2012/07/04

"مهاجر بريسبان" في المعهد العالي للفنون المسرحية
"مهاجر بريسبان" في المعهد العالي للفنون المسرحية

عبدالله الكفري   يختزل نص "مهاجر بريسبان" تجربة الكاتب والشاعر المغترب جورج شحادة - وهي آخر ما كتب - عن وطنه الأصيل، بلغة مسرحية شعرية تقارب الحلم وتنفتح على التأويل من خلال حكاية تختلط فيها الشاعرية بالواقع فتفصح عن معاناة جيل اعتصرته الغربة وأفضت به إلى متاهات جردته من كل سعادة يمكن أن يحظى بها إنسان، وحيث يتحول الحلم إلى بديل عن الواقع. هذا النص أعاد قراءته طلبة السنة الرابعة في المعهد العالي للفنون المسرحية- قسم التمثيل في عرض تخرجهم على خشبة المسرح الدائري من 28 كانون الثاني وحتى 4 شباط 2010 وبإشراف الأستاذ مانويل جيجي.                             يتحدث العرض عن المهاجر الذي يعود من "بريسبان" إلى قريته بلفينتو في صقلية بعد غياب طويل ليبحث عن ابنه ويورثه ثروته. وبما أن المهاجر يقضي ميتاً منذ الليلة الأولى لوصوله، فإن سره يذهب معه ويدب الشك والخلاف بين سكان وأزواج القرية حيث يتهم كل زوجته بأنها أم الولد. وتختلط المشاعر والرغبات، بين طهارة زوجاتهن وبين تسرب الرغبة في الحصول على الثروة، ومن هنا يتصاعد عنف الأحداث لتكشف رغبة لدى البعض عن التملك واستحواذ المال. فيقدم أحدهم "باربي" بقتل زوجته متهماً إياها بالخيانة رغبة في الإرث. إلى أن يتبين للمتفرج في نهاية النص أن المهاجر كان يقصد قرية أخرى وأنه وصل خطأ إلى «بلفنتو".   في النسخة المقدمة، احتفظ المشرف جيجي إلى حد كبير بالحكاية الأصلية بأجوائها وبيئتها بعد أن قام باختصار بعض المشاهد الأساسية عن المتن الأصلي، وترافق ذلك مع أجرائه تعديلين أساسيين: الأول استحداث شخصية جديدة على متن النص/العرض، وهي شخصية "المهاجر" في شبابه، والذي قضى القسم الأول من العرض يتجول في فضاء العرض/الخشبة، ويتحدث إلى الجمهور ببعض الأقوال المصاغة عن "الغربة- الأمان الروحي- الوطن- فشل الأحلام- ثنائية الشرف والمال".  هذا التغيير لمن يعرف النص الأصلي قد يفتح السؤال عن سبب هذا التغيير الذي لم يضف كثيراً إلى معاني النص الأصلية؛ أما لمن لم يقرأ النص من قبل فسيحيل إلى بعض الإرباك، لأنه لن يدرك مستوى حضور هذه الشخصية الرمزية، والتي قدمت بشكلٍ معاصر من خلال ارتداء الطالب المؤدي للدور الجينز.  النقطة الثانية في التغيير هي أن قام سيتشو بدلاً عن بيكالوجا بقتل باربي بعد أن يكشف أن الأخير قام بقتل زوجته طمعاً في المال (في النص الأصلي يحصل العكس)، ومن ثم الادعاء أمام أهل البلدة بأنه كان ينتقم لشرفه. ومبرر هذا التغيير ما من معنى له لأن المشرف جعل أهل البلدة يسمعون كيف فضحت الزوجة أمر القتل، وإن كان الهدف من هذا التغيير هو التعبير عن تواطؤ القرية على هذه المرأة أمام سطوة المجتمع الذكوري فإن هذه الرسالة لن تصل.   إن الاختصارات التي تمت على النص والتعديلات فيه، وإن كانت تنطلق من هم "مخرج" أكثر مما تصب بدور "مشرف" لم يتوقف أثرها على تلقي أو مقولة العرض، إنما كان تأثيرها الأكبر على الطلبة الذين لم يتمكن أغلبهم من بناء شخصيات منجزة وناضجة نفسياً واتضح هذا الأمر بعدم قدرتهم على إيصال وتقديم هذه الشخصيات لعدم معايشتها بالقدر الكافي.   انعكس هذا الأمر في أداء الممثلين من خلال ضعف الطاقة والإيقاع، والحوارات المجزوءة والمقدمة بالقرب من بعضها البعض دون أي فاعلية كبيرة أو تميزٍ يمنح الطلبة حضوراً ناصعاً في لقائهم الأهم مع الجمهور والذي يفتتحون فيه خطواتهم الأولى نحو الاحتراف. خاصة وأن النص في تكوينه يفرض على من يتصدى لتقديمه زخماً فكرياً ووجدانياً كان من الممكن أن يكون مادة خامة وأساسية لهم باعتبار أن أغلبهم يمتازون بخامات واعدة. ما عزز من إشكالية تقديم هذه الشخصيات هو بناء العرض الذي كثر فيه تقطيع المشاهد واختصار الحوارات، واحتلال الموسيقى لمعظم كتلته، ومن ثم التركيز على تقديم ثنائية "الكاهن والعمدة" في مستوى بعيد عن مجريات الأحداث، ولتكون خلافات الأزواج على تنوعها هي أهم ما برز.   أتى الديكور مع الإضاءة والأزياء ليعزز أجواء ثنائية الغربة والكآبة، والشاعرية التي وقودها القسوة، واتضح ذلك من خلال واقعية فضاء البلدة، ومزاوجة هذا الديكور بالرمزية من خلال تصميم الشجرة التي وقعت بالقرب منها معظم الأحداث (عامود خشبي اعتلاه إطار دائري تم إسقاط الإضاءة عليه في نهاية العرض ليشكل دائرة مغلقة تشير إلى الورطة التي تعيش فيها الشخصيات). وكان لأوراق الأشجار التي ملأت فضاء الخشبة/ العرض إشارة إلى الخريف الذي يحمل مشاعر الخريف والموت.   عندما أنجز جورج شحادة نصه كشف عن ألغاز الغربة ودعانا للبحث عن الأرض التي نحنّ إليها بعد كل الضياع والخواء، والذي قضينا فيه جميعا بلا طائل. واليوم وبعد مشاهدة عرض "مهاجر بريسبان" قد ينتاب بعضنا وإلى حدٍ بعيد المشاعر ذاتها نحو عروض تخرج طلبة المعهد العالي للفنون المسرحية.   بطاقة العرض:      تأليف: جورج شحادة. إشراف: مانويل جيجي. إشراف ديكور: جمانة جبر. تصميم الديكور: نعمان جود.  تأليف موسيقي: رعد خلف. تصميم أزياء: ستيلا خليل مكياج: مريم علي.          إضاءة: ماهر هربش        مشرف مساعد: وسيم قزق. تمثيل: أريج خضور، أيمن عبد السلام، حازم زيدان، ربا الحلبي، جوان الخضر، حنا عيسى، سامر إسماعيل، سوزان سلمان، سومر العبدالله، علي الإبراهيم، مجد مشرف، محمد ديبو، موسى فرح، مؤيد الخراط، وسام تلحوق، يحيى هاشم.