2016/03/12

خاص بوسطة - بشار عباس

النهاية المفاجئة لفيلم "بانتظارالخريف" (2013 – 113 د)، إخراج جود سعيد، تشكّل نوعاً فيلميّاً منفصلاً؛ وهو الفانتازيا؛ في قطيعة مع الأنواع التي ظهرت في المشاهد السابقة، ومع الحبكات نفسها، فالشخصيّات القتلى تدبّ فيهم الحياة من جديد؛ ما حدث يُعتبر كبناء فيلماً قصيراً قائماً بذاته؛ الإجراء كان لأسباب وظيفيّة، وهي العثور على نهاية لقصّة مكتظّة بخطوط دراميّة عديدة، لا يتطور أحدها ليشكّل حبكة رئيسيّة، ولا يرتقي إلى ذروة، فكان لا بدّ من النجاة إلى نوع آخر، فيّ حلّ لازدحام الأنواع والحبكات والشخصيّات.

مبدئيّاً الفيلم ثنائي التّصنيف: "رومانس– كوميدي"؛ قصد درامي إلى الإضحاك مع قصص حبّ عديدة؛ النوعان مجتزئان لديهما بعض الملامح فقط، وهناك ملامح نوع الحروب؛ شخصيّة الضابط المتقاعد، وأيضاً ضابط آخر، أسلحة وجنود وحواجز؛ ولكنّهم يعيشون ظروفاً مدنيّة؛ نوع "الحروب" يعني أن الشخصيّة الرئيسيّة مُستغرقة في القتال، أو تعيش إلى جانبه، وليس كما في الفيلم المُفتقر أصلاً إلى شخصيّة رئيسيّة، كما أنّ الاختطاف والتفجيرات هما سمات نوع "الجريمة – العنف" وهو النوع الرابع الماثل في العمل، كملامح أيضاً، وليس كعناصر مكتملة.

إن نوعاً خامساً سبق ذلك؛ المقاطع الوثائقيّة الأرشيفيّة، والتي تبتعد بالعمل من التّصنيف الروائي كلّه، وتجعله "ديكو – دراما"، ثم يعود روائياً؛ يُضاف إلى ما سبق أن ملامح الرومانس فيه تفتقر إلى بداية الحبكة الرومانسية، والتي تصنعها عادةً بداية الحبّ، فتكون بداية لصعود الخط الدرامي، أو لاضطراب عالم الشخصيّة، ثم تشرف مرحلة النهاية الرومانسيّة عند بدء الصراع ضد عقبة الحب، أما إذا بدأت القصّة والشخصيّات في علاقة حبّ سابقة، منذ مرحلة ما قبل البداية، فهذا يعني أن قصة الحب تعاني عائقاً تكون مواجهته من مظاهر الانتقال بين البداية وبين المنتصف،هذا ليس "رومانس"، ببساطة تلك سمات نوع الملحمة العائليّة (the family saga) النّوع السادس الذي ينافس باقي الأنواع  في القصّة .

هل القصّة تراجيديا كوميديةّ؟ هذا النوع يعني ظهوراً سريعاً لموقف كوميدي ضمن الظرف التراجيدي، ويكون كل ما في القصّة مأساوي ممتزج بما يدفع على الضّحك، من الأمثلة الشهيرة لهذا النّوع فيلم الهولوكوست (الحياة جميلة). هل القصّة رومانس تراجيدي؟ حب ومأساة مثل "روميو وجولييت"، "الموت حباً"،و"تايتانيك"؛ النهاية الفانتازيّة السعيدة للفيلم تنفي الاحتمالين السابقين، وتبقيهما كالأنواع السابقة: ملامح جزئيّة عاجزة عن التّطوّر.

إنّ تشتّت الأنواع عائد إلى تزاحم الحبكات الفيلميّة، بعضها غير كامل، وبعضها شبه كامل ولكن لفيلم قصير، فأنموذج الحبكة يحدّد النّوع، والشخصيّة تقود الحبكة؛ فما هي حبكة الفيلم؟

 

لمعاينتها بوضوح يمكن سحبها كمُختصر قصّة، وبإيجاز كثيف؛ هل القصّة عن: انتظارين عاطفيّين امرأة لزوجها المختطف وفتاة لخطيبها الذي في الجيش؛ ما سبق كان كافياً لتأسيس حبكتين رئيسيّة داعمة، إنّ قصّة الانتظارين يعتريها صعود سريع لذروة تنهار فجأة، إطالة فترة الذروة حدثت مونتاجياً وليس دراميّاً، وذلك بـ "القطع المتزامن" (cross cutting)، بالذهاب إلى محور آخر والعودة إلى هذه الحبكة.

هل القصّة عن: امرأة وضابط متقاعد في حب يعوقه الفارق الديني بينهما، يتم فجأة الإعلان عن انشقاقه، فيقوم بتكذيب الخبر أمام الكاميرا ثم يتفقان على الزواج، إن زوال العقبة بينهما وقع دون مبرر منطقي، فتمّ بقرار مباغت كان لهما أن يتّخذاه مسبقاً إن هوَ كان بهذه السهولة، وكذلك تبدو لفيلم قصير طالت بدايته للخلف لتوازي الأفعال الدرامية في البداية.

هل القصّة عن: فريق كرة طائرة نسائي في قرية منسية تريد إلى كأس الجمهورية في ظروف التهديد بالعدوان الأمريكي؟ تلك حبكة تظهر فقط كمنتصف بلا بداية أو نهاية، شخصيّات الفريق لديها أهداف وعقبات غير شؤون المنتخب، إنّ الرياضة على هامش همومها.

هل القصّة عن: ناشط ثوري يوثّق بالكاميرا دماراً حلّ بحمص، ثم ينقذ صديقه الضابط أثناء مرورهما على حاجز للمسلحين، بأن يدعي أنّه هو الضابط، فيطلقون سراحه آخر الأمر، هنا يغدو هو الشخصيّة الرئيسة وليس امرأته التي تنتظر، وقصّته هذه فيها مشكلة لي عنق الظروف والأحداث لتلائم التوزيع على مشاهد متفرّقة، وهي بمفردها تظهر كفيلم قصير.

هل القصّة عن "نيبال" ماكينة الروح المعنوية في القرية، والتي ترفض الموت واليأس وتريد أن يشاركها الجميع بالتفاؤل، فتخوض صراعاً ضد الإحباط  والحرب، هذه الحبكة تُنافس حبكتها التي تُظهرها في علاقة حب، بسبب الفرق الكبير في الهدف الرئيسي للشخصيّة، هنا وهنالك الهدفان مُتنافسان، ما دفع إلى تحقيقهما معاً وفجأة.

هل القصّة عن: طفل يجوب الأنقاض ويسأم الحياة والذهاب إلى المدرسة، يُصادق مصوّر يلتقطه بالكاميرا وهو يوثّق المدينة؛ إنّها بداية لا تكتمل، الغرض منها التقاط المكان باختراع شخصيّة الطفل كمبرر تصويري.

هل القصّة عن: أمّ تعيش مشاعر الفقد على ابنها فتأتي وتجلس بجانب ضريحه. ذلك كان لقطات مجتزأة موزّعة مونتاجياً لا ترقى لمشهد كامل.

هل القصّة عن: ضابط نزيه يقف في مواجهة عنصر حاجز فاسد ويطرده في نهاية المطاف، هذه لفيلم قصير يلائم إعلانات التّوعية الاجتماعيّة.

 لعلّها عن: شخصيّة تعيش مع المسلحين وتصادق صانع أفلام مُختطف. ربّما القصّة عن حلاق نسائي يجد نفسه على رأس جماعة مسلحة.

عن فتاة تونسية تعيش يومياتها مع المسلحين. عن نازحين يعيشون في خيام بجانب ملعب كرة طائرة. عن شخصيّة تواجه مشقّة النزوح خارج البلاد، هناك عدد كبير من الحبكات المتنافرة، وجميعها تقودها شخصيّات شبه رئيسيّة؛ ثمّة فروق كبيرة في السمات بين الشخصيّة الرئيسيّة، والدّاعمة، والثانويّة، تلك فروق قد خلت منها القصّة الفيلميّة.

إنّ الذي حلّ بالحبكات سببه التالي: كل شخصيّة تقريباً هي رئيسيّة لم تأخذ فرصتها في زعامة القصّة، وعند ظهور أي منها تبدو القصّة كلّها عنها، ويُعيقها عن النمو والتطوّر مزاحمة الشخصيّات الأخرى لها؛ الزمن الدرامي للفيلم لا يكفي الشخصيّات جميعها، تُشبه غصن مكتظّ بثمار كثيرة، كان يجب التضحية بالبعض ليُتاح أن تنمو البقيّة .

التراجيديا عموماً غير جادّة، فالمخطوف يلقى معاملة خاصّة، لأنّه على انسجام فكري مع الخاطفين، البطّ من وراءه للحصول على صورة جيدة، ومصباح كهربائي أمامه بمشهد آخر، ويستأنف هواياته التصويريّة، ويكون الاختطاف شبيهاً بمزحة أصدقاء، إنّه ينهض ويقترب من المصباح ويضيئه، ربّما اطّلع على قائمة اللقطات، وساعد فريق التّصوير في الحصول على "كلوز أب" مع لمبة تُضيء، وهم بدورهم لم يقصّروا معه، فزوّدوه بمصباح له زر تشغيل؛ التهديد بقتله من المسلّح الغاضب يخمد فجأة، ثمّ إنّه ينجو، ويودّع صديقه بطريقة العودة من معسكرات الكشّافة، حتّى الجرحى بالتفجير يحدث أنّ جراحهم طفيفة لكي يحضروا العرس؛ القدر في صفّهم، والجميع في خدمة موضوعة الفيلم؛ ومن يعترض عليها يُقصى من القّصّة، كالطفل في المكان المدمّر، أو المرأة بجانب الضريح، بالإضافة للنازحين أمام خيامهم، الجالسين بطريقة سيران صيفي؛ إنّ أمراً فادحاً كبيع الحاجر يظهر في الحوار هكذا؛ "إذا إنت يلي بايعو للحاجز بدّي أنتفلك ياها" يقصد لحيته التي يمد يده إليها، وذلك بينما يمشي.

الظروف والحبكات المجتزئة معاً في خدمة نوايا "نيبال" ونزعتها التفاؤليّة؛ هي تُريد أن "بدنا نعيش ونشمّ ورد" فتتفق معها سائر الشخصيّات، وأحداث المشاهد السابقة.

المسلّحون على الحاجز يرضخون لرغبة المخطوف خوفاً عليه أن يقتل نفسه، فيخسرو بذلك فرصة القبض على البقيّة، هذا مُقنع ولكن ليس في حمص، بل هنالك في أفلام حركة حيث تخشى الشرطة الفيدراليّة فيها على حياة الذي يهدد نفسه، إنّ ضعف تحديد السمات النفسية والثقافيّة والجغرافية للشخصيّات عنوان للعمل، وبما أنّ سمات الشخصيّة هي المحدد الأوّل لسمات النّوع الفيلمي، فإن ضعف تحديدها أضعف طابور الأنواع الفيلميّة المتدافعة.

ثمّة رأس خيط يشي بملامح نوع تاسع "الملحمة التاريخية" وتعني قصّة تقع بجانب حدث تاريخي معروف، وهو التهديد بالعدوان الأمريكي عام 2013، وهو ما ظهر فقط في الديالوج،  الشخصيّات تذكرها لفظاً أربعة مرّات، هذا الحدث لا يؤثّر في الفعل الدرامي ثم يختفي بغتة، ماذا تبقّى؟ هنالك ملامح النوع الرياضي، ويعني أن الصراع الدرامي يخوضه شخصيّة رياضيّة من أجل فوز رياضي، أو لمواجهة ضعفه، النّوع يحضر جزئيّاً ببضعة مشاهد، فقط لتصوير لحظات لعب وحركة وطيران كرة، فالهدف الأكبر للشخصيّات هو الزواج وليس الفوز.

إنّ النوع الأكيد هو الكوميديا بتصنيفها العريض، وهي ليست كوميديا سوداء، لأنّ من شروط الأخيرة ألّا تعي الشخصيّة أنّها شخصيّة؛ تشارلي تشابلين عندما يجد نفسه في قفص سيرك مليء بالضواري لا يعي أنّه يقوم بما هو مُضحك، وإنّما الفعل الدرامي مقارنةً بالظرف هو الذي أضحك، إنّ ثلاثة كلمات تكفي لتحديد الكوميديا السوداء: حبل المشنقة والتابو؛ كوميديا في ظرف مأساوي تتناول المحرّمات، أمّا عن رغبة الشخصيّات  بالإضحاك فواضحة، لأنّها تدرك أنّها شخصيّات، ساهم في ذلك المبالغة المُفرطة في الأداء، على مستوى الصوت وفائض الحركات غير المبررة من جهة، وبسبب خيارات الإخراج من جهة ثانية؛ الخيارات تُنافي القاعدة البديهيّة للإخراج، وهي أنّ الكاميرا تتبع الشخصيّةَ، وليس العكس.

 

لقد ظهرت الشخصيّة التابعة للكاميرا في مشاهد عديدة، من أخطرها مشهد سكب النبيذ، فكل شخصيّة تسكب، ثم تناول الزجاجة للشخصيّة التي على يمينها، الجميع يُراعي في السكب وفي المناولة سرعة حركة الكاميرا التي تأخذهم بحركة التراك – يسار، الشخصيّات حريصة في الفعل الدرامي على نجاح اللقطة، وتأخذ بالحسبان قبل ذلك الموضع، فجلسوا على نسق واحد لكي تبدو وجوههم جميعاً للكاميرا دون الحاجة إلى لقطة عكسيّة، لقد قرروا إذاً ألا يعطي أحدهم ظهره للمصوّر، ما أوحى بأنّهم  يدركون أنفسهم كممثلين يؤدّون شخصيّات، كذلك أثناء أحد الحوارات بين الخاطفين والمخطوف؛ يقفون على شكل نصف قوس قبالة الكاميرا لتراهم جميعاً، لقد تمّ التضحية بالحركة داخل المشهد (الميزانسين) لصالح الكاميرا، مثلما التضحية بالمونتاج لصالح الديكور؛ كثيراً ما حدث الانتقال من محور لآخر ليس لضرورات البناء، بل لأنّ الوقت حان للعودة إلى المقهى، إلى الوادي المشرف على الجبل، إلى مكان الاختطاف، إلى الساحة، وغيرها.

 

الكاميرا تجهد في اللحاق بالحبكات، يعزّز هذا الحوار الشارح الذي يراعي الجمهور، لأنّه يجهد في كشف ملابسات غير مفهومة للمُشاهدين، فحضور الجرحى في العرس لم يكن مفهوماً، فلا بدّ من حوار يكشف الأمر، فيقول لها ما معناه: "لقد أصرّوا رغم جراحهم على حضور العرس"، المفروض أن تنظر هي وتعي الأمر، لا أن يُقال لها وللجمهور القصد الدرامي لمشاعر المشهد.

 

الاستقرار على الفرضيّة الكوميديّة، وبالنظر إليها مع تفاصيل الأداء، يُمكن تصنيفها على أنّها كوميديا الفيرس المسرحي (farce comedy)، وهو النّوع الذي يحدّده الدكتور في نظريّة العرض المسرحي، أبو الحسن سلام، (رئيس قسم المسرح في جامعة الإسكندريّة 1996 – 2007)، بسمات واضحة، وهي: الإضحاك من أجل الإضحاك، اعتماد القفشة والنكتة في الإضحاك وليس الفعل الدرامي، تكرار لفظ بذيء (في الفيلم نجد لفظة مثل جحش وما أجحشك 14 مرّة) تكرار الحركات الجسديّة التي لا تتناسب مع الجمل الحواريّة، تضخيم عيوب الشخصيّة، كالتأتأة أوالفأفأة، اعتماد لهجة جغرافيّة محددة، تحوّل الأداء فجأة من شعور إلى آخر دون منطق أو تبرير درامي مع ميل للبكائية (يظهر ذلك في المبالغة البكائيّة التي أدتها ربا الحلبي)، التركيز على عاهة لدى إحدى الشخصيات، كأن يكون أحدب، أو قزم، أو طويل جداً (هذا نجده في تصميم الهيئة البدنيّة لشخصيّة نيبال) بالإضافة إلى التحوّل المتواتر في الحبكة بطريقة مفاجأة ولمرّات عديدة.

ويحدّد أبو الحسن سلام لهذا النوع المسرحي في مصر مسرح سمير غانم، وقبله مسرح عبد المنعم مدبولي، وهما يتفقان مع مسرح "دبابيس" بنسخته المحليّة، وهو النّوع الأقرب إلى تصنيف الفيلم، ولكنه للأسف نوع مسرحي وليس فيلمي .

 

إن اضطراب فوضى الأنواع التي يمكن توليفها ضمن نوع الفيرس كوميدي، هو ما تسبب في افتقار العمل إلى أنموذج يوحّد الهويّة الإخراجيّة على مستوى حركة الكاميرا، وأحجام اللقطات؛ هناك أوّلاُ أنموذج: اللقطة المرحلة – لي بلان سيكونس-  التي تجوب في المكان لتأخذ "نيبال" اثناء حركتها ودخولها المقهى وخروجها دون انقطاع.

وهناك ثانياً:التراك يسار أو يمين أمام الطاولة الذي يساير حركة زجاجة النبيذ، وفي المشهد الحواري الذي يقول فيه المختطف "بدّي أنزل ع حمص".

وهناك ثالثاً اللقطات الثابتة بالحجم العريض، كاللقطة العريضة التي يقتحم الضابط فيها الكادر ليطرد عنصر الحاجز من العمل، وهو يراعي ألّا يتضمّن الأداء ما يدفع لتحريك الكاميرا أو القطع ، ذلك ما لم يظهر في أفلام سابقة مثل صديقي الأخير، فقد كان أنموذج الإخراج أكثر تحديداً بهويّة واضحة، ما يؤكّد أن النصّ الجيّد هو المحدّد الأوّل للإخراج الجيّد.