2017/04/11

يوم المسرح العالمي: يسقط المسرح (الجزء الخامس "ج")
يوم المسرح العالمي: يسقط المسرح (الجزء الخامس "ج")

 بوسطة - بشار عباس

الفعل الدرامي المعطوب بالحوار

-5-

 

ج- الدارماتورجيا: هكذا يُعطب الفعل الدرامي على الخشبة:

في الندوة الفكريّة التي عقدت على هامش مهرجان دمشق المسرحي عام 2008، أعلنت الدكتورة ماري إلياس أنها ضد وضع تعريف عربي للدراماتورجيا، وقالت أنّها ضد ترجمة المصطلح،لأن ذلك لن يفيد في مقاربته، بل ويخلق الفوضى في نقاشه.

وفي نفس تلك النّدوة صرّح المسرحي العراقي الدكتور صلاح القصب بكلام أقرب لليوغا منه للدراما، فقال: (إن الدراماتورجي  يبحث عن زمن القراءة وفضاءات الرؤيا في بنية العرض المسرحي، منبثقة من خارج إدراكاتنا الحسية، ليرسم افتراضاً يمنح العرض فرصة مكوّنات جديدة) في حين أضاف المسرحي الأردني محمد خير الرفاعي أنّ الدراماتورجي (يمارس نقداً وتنظيرا لكل مكونات العمل المسرحي) ثم جاء رأي عميق آخر من الدراماتورج الألماني فرانك داتيس يرى فيه ان مهمة الدراماتورجي هي أن (يقدم إضاءات واقتراحات تضيف للعمل الكثير) وربّما يكون داتيس قد اقترب من شطحة صوفيّة عندما أضاف: (هذا لا يعني ان الكاتب أذكى من المخرج، ولكن الفكرة بين السطور هي أذكى من المخرج والكاتب معا) ثم أتى رأي آخر تقدّم به الدكتور نبيل الحفار شارحاً كيف ظهر المصطلح في ألمانيا من خلال (اخضاع النصوص المنتقاة للإعداد والترجمة) ثمّ عادت الدكتورة إلياس للتّأكيد على أن (الذّهنية الدراماتورجية تعبّر عن بعد معرفي، وأنّ الدراماتورج يمكن أن يكون المخرج أو مصمم الأزياء أو السينوغراف او أي شخص يربط بين الخطوط جميعاً) !!!

ثم إن مسرحياً فرنسيّاً كان حاضراً في مؤتمر القمّة المسرحي هذا، وعندما ينظّر الفرنسي فلا أحد يجاريه في العمق، الدكتور جيرارد آستور قال: (الفضاء والمكان المسرحي قابلان للتشكّل، وداخل هذا التشكّل تتموضع العملية الدراماتورجية، لأنه لا يمكن اختصار العالم في رؤية واحدة) يبدو أنّه دخل بموضوع جديد في كلماته الأخيرة عن العالم والرؤية الواحدة، وربما لو أخذ وقتاً اطول لصرخ قائلاً على طريقة كوبرنيكوس: ولكنّ الأرض تدور!! 

ثمّ عاد المسرحيون العرب لحمل لواء هذه المناقشة في تلك الجلسة، فهذه بضاعتنا رُدّت إلينا ونَميرُ أهلنا:  المسرحي العراقي جواد الأسدي قال من وحي تجربته: (لا يمكن ضبط كلمة دراماتورجيا بحدود ومقاييس، لأنّ ذلك يخرجها من مساحتها الواسعة إلى حدود ضيقة، فهي مجال مفتوح إلى الحرية المطلقة في العمل الإبداعي، من خلال كيفيّة تركيب الأساسات داخل النص لإحالتها إلى إشارات وكتابات من نوع آخر) الكلام السّابق يمكن أن يُعتبر أنموذجاً للغة التي يكتبها نقاد ومنظّري المسرح هذه الأيّام !!

