2012/07/04

 مهرجان دبي السينمائي أمام منافسة الشقيق الأقوى العروض العربية: الفن أقل من الواقع
مهرجان دبي السينمائي أمام منافسة الشقيق الأقوى العروض العربية: الفن أقل من الواقع

نديم جرجورة-السفير لم يعد «مهرجان دبي السينمائي الدولي» متفرّداً في صناعة حيّز فني وثقافي في قلب المجتمع الخليجي. بداياته الأولى منذ تأسيسه عام 2004 عكست شغفاً حقيقياً لدى منظّميه لجعل السينما حاضرة بفعالية. نجح في تحقيق مساحة جادّة للفن السابع في هذه الجغرافيا. الفضل في تأسيس السبق عائدٌ إلى مسعود امرالله آل علي. اختباراته المتنوّعة جدّية. لكن تطوّرات لاحقة وضعت مهرجان دبي في مأزق. تأسيس «مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي في أبو ظبي» فرض منافسة حادّة. الأزمة المالية العالمية. التعثّر الخاصّ بالإمارة أيضاً. لكنه حافظ على نسق أراده سمة له. أو إحدى سماته البارزة: إقامة لقاء سنوي بين أصحاب مشاريع سينمائية ومنتجين عرب وأجانب. هذه التجربة مفيدة. أدّت سابقاً إلى تحقيق أفلام سينمائية عربية، أو إلى استكمال مشاريع. السوق موجودة. المسابقات الرسمية مهمّة، لكن فروعها كثيرة: المهر العربي. المهر الآسيوي/ الأفريقي. هذا حسنٌ. لكن، أليست الجغرافيا العربية موزّعة بين القارتين الآسيوية والأفريقية؟ أم إن الرغبة في إبراز النتاج السينمائي العربي بشكل مستقلّ دافعٌ إلى إقامة مسابقة خاصّة به؟
البرامج الموازية عديدة. لا يستطيع المرء مشاهدة أفلام قد تكون مهمّة للغاية، لكثرتها. أو لتضارب مواعيد عرضها ومواعيد أخرى. هذا يحدث في مهرجانات دولية عريقة. إذ لا يُمكن لمهرجان سينمائي راغب في اكتساب صفة «دولي» أن يتغاضى عن برمجة كهذه. لا يُمكنه المحافظة على إنجازاته، وإن كانت متواضعة، إذا بدّل منظّموه هواجسه الأساسية. ذكرتُ سابقاً أن منافسة حادّة نشأت بينه وبين مهرجان أبو ظبي منذ ثلاثة أعوام. هذه مسألة حسّاسة، على الرغم من الفرق الواضح بين التوجّهين. أضف إليها الضربة المالية التي ألمّت بإمارة دبي. المال أداة أساسية لصنع كل شيء. أبو ظبي أغنى. مهرجانها بات في يديّ بيتر سكارليت. الرجل «نابغة» في تنظيم مهرجانات سينمائية. علاقاته بأطراف سينمائية عدّة قوية. ميزانيته، سواء أُعلنت أم لا، تسمح بحصوله على عدد أكبر من الأفلام الحديثة الإنتاج. موعد تنظيم دوراته السنوية يتيح له، أحياناً، اختيارات أفضل. مع هذا، لا يتراجع مهرجان دبي عما فعله. بتواضع، يحوّل الأيام السبعة إلى متع متفرّقة. بتواضع، يصنع من الليل إضاءة لسينما تريد أن تكون فاعلة في الوعي المعرفي والإبداعي.
الجديد المنتظر
هناك أفلام ضعيفة اختيرت في مسابقات أو برامج موازية، في الدورة الحالية لمهرجان دبي. هذا مسيء إلى المهرجان وتاريخه. يُفترض بمنظّميه أن يبحثوا عن وسائل جديدة لمنافسة جدّية. تنظيم دوراته السنوية في الشهر الأخير من كل عام عائقٌ أمام قدرته على اختيار الأفضل والأجمل. هذان الأخيران ذاهبان، حتماً، إلى أمكنة أخرى، إذا لم تتدارك إدارة مهرجان دبي الأمر. في المسابقة الروائية العربية الطويلة مثلاً، عشرة أفلام فقط. عرفان رشيد، مدير البرنامج العربي، قال إن هذا البرنامج لم يتغاض عما أنجزه المخرجون المقيمون في الخارج. ذلك أن إنتاج اثنين منها فرنسي بحت: «وداعاً غاري» لنسيم عمواش و«حرّاقة» لمرزاق علواش. لا بأس في هذا. المسابقة مفتوحة على العرب، أفلاماً وإنتاجاً ومخرجين ومواضيع إنسانية. الفيلمان جديران بالمُشاهدة. مثيران لنقاش نقدي. تماماً كغالبية الأفلام الأخرى، وأبرزها وأجملها على الإطلاق الفيلم المغربي «الرجل الذي باع العالم» للأخوين سويل وعماد نوري. المصرية كاملة أبو ذكري خطت خطوة جمالية واضحة إلى الأمام في «واحد صفر». مواطنها مجدي أحمد علي لم يستطع بلوغ مرحلة إبداعية تليق بالنصّ الروائي الجميل لإبراهيم أصلان «عصافير النيل». اللبنانية ديما الحرّ قدّمت فيلمها الأول الطويل «كل يوم عيد». تجربة مختلفة. أسئلة محتاجة إلى نقاش نقدي فعلي. جماليات بصرية في مقابل ترميز أدبي وشعري ثقيل. الثقل هنا إبداعي. لكن السؤال كامنٌ في مدى قدرة فيلم سينمائي على احتوائه. أو على أن يكون «فيلماً سينمائياً».
ذكر عرفان رشيد أن الدورة السادسة هذه شهدت «عودة» عدد من المخرجين المتميّزين إلى الشاشة الكبيرة ومهرجانها في دبي، كالفلسطيني ميشال خليفي والعراقي شوكت أمين كوركي، الذي سجّل بعمله «ضربة البداية» ما أسماه رشيد «عودة الروح إلى السينما العراقية». لكن خليفي، العائد إلى النتاج الروائي الطويل بعد غياب بفيلمه الجديد «زنديق»، شكّل صدمة حقيقية لمنتظريه ومحبّي أفلامه، بسبب افتقار العمل إلى المخيّلة الحقيقية في صناعة الصورة المتحرّكة. أحدهم علّق على «زنديق» بالقول إنه «نصّ استشراقي خطر»، لأن مخرجه جعله مرآة لواقع غير دقيق، عندما صوّر الخراب والعنف والجريمة في البيئة الفلسطينية، في مقابل السلام في الحيّز الإسرائيلي. كلام خطر، لكنه قريبٌ من واقع الحال. القراءة النقدية الهادئة مؤجّلة إلى وقت آخر. قال رشيد إن الأفلام العربية «وضعت إصبعها على أكثر من حالة وملف من حياة المواطن العربي». رأى أن الأفلام الوثائقية مثلاً «لامست جروحاً لم تلتئم وحالات آنية وملحّة، كعذاب الأطفال في بغداد وغزّة، ومجمّعات الزبّالين في ضواحي القاهرة، وملاجئ الأيتام في السودان». قال إن مخرجين عديدين فتحوا «كتب الذكريات العائلية للحديث عن الحاضر المزدحم بالآلام والهموم». المواضيع مهمّة جداً. لكن الترجمة البصرية مفتقرة إلى الحدّ المعقول، على الأقلّ، للإبداع. إذ كيف يُعقل أن تُستعاد جروح أليمة في أطر بصرية عادية؟ كيف يُعقل أن يمتلأ الماضي العربي بهذا الكَمّ من المواد الإنسانية المفتوحة على الأسئلة كلّها، ولا تبلغ معظم الأفلام الحديثة الإنتاج مرتبة جمالية تليق بهذه الموادن وبمفاتيحها المعلّقة في الذاكرة والآنيّ؟ هل يكفي احتواء الأفلام على مواضيع حسّاسة ومهمّة، كي يُقال إن «السينما العربية» الحديثة مثيرة للمُشاهدة والسجال النقدي؟ المضمون وحده لا يكفي. الشكل أيضاً. يجب أن يندمجا معاً، كي يحصل المُشاهد المهتمّ على براعة اللغة البصرية في قول العناوين. أفلام لبنانية عدّة راهنت على الذاكرة («كل يوم عيد» لديما الحرّ و«شو صار؟» لديغول عيد) في بحثها الفني في تحوّلات المعيش. أو ارتكزت على الاختبار الإنساني داخل السجن («12 لبناني غاضب، الفيلم الوثائقي» لزينة دكّاش) في توثيق اللحظة المفتوحة على الانقلاب الذاتي.
تجربة إنسانية
لا يُمكن التغاضي عن تجربة زينة دكّاش. أهمية هذه التجربة تحتمّ على المرء التوقّف طويلاً وملياً عند مفرداتها. هنا، يغيب النصّ البصري لمصلحة المادة الأساسية. والمادة إنسانية بحتة. الصورة الملتقطة مؤثّرة. هناك قتلة وسارقون ومغتصبون ومروّجو مخدرات. هناك متهمون بجرائم شتى. لكن هذا كلّه لا يلغي الجانب الإنساني فيهم. التجربة كشفت هذا الجانب. منحته فرصة التعبير عن نفسه. جعلته يظهر أمام العين والقلب والروح. الندم أداة لمقاومة الألم، والتحرّر منه. الاعتراف بالذنب ومصداقيته بداية موفّقة للخروج من نفق الموت. الفن محاولة إضافية لفهم الحياة. أي لمعاينة تفاصيلها الموجعة. الفن طريقٌ إلى الذات. أي إلى فهم أسرارها. اخترقت زينة دكّاش جدران سجن رومية وأسلاكه الشائكة، كي تُقدّم للمساجين فرصة وقوف حقيقي أمام الذات. لم يتجاوب المساجين جميعهم. لكن الذين خاضوا التجربة، أدركوا أن هناك أملاً في أن يكون الندم الفعلي درباً إلى خلاص ما. اشتغلت معهم. جعلتهم ينكشفون أمام ذواتهم، ويكشفون مواهبهم. كتابة أغنية. عزف. تلحين موسيقي. أداء. المعالجة بالدراما وسيلة لتخطّي مأزق الانغلاق على الذات، وفيها، وضدها. المعالجة بالدراما أداة لفهم الذات، ولتوضيح أسس إنسانية للتعامل مع الآخر. للتواصل معه أيضاً. لكن المساجين منشغلون في المرحلة اللاحقة. ما الذي سيواجهونه، عندما ينتهي المشروع؟ عندما تغادر زينة دكاش السجن ونزلائه؟ لا يبحث الفيلم في المقبل من الأيام. يوثّق اللحظة فقط. يطرح التساؤلات فقط.
هذا ما فعله ديغول عيد. هناك جريمة بشعة ارتكبها مسلّحون لبنانيون في التاسع من كانون الأول 1980، في القرية الشمالية اللبنانية إدبل، ذهب ضحيتها رجال ونساء أبرياء. من بينهم والدا المخرج وشقيقته. إنها الحرب الأهلية. النزاعات السياسية والحزبية. الفيلم علاج من نوع آخر، أراده المخرج طريقاً إلى نبش الحكاية وإعادة طرح الأسئلة المتعلّقة بها. في هذين الفيلمين، غابت السينما. الموضوع أقوى. الشكل عاديّ. السجال أهمّ، إنسانياً وأخلاقياً، في «12 لبناني غاضب». السرد انفعالي في «شو صار؟». أسئلة الحرب الأهلية اللبنانية معلّقة في الدم والعنف. هذا كلّه محتاجٌ إلى قراءة نقدية هادئة. الأفلام الأخرى أيضاً، لأنها متضمّنة أسئلة وأشكالاً مثيرة للنقاش.