تلك القيمة الفنية التي لا تنسى، هي العين الذكية لـ«أنزور»، القابع خلف «الميناتور» منتظرا «كلص فرح» تقلبات مزاج الطبيعة، ليسرق تلك التفاعلات الغرائبية للطبيعة ويوظفها بخدمة عمله من خلال جمعه الخلاق حقا للإيحاءات اللونية وتدرجاتها الانطباعية، الممنوحة مجانا للعمل، وانعكاساتها النفسية على المتلقي كحوار مواز للحوار الدائر بين الممثلين، فمن يستطيع أن ينسى المشهد الختامي، «للرجل الشجاع» عندما قرر «مفيد الوحش»، أن يخلّص مجتمعه من نذالة «زلقط»، بعد أن اقعاه شلله فوق كرسي متحرك، كيف تتدحرج الكرسي وفوقها تجلس متناقضات النفس البشرية، بخيرها وشرها، لتهوي من فوق جرف عال إلى البحر، والشمس الغاربة بحمرتها الحزينة، وهي تذوي في لجة الموج، لتكون بدورها البطل الذي أعطى المشهد، أبعاداً نفسية وفلسفية وجمالية، ما كان له أن يكتمل من دونها، وتتوالى بعدها الأعمال الدرامية بمختلف صنوفها، من التاريخي إلى الواقعي والفانتازي، مستعينةً أيضا بالطبيعة وإن كانت بمهارة أقل وتكنيك مختلف، لم يُستَفد من معطياتها بالشكل الأمثل إن كان داخل المدن أو في الأرياف على نحو «الجوارح والفوارس والعبابيد وزنوبيا وإخوة التراب»، وغيرها، وكنا في كل عمل بانتظار بطلنا الجديد، من أي مدينة هو، كنا نتساءل أحيانا : هل تلك الأماكن موجودة في سورية حقا؟. إلا أن مبدعاً آخر، من جيل آخر، راقب بهدوء وروية ما يحدث على الساحة الفنية الدرامية السورية ولاحظ بحسه الفني العالي أن الدراما السورية أخذت تجنح نحو التكرار والنكوص السلبي بالعودة إلى الأستوديوهات المصنّعة خصيصاً لتقديم ما يسمى أعمال البيئة، بعد أن ذهبت بمجملها إلى تلبية متطلبات الشركات المنتجة، ولاسيما النفطية منها، مقدمة كل زائف ورجعي ومسيء للبيئة الحقيقة، الشامية خصوصًا، مثل «باب الحارة» بأجزائه الغريبة فعلا والمضحكة المبكية من الخيبة بآن، فشتان ما بين شخصية القبضاي «أبو عنتر» بدماثته وقربه من القلب، و«العكيد أبو شهاب» بثقل حضوره، وآلياته التعبيرية «المبوجقة»، وشتان ما بين «سعاد - باب الحارة» و«دلال -حمام القيشاني»، هذايعني وجود مأزق يشير إلى الأزمة وهذا يتطلب إعادة النظر في المرحلة السابقة ووضع أسس ملائمة لنقلة نوعية تنهض بالدراما السورية، وهذا ما التقطه المخرج الشاب المبدع «الليث حجو» من خلال مجمل أعماله، سواء في «بقعة ضوء» أو «الانتظار»، ليكون مسلسل «ضيعة ضايعة» العلامة الفارقة في مسيرته الفنية، الذي أعاد للطبيعة بطولتها المطلقة، عادت الحياة إلى الكاميرا، رجعت الألفة لتكون في صلب الحوار بين عين المتلقي، وعين المخرج، والحقيقة أن الطبيعة لعبت دوراً أهم في هذا العمل بالإضافة إلى بطولتها الخلابة، فقد طرزت هذا العمل والبيئة التي ينقلها، بمذاق حقيقي وروح حرة غابت طويلا في غربتها بصحراء الربع الخالي، الخالي حتى التخمة من سف الرمال، وفوز ناقة «الأمير» بملكة جمال الجِمال.