2014/03/14

12 عاماً من العبودية
12 عاماً من العبودية

 

إبراهيم العريس - الحياة

 

 

قبل أسابيع، وإثر خروجه من عرض نيويوركي لفيلم «12 عاماً من العبودية» الذي سيفوز بعد ذلك بأوسكار أفضل فيلم للعام 2014، تساءل ناقد أميركي في مقال كتبه في صحيفته: «متى سنشاهد فيلماً جيداً عن مارتن لوثر كينغ؟»... والحقيقة ان هذا السؤال ذكّر كثراً، للمناسبة، بتقصير السينما الأميركية في الدنوّ الحقيقي من مسألة السود الأميركيين الذين تحول اسمهم مع الوقت ليصبح «الأفارقة الأميركيين»... علماً أن ما لا يمكن إنكاره في هذا السياق هو ان السينما لعبت دوراً اساسياً في ذلك التحول الذي قد يكون ظاهره سطحياً، لكنه في أعماقه اتى يحمل دلالات هامة ولا سيما بعد العروض الصاخبة لمسلسل «جذور» التلفزيوني... قبل اكثر من ثلاثة عقود.

والحال ان الفوز الذي كان متوقعاً ومنشوداً لفيلم «12 عاماً من العبودية» يