2013/10/16

وديع الصافي
وديع الصافي

 

سامر محمد إسماعيل – تشرين

 

 

كان وديع الصافي وسيبقى صوتاً يرجُّ الشرق..يهزُ جباله وسهوله وبيوته..ينهر نساءه الحائرات التائهات في حرملك لا يتقن سوى الانتماء والتسليم به، أو التلوي عند أبواب معارضته والشكوى من عسف رجاله، فوديع هو من غنى في سهرة حب «كانت بكيت عليي ونسيتني من عشية لو ما كبر عقلاتي ع سطح البلدية»..

 

وديع الصافي..الحنجرة التي نفخت في الصور.. نفخت في أجداثنا..في رقدتنا الطويلة.. نحن سكان كهوف أرواحنا المعتمة حدّ الفضيحة.. فعشقنا الحياة وحلاوة الأبوّة بعد أن كنا قد قضينا أعمارنا في بكائيات مصر وزجليات المنفخة.. جاء صوتكَ ليعلمنا أن الحب هو الفرح والنخوة والاعتزاز والحرية..

لقد جاء صوتكَ يا وديع كشكلكَ؛ على هيئة السنديان.. واقفاً على مسارح بعلبك قامةً سامقة بطربوشك وشروالك وعودك..بابتسامتكَ الوضاحة وأوفك الخرافية.. تغني على مسرح معرض دمشق الدولي كأنكَ تنشد من جبال صنين..أوفك القالعة يا صافي كطقمك الأبيض.. كنت على الدوام تقول لنصري شمس الدين معتّباً:«فوئوني يا خيي فوئوني.. عالبال بعدك يا عصفورة النهرين..» فكيف لا نحبكَ..؟ كيف لا نزعل إن قالوا لنا ذهبتَ إلى هناك..؟ كيف لا نقول إنك جدنا العتيق الذي عاد ليعيش بيننا اثنين وتسعين عاماً..ثم رحل حين صار العود كهربائياً..وحين صار مطربو ومطربات السفاهة يحاولون أن يلمّعوا قمامة أرواحهم ببياضك؛ من دون أن  يعرفوا أنهم يتسلقون جبلاً؛ ولن يظهروا على ذراه إلا نتفَ غربان ستفنى وتبلى أصواتهم..

بقيت أنت يا جبل.. يا جدنا الأسطوري..بقيت ترث الحزن ببسمة..تغني للدنيا ضد تلفزيونات الآخرة التي حاولت اصطياد هرمكَ وحزنكَ المقدس..بقيت طيباً وبشوشاً وغابراً يا جدنا.. بقيتَ صافياً كثلج صنين.. وبقيتْ روحكَ العالية أعلى وأنبل؛ وكم بكيتُ حين كنتَ يا جدي تقول:  «صرفوا لي راتباً ؛يكتر خيرهن»!..صهٍ..صهٍ..أيُ راتبٍ وأيُ مكافأة؟.. كان حرياً بهم أن يفخروا بأنهم يعيشون في عصر عاش فيه وديع الصافي. أجل في عصر الشُطار والعيارين عاش وديع..أعطانا من عمره الكوني اثنين وتسعين عاماً.. وزيادة علينا يا جدي.. زيادة علينا أن تمرَ بنا قرناً من القرون. هكذا مثل كوكب أو مذنبٍ عابر للمجرات والأكوان...يا هيئة آذار في رجل.. يا هيئة كانون الثاني في «مرقوا الحصادين مرقوا طيور البرد» يا جدنا الضخم الطيب الذي كان على الدوام يحمل حبق الأرض وسماقها في صوته وتقطيبة جبينه، في صرخته القاهرة الرجولية: «لوين يا مروان ع مهلك؟ لوين تارك أرضك وأهلك؟» في أندلسياتك تنشد «كأنا خلقنا للنوى وكأنما حرامٌ على الأيام أن نتجمعا» ولهذا رح حلفك بالغصن يا عصفور إن لمحت جدنا برفقة ظبائه دعه يرتاح على خد غيمة من مشوار الأرض العربية.. دعه يا عصفور بحياة الغصن يرتاح من مداحيه ورثائيتهم ووعاظه وأحفاده الضللة.. دعه يا الله؛ دعه يرتاح.. دعه يا الله.. دعه يا الله.. دع كليمكَ يرتاح من استوديوهات الغش البصري، وسباق  مطربي  عرب الآيدول ونجوم الصفاقة وعبدة البترودولار، واترك لنا عرش مواله حين يقول لإخوته في التراب: «يا بني ترابك أرضك احميها وغير فكرك ما بيغنيها» فهذه ليست أغنية، هذا ما قالته الأرض حين مادت وزلزلت زلزالها، رداً على صعود الأقنعة واعتلائها مسرح الطرب الإلكتروني منذرةً بوصولنا لزمن «بحبك يا حمار».. هكذا لا يسعنا سوى أن نتمسك بتلابيب عباءتك الغنائية يا جدي، هكذا نعرف بعد رحيلك أننا  أمسينا في زمن لم يعد فيه أي شيءٍ وديع ولم يعد فيه أي قلبٍ صافٍ..