وأخيرا وليس آخراً، تفضّل المخرج التونسي المنصف السويسي بهذا الرأي (الدراماتورجيا تدخل في كل مفاصل العمل المسرحي، وهي على تعددها تكاد تكون غير موجودة، فإذا كان الدراماتورج سيقوم بهذه الأعمال كافّة، فما هو عمل المخرج اذا؟ ان مهمة المخرج في المفهوم المعاصر للمسرح تشمل عمل الدراماتورج، لأنه يشكّل رأس العمل، وبالتالي فان الدراماتورج ينتفي عمله نهائياً) !!

بعد استعراض تلك الآراء السابقة لكوكبة من المسرحيين، فإنه يمكن اقتراح تعريفين لوظائف الدراماتورجي الأوّل كيف تحدث هذه الوظيفة في المسرح المحلي، والثاني كيف ينبغي أن تكون، ولكن قبل اقتراح التعريفين لا بد من طرح سؤال: اذا افترضنا أنّ المسرحيين الواردة اسمائهم اعلاه يدرّسون طلاب مسرح في مؤسسة تعليمية ما، فما هي نوعية الطلاب التي سوف تتخرّج من تحت أيدي هؤلاء، وكيف سوف يكون مفهومهم عن الدراما؟ ذلك ببساطة هو المسرح؛ فوضى ذهنية تنتهي بتشويش.

التّعريف الأوّل التّالي المُقترح ينطبق على المسرح المحلي ويظهر في احتمالين، الاحتمال الأوّل: الدراماتورج هو مخرج ليس لديه واسطة أو معارف ليحصل على تمويل أو دعم أو فرصة إخراج مسرحية، فيتولى الاخراج الفعلي تحت اسم دراماتورج، في حين تطلق تسمية مخرج على شخص موهوب ليس في الدراما ولكن في العلاقات، الاحتمال الثاني هو: تنفيعة لشخص من معارف المخرج ساهم بطريقة ما في صناعة العرض، فحاز على هذا اللقب، ذلك السّبب قد يجعل بعض المخرجين المحليين يستغنون عن هذه الوظيفة أصلاً، فهي تظهر في بعض العروض، وتختفي في بعضها الآخر، هكذا دون مبررات، مثل مخالب القطّ.

أمّا التّعريف الثاني المقترَح، وكما ينبغي أن تكون وظيفته: هو الشخص الذي يهيّئ أسباب صناعة العرض، وذلك بمراقبة السويّة الإبداعيّة لكل الجوانب التنظيمية واللوجستية والفنيّة للعمل، من خلال قيامة بحراسة النص والفكرة والمقولة من أي شطط قد يظهر على أحد اعضاء فريق صناعة العمل بمن فيهم المخرج، فيشارك بدايةً بعملية اعداد النص وفق التغييرات التي تتم عليه في الظروف وسمات الشخصية وماضي القصة، ثمّ في اقتراح أنموذج السينوغرافيا، ثم الأداء، وذلك عبر ممارسة نقد فوري آني لكل جوانب العمل بما يؤدي إلى تقويمه أثناء عملية صناعته في تلافي أي خلل قد ينجم، وذلك في تمايز عن دور المخرج الذي يقترح كلّ ما سبق، أما وظيفة الدراماتورج فتكون في اختبار وتقييم تلك الاقتراحات، بطريقة تجعله أقرب الى عين ثالثة للمخرج تراقب بهدوء وتحافظ على مسافة من الاندماج في العملية الابداعية التي يقوم بها المخرج، وهو اندماج قد يجعل الأخير غير قادر على التقييم الفوري لأي اقتراح ابداعي، فيتحقق هنا دور الدراماتورج في ضبط تلك الاقتراحات واختبارها.

التعريف السابق قد ينطوي على نقاط ضعف، وقد يبتعد أو يقترب من الدقة، ولكنّ تعريفاً ضعيفاً متفق عليه هو أفضل من اللاتعريف، لأنه من غير تعريف كيف ستعمل فرقة العرض المسرحي؟ عندما يتخرج طالب مسرح وتأتيه فرصة عمل كدراماتورج كيف سوف يتفاهم مع المخرج وما هو مصير عرض لا يعرف مشتغلوه ماذا يفعلون، وإذا قال مخرج لدراماتورج إنّ وظيفتك تكمن فقط في تحويل النصّ إلى اللهجة المحكيّة – كما يحدث كثيراً – فعلى ماذا يستند الدراماتورج في تبيان طبيعة مهنته؟ إنّ غياب التعريف يقود إلى غياب التنسيق بين فريق العمل، وإلى ظلم كبير في جهود ابداعية لن يُعرف إلى من تُنسب، فعندما نقرأ اسم ضمن فريق العمل وارد بجانب كلمة "دراماتورج" فكيف سنعلم ماذا اشتغل وماذا كان دوره في العمل؟

إنّ ما سبق ناجم عن اشكاليّة في جوهر المسرح؛ فالنصّ غالباً ما يأتي من زمن آخر ومن مكان آخر وثقافة أخرى، فيخضع أوّلاً لعمليّة توطين، بافتراض أنّ ظروفه تقع "هنا" وعند تعديل الظروف يجب تعديل سمات الشخصيّة؛ توم الذي يعيش الكساد الكبير في الولايات المتحدة خلال ثلاثينات القرن الماضي، هو غير تحسين الذي يعيش أزمة انهيار سعر صرف الليرة السوريّة الآن، والزمن قد اختلف، فحتماً ماضي القصّة سوف يختلف، والحوار خضع للترجمة أولاً، وثانياً إلى التحويل للعاميّة، وثالثاً للتعديل وفق الظروف الجديدة، والسمات، والماضي، وهو أصلاً جاء من غير فعل درامي كاف وواف، فيشتغل فريق المسرحيّة ليس على النّص، بل على مُختصر قصّة Plot Synopsis  قريب منه ويشبهه، فتتم اعادة "فبركة" فعل درامي ملائم للحوار، بعد أن تمّت دراسة الشخصيّات بناء على الحوار الأوّلي، ثمّ بناء على تعديل كلّ معطيات القصّة، يقترب ذلك من القيام بتحويل نصّ مسرحي إلى مختصر قصة يقع في نصف صفحة إلى صفحة، ثمّ يبدأ العمل على ذلك المختصر باعادة ابتكار كلّ شيء، تلك ربّما واحدة من وظائف الدراماتورجيا التي تشقّ على التّعريف.

ما يحدث هو التالي: الشخصية تُكشف بالحوار، وليس بالفعل الدرامي The Action، ولكن في النصّ المسرحي بعد الاشتغال عليه بتلك الطّريقة فإنّ قيمة الشخصيّة، ومحدداتها، وسماتها كلّها تقدّم بالملفوظ الكلامي، فتتجاوز بذلك قاعدتين دراميتين، الأولى هي: كشف الشخصية عبر الفعل الدرامي Reveal the character through  the action، والثانية هي: في الدراما لا تحكي لي بل أرني  In Drama DO NOT tell but show، الفعل الدرامي على الخشبة يقع على هامش الحوار، وفي كثير من الأحيان يكون فقط لفعل "شيء ما" كي لا تبقى الشخصيّة تتكلّم وهي ساكنة، تلك المشكلة انتقلت من المسرح إلى الشاشتين الكبيرة والصغيرة، فكثيراً ما نسمع حوار قد يتجاوز أربع دقائق مصحوب بفعل لا معىى له: الشخصية تتحدّث عن تصوّراتها عن الوجود والطبيعة والمجتمع بينما تقوم بتقطيع كوسا، أو مسح طاولة المطبخ، وقد يدفع مخرج تلفزيوني بكوب نيسكافيه إلى يد الممثل ليرفعه ويضعه ويحركه ويقرّبه من شفتيه، كنوع من اضفاء حركة، وهذا كلّه قادم من هيمنة الثّقافة التنظيريّة المسرحيّة على سائر الدراما في البلاد.

لتلافي ذلك يعمد المسرح إلى المبالغة الرخيصة في ما يتضمّن عليه الحوار Cheap exaggeration through dialogue، الشخصية الواقفة على الخشبة المحدودة لا تستطيع أن تفعل كثيراً فتدّعي – لفظاً – أموراً مدوّية وخطيرة، فيتضمّن الحوار على الفظائع المروّعة؛ تعرضت للاغتصاب، اكتشفت سرقة آثار، لاحظت تجارة أعضاء، في طفولتها تعرضت للتحرّش، الشخصية يحكي أنّه يريد أن يسافر سباحةً، لقد اكتشف جريمة، الزوج اكتشف من إيماءة أنه ثمّة عشق بين زوجته وصديقه، وأخيراً قد يقفز الشخصية على كرسي دوّار، ينبطح على الأرض، ينهض على الأريكة، يقفز على طاولة مكتب ويجذب مصباح مضاء من فوقه إلى الأسفل ويدفعه فيجعله يدور حوله ليرتسم ظلّه الوطواطي على الجدران؛ تلك ليست Overacting على مستوى الأداء، بل مشكلة على مستوى النصّ ولاحقاً في الدراماتورجيا، وهي ظاهرة قد تعاني منها الأفلام منخفضة الميزانيّة، عندما تسعى إلى فعل درامي ضخم سهل الابتكار، وتدعى: المبالغة في الفعل الدرامي الناقص لكي يبدو كاملاً To exaggerate the incomplete action to show it fully كل تلك الأفعال هي للاستعراض الحركي وليست فعلاً دراميّاً.  

ليست مشكلة ذلك الإجراء في أن يبقى واضحاً في فنّ غير جماهيري يشاهده بضع عشرات، أو مئات في أحسن الأحوال، بل عندما تنتقل الذهنيّة التي قامت بابتكاره إلى الشاشة، ولذلك صارت الدراما التلفزيونية السوريّة توصف بأنها دراما النكد، فالشرط الانتاجي – البخيل – لشركات الانتاج المحلية يعجبها هذا الشرط المسرحي؛ فتاة تتعرّض للاغتصاب في مكان رخيص الاستئجار كلوكيشن لمستشفى بائس، سطوح بيت في منطقة عشوائيات يصرخ من فوقه الشخصيّة بأنّ لديه كلية أخرى سوف يبيعها بعد أن باع الأولى لبناء غرفة تتعرّض للهدم الآن، أفظع ما يمكن بأقلّ التكاليف، وعبر الحوار؛ المسرح أقوال وليس أفعال.

إن الفعل الدّرامي هو الأساس في بناء الحوار، وهو المحدّد الأبرز له، الحوار تأتي جودته من جودة مصاحبة للفعل الدرامي، وليس العكس، إنّ الحوار قد يمهّد للفعل الدرامي، وقد يوازيه بتكثيفه وكشف تفاصيل منه، وقد ينوب عن النقلة الأخيرة في كثير من الأحيان، ولكن عندما يتمّ تأسيس حوار في البداية دون أي تصوّر عن الفعل الدّرامي، ثمّ يُفبرك له فعل درامي بغرض أن تفعل الشخصيّات شيء ما، فإنّه يأتي في أضعف أشكاله، وهذا المقصود بتعرّضه للعطب.

ولكن أليس من أحد يلتمس هذه المشكلة؟ للأسف لا، فالمسرح، كوسيلة اتصال، هو وسيلة غير جماهيريّة، وفرجة محدودة المكان والزمان، إنّه فنّ لا زمني، سرعان ما يزول لحظة انتهاء العرض، وذلك واحدة من الأسباب التي تجعل عمليّة نقده و تقييمه شبه مستحيلة، وذلك مضمون المقال القادم في الجزء السّادس، إنّه على افتراض أنّ الزمن هو الحكم والنّاقد الأوّل للفنّ، فهل تنطبق صفة "الفنّ" أصلاً على ما هو ليس زمني؟  على نشاط بشري كالمسرح، يتلاشى عند انتهاء العرض، ولا تعود من فرصة لتأمّله بعد لحظة، وذلك على خلاف الفنون الأخرى؟ طبعاً سوف يُشرح كيف أنّ اشتراك الموسيقى في هذه السمة تجعلها محميّة كونها "مدوّنة" بتفاصيلها الدّقيقة من خلال "النوتة" ، أمّا الآن فإنّ هذا الجزء قد انتهى.