2015/05/19

من العرض
من العرض

السفير - سامر محمد اسماعيل

العروض الثلاثة الأخيرة التي أنجزها المخرج مأمون الخطيب للمسرح القومي بدمشق؛ تؤكد رغبة عارمة لدى هذا الفنان في مسرحة الحرب الدائرة في بلاده عبر امتصاص صدماتها المتتالية وإعادتها إلى مأزقها الإنساني؛ فمنذ عام 2011 قدم الخطيب عرضه «كلهم أبنائي» عن نص آرثر ميلر الشهير، بينما حقق في 2014 مسرحية «نبض» عن نص من تأليفه؛ ليفتتح هذا العام عرضه الأحدث «هدنة - مسرح الحمراء 14ـ 28 أيار» عن نص كتبه الشاعر عدنان أزروني.
لا تبدو الفروق كبيرة وحاسمة بين العروض الثلاثة؛ لا من ناحية الأسلوب الإخراجي، ولا حتى من جهة توزيع الأدوار على الممثلين الذين رافق معظمهم «الخطيب» تقريباً في مجمل أعماله، وبأسلوب أداء بات يتكرر من عرضٍ إلى آخر، لكن ما هو واضح حتى الآن رغبة صاحب مسرحية «زنوبيا - 2001» بإنجاز توليفة سورية على الخشبة؛ فإن كان عرضه الأول يعلي من مقولة «الوطن على حق» فهو في عرضه الثاني قد ركّز على واقع أمهات الحرب؛ وانعكاس الكارثة على أبنائهن دون استثناء.
أما في «هدنة» التي أنتجتها «مديرية المسارح والموسيقى»، فتتقدم المتاريس إلى واجهة الخشبة؛ معلنةً رؤيا تشاؤمية لغد سوري تزيده الأيام قتامةً؛ رؤيا لخصها كل من كاتب العرض ومخرجه في إعلانهما للمتراس بيتاً، وذلك من خلال حكاية «هادي» (يامن سليمان) الجندي ومهندس العمارة الذي يحلم ببناء بيت يضمه وحبيبته الفنانة التشكيلية «مريم» (نسرين فندي) جاعلاً من أكياس الرمل جدراناً لبيت الزوجية المرتقب.
هدنة العاشقين
لكن الحرب مستمرة، ولا يمكنها منح «هدنة» للعاشقين، بل هي لا تعترف بهما أصلاً إلا كدريئة على خط النار. مواجهة تتداخل فيها الأمكنة وتتصالح بين طرفي الصراع؛ لتفرض الحرب عليهم إيقاعها الدموي، فـ «الخطيب» في هذا العرض يدمج عبر إضاءة «ريم محمد» وموسيقى طاهر مامللي البيوت السورية التي تتوحد على جبهة القتال؛ نازعاً عبر التغريب إمكانية فصل الأمكنة والأزمنة المتناحرة.
مجابهة ظاهرها الحرب وباطنها اجتماعي يتبدى في حضور والدة الجندي «لينا حوارنة» وأبيه «غسان الدبس»، كرمزية عن «نظام» أسروي يفرض بالقوة شكل الحياة ومآلاتها؛ فيما نطل في الجهة الأخرى على خلفية أسرة الفتاة وعمِّها - «جمال نصار» الذي سيقضي بقية عمره متحسراً بعد زواج والدة الفتاة «رنا جمول» من أخيه العاجز.
نزاع يسوقه العرض بين أمٍ صارمة وأخرى تتبع قلبها وهواها. قصص ترويها شخصيات أبوية بدأت صامتةً اجتماعياً منذ سنوات؛ وتكلمت مع الرصاصة الأولى، مورّثةً حُصرُمَها للأبناء؛ فمع أن لسان حال الشخصيات أباح مفردات التراشق السياسي على نحو: «مندس، شبيح؛ معارض، موالي» لكنه رفض مفردة «خائن» أن تنضم إلى قاموسه الوطني تحت أي ظرفٍ كان.
فكرة كانت ستبدو أكثر جاذبية؛ لولا أن الحلول التي قدّمها النص والإخراج ظلت على السطح؛ فلم تقترب إلا عبر ملامسات خجولة من جمر وطني تلطى لسنين تحت الرماد؛ فالصدام نحا إلى مباشرة فنية؛ لا سيما في لحظة نزال جمعت بين الجندي ببندقية الكلاشينكوف الروسية، وعمّ الفتاة الذي حمل «إم 16» البندقية الأميركية في وجه غريمه؛ كدلالة كاريكاتورية لجهة توصيف الاقتتال بين أبناء البلد الواحد.
حكاية «عمار» (أسامة التيناوي) صديق الجندي تحضر هنا أيضاً؛ مبرمةً مصيراً مأساوياً للشاب الضاحك الذي يعشق الحياة بقصفها ولهوها بين حارات دمشق القديمة، لتنتهي حياته بقذيفة ستقاطع ضحكاته ومشاويره مع صديق العمر، إذ يودي استعراض خارطة الحارة الشامية ونكهاتها ودهاليز أسواقها العتيقة؛ إلى حمّام السوق؛ وصولاً إلى ما يشبه مَطهراً جماعياً يخلع فيه السوريون ثياب الدم، ليغتسلوا حين لا ينفع التيمم بذكرياتهم البراقة أيام السلم.
في العمق يبدو «هدنة» إضافةً خافتة على عروض ريبرتوار الحرب؛ إذ تبدو اللعثمة في حركة الممثلين منذ اللحظة الأولى للمسرحية، ناهيك عن مشاغلات في عمق الخشبة حاولت الإضاءة ترميمها لجهة توزيع كتل الديكور المتناظرة بحدية بين المتراس ومرسم الفتاة؛ إذ إن هاتين الكتلتين لم يتم توظيفهما كما ينبغي؛ لولا أن «الخطيب» تدخل وأنقذهما في نهاية المطاف؛ جامعاً شخصيات المسرحية وراء المتراس؛ وهي تحمل معها أصص النبات المنزلي، وصورة الجندي شهيداً قبل الموت وبعده؛ في إشارة يعلنها مذياع «هادي» بصوت السيدة فيروز: لا وقت للموسيقى في زمن الرصاص.