2013/05/29

وثيقة وطن ممنوع تزويرها الدراما السورية بين سندان المال ومطرقة دخلاء المهنة
وثيقة وطن ممنوع تزويرها الدراما السورية بين سندان المال ومطرقة دخلاء المهنة

تمام علي بركات – تشرين

عانت الدراما السورية طوال العقد المنصرم من سوء مقصود في توزيع الأدوار، وهذا مرده إلى كليشيهات سوغتها هذه الدراما لنفسها عبر باقة متنوعة من أعمال أصاب مخرجوها في اختياراتهم لممثليهم مرةً،

وفشلوا مرات أخرى في إسناد الدور إلى هذا الممثل أو ذاك. وفق هذه الاعتباطية التي سوغتها أسباب وظروف كثيرة لا يمكن أن أتجاهل أهمها، وهي أن مهنة المخرج التلفزيوني  صارت مجرد حرفة يتعلمها «صنايعية» قضوا ما قضوه تحت يد هذا المخرج أو ذاك، حرفة كأي حرفة لها علاقة «بالأيدي الماهرة» برنامج عن الحرف اليدوية المنقرضة إلا أن الحكاية هنا ليست لها علاقة بالنقش على النحاس أو الحفر على الخشب، وبعيدة عن المنطق السياحي الذي يصدّر الثقافة على هيئة طرائف شعبية..، الحكاية أن الإخراج التلفزيوني الذي خاضت غماره كوكبة من خريجي السينما والمسرح والإذاعة في سورية ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت نجح في الأمس في تحقيق الكثير من طموحاته، مستنداً إلى  الرؤية الفنية والثقافة والتحصيل الجيد لهؤلاء المخرجين، الجهد المبني على باقة متنوعة من الاختلاف والقدرة على صنع المشهد الخاص بكاميرا واحدة، كاميرا حساسة وذكية ومدربة، شمولية محكمة في مخاطبة المُشاهد واستدراجه إلى الأحداث، قدرة معقولة في اختيار وقراءة السيناريو الجيد، تقطيعه ومناقشته بصرياً.

لكن ماحدث بعد دخول فضائيات البترودولار جعلت من مخرجين جدد لا تنقصهم الدِربة في تصويب كاميراتهم، ولا أخذ المزيد من لقطات الشاريو والكرين، كما لا تعوزهم «الطواقي والذقون» في مواقع التصوير.. لكن ما افتقد إليه معظم هؤلاء هو الرؤية الفنية، الموهبة الحقيقية في صياغة وتركيب المشهد العمومي لأعمالهم، الرؤية التي تستطيع أن تقدّر أن هذا الممثل يستطيع تأدية هذا الدور أم لا، تناسبه هذه الشخصية أم لا، فالممثل هنا مجرد ماركة مسجلة تطرحها الشركات المنتجة منتهزة غياب الندّ الفني لها، التوازن بين المال والفن، أعني المخرج المثقف الخارج من رحم المسرح أو السينما القادر على الدفاع عن رؤيته، لا المخرج المنفذ لقرارات رؤوس المال الخليجي..! مساعد الملابس، راقص الفرق الشعبية..، أو «الكهربجي» فني الإضاءة الحانق على عاكسات الضوء ومزاجيات المخرج وأذواق مصممي الملابس، أو ربما ذلك الذي انتقل بقدرة قادر من حفلات التعارف وخشبات المسرح التجاري إلى إخراج واقعي بامتياز كانت آخرها فيما يسمى «تصوير تحت الطلب» لنكات سمجة سماجة صانعيها..

إن نظرة خاطفة على مقاطع عرضية من مسلسلات الترويح عن النفس هذه تجاوزت كل القيم الفنية والأصول الدرامية لصناعة سورية بأموال نفطية؛ ستخبرنا عن حجم الدمار الذي لحق بالدراما السورية، فالفوضى العارمة في توزيع الأدوار سترشدنا إلى عطب رئيس في الرؤية التي كرّست بلا رحمة سوية سياحية بحت من مسلسلات لا طعم لها ولا رائحة. بمعنى آخر صارت اليوم الشركة المنتجة هي من تقوم بإخراج المسلسل عبر وسيط حمل لقب «المنتج المنفذ» فهو لا يطلب الكثير من المال، مخرج مؤدب مع جهته الإنتاجية، ويسمع الكلمة فلا يكسر لها خاطراً؛ كيف لا وهي من حوّلته من مساعد ملابس إلى مخرج كبير وبأجزاء.. إنها الأموال «العبقرية» التي جعلت منه مخرجاً، هكذا توزع الأدوار الفنية كحصص في مشروع تجاري، كما توزع مثلها أسماء المخرجين وأجور الإهانة لتسويق الوجوه السورية في كباريهات المال النفطي.

كل شيء محسوم من البداية، يدعم ذلك الشللية الأخاذة، والمعية والوراثة الفنية التي أعطت أُكلها في «مخرجي التقطيع» وممثلين لا داعي لذكر أسمائهم الآن، فالقصة أمست واضحة ومكشوفة للغاية، الخطير في الأمر أن هؤلاء «الصنايعية» استطاعوا بقدرة قادر أن يطيحوا بمن زكاهم لهذه المهزلة، وخير دليل على ذلك هو غياب أسماء كبيرة عن مساحة العرض التلفزيوني، أسماء غادرت حيث جني الأرباح تحت طائلة الارتهان المطلق لتلفزيونات الببسي كولا، لتجد أن أدواراً أخرى تم توزيعها من قبل شركات الإنتاج، طبعاً لم يصرح أحد من هؤلاء أن القصة جرت على هذا النحو، فمن الممكن القول ان الدراما السورية «ولاّدة» لكنها ليست بنت المستكفي..، إنها ابنة الإنتاج ببساطة، لعبة الشركات التي تريد المزيد من منفذين يرضون بربع أجور معلميهم، لكن إلى حين؛ حيث يصبح من الصعب بعد عمل أو اثنين تنحية هؤلاء من وراء جهاز المونيتور، فقد لقطوا سر الصنعة، ولاسيما بوجود الطواقم الفنية القديمة التي تشتغل وفق منطق العمل الفني على ترقيع أخطاء الكاميرا والسيناريو السيئ وغياب الرؤية بمونتاجات تكاد تكون شبيهة بكتابة وإخراج إعلانات العلكة وشامبو القشرة التي لا تزول.

ماحدث أن هذه الدراما أنتجت اجتماعياً طبقة من محدثي النعم، بفعل الأجور الخيالية لما يسمى «نجوم الصف الأول» وهذا غالباً ليس له علاقة بحجم الفوضى التي تتركها كاميرا المخرج الجديد وراءها، المهم أن «الكاميرا المالية» تدور هنا أو هناك لتخلف وراءها مسلسلاً آخر من الأخطاء والعثرات التي تصل للمشاهد على هيئة أشكال مبتكرة، وحذلقات بصرية لابد منها لمخرج لا يزال في بداية الطريق، وما إلى ذلك من حجج أقبح من ذنوبها.

على مستوى آخر تتوالى إشكاليات أخرى في العمل الدرامي، فسوء توزيع الأدوار جاء بسلبيات متعددة لا على صعيد الإخراج وحسب، بل على صعيد اختيار النصوص والكوادر الفنية، وتحت ضغط سوق عكاظ الدرامي، وانقسام الشركات السورية الوطنية ومحاصرة أعمالها في أسواق التوزيع، حيث أخذت معظم الأسماء الجديدة بالتجريب أكثر فأكثر في الجمهور واختفى ما كان يسمى «بمسلسل الرواية التلفزيونية» عن خارطة العرض؛ ليحل بدلاً منها ما يشبه تلفزيون الواقع إلى حدٍ كبير سواءً على صعيد الكتابة أو الإخراج، فمن الممكن أن نرى ماذا حدث للصورة في ظل الأشكال الجديدة، ماذا حدث للحوارات المكتوبة من تطويل همه الوصول إلى الثلاثين حلقة رمضانية بشق الأنفس، ثلاثون حلقة ولا يحدث شيء، أي شيء، نتفرج على حياة شبه واقعية، مشاهد مطوّلة لجلسات الغذاء والعشاء في البيوت والمطاعم والمقاهي، حتى صرنا أمام ما يشبه المائدة المستمرة لنجوم التمثيل، حياة طبيعية تضعنا في أدق تفاصيل العيش اليومي للأبطال، حيث يستيقظ البطل أو البطلة من النوم وتغسل وجهها، ثم تشرب قهوتها وتركب سيارتها..إلخ من التفاصيل التي لا ضرورة لها سوى الإطالة بلا طائل، فلو تعرضت المسلسلات الجديدة لتحرير من أي نوع  فلن يبقى من الثلاثين حلقة سوى أربع أو خمس حلقات، والسؤال: أين الدراما في ذلك كله، الدراما بمعناها الأصيل كأفعال متتالية لها معنى، لها تأثير على القصة إما بتطويرها أو إيجاد نوع من تقاطع الأفعال على هيئة حبكة مجابهة وحبكة حل، الأمر الذي ساهم ولا يزال في فبركة المزيد من التفاصيل والحوارات المصوّرة في وقتها من أجل تعبئة ساعات المسلسل الطويل عبثاً على شاشات لا هم لها سوى استقطاب المعلنين .

إن الساعة الدرامية السورية على غلائها ورواجها في محطات البث، إلا أنها فقدت قصتها، فقدت معناها في خطاب الجمهور المدني، آخذةً إياه إلى ما يشبه التلصص على حياة شخصيات تزاول عملها وتقيم الموائد والحفلات وتختلف وتتصالح من دون أن يحدث شيء، فطريقة التفكير عند معظم الكتاب والمخرجين الجدد تميل إلى هذا النوع من الفرجة الفارغة؛ ولاسيما أن هؤلاء ما زالوا ينظرون إلى العمل الدرامي على أنه نوع من الترفيه الفائض عن الحاجة، احتقار التلفزيوني على أنه نوع من الفن الاستهلاكي الذي لا يحتاج إلى فنانين بقدر ما يحتاج إلى موديلات جاهزة و أداتية، تفصيلات على أجسام غير ملائمة وفق مسطرة واحدة لكل شيء.

ما يسوغ للمشاهد ضياعه بين الأعمال الجديدة وعدم تفريقه بين مسلسل وآخر ليس شغل الممثلين ذاتهم في معظم هذه المسلسلات وحسب، بل في التوليفة الجديدة التي يراهن عليها الجيل الجديد من مخرجي الدراما، تلك التوليفة التي فرضتها شركات الإنتاج وجعلتها تنوء بأعباء الطريقة الواحدة لجيل تقني بحت، دينه وديدنه رضا جهة الإنتاج على تفانيه في العمل، ولاسيما بعد أن تحول المخرج السوري إلى وكيل إقليمي لهذه الشركات التي خانت من خلال مخرجي الوقت الضائع إرثاً هائلاً وحقيقياً لمبدعين مضوا بصحبة الوهم، لنصل في نهاية المطاف إلى نجوم تركوا الحقائب جاهزة لمغادرة الكادر الوطني إلى أبراج ليس للعربان فيها إلا اسمها، متناسين أن ذاكرة التلفزيون العربي السوري لا تمحى بدنانير تُرشُ عليهم كما ترش على مضحكي طويل العمر..!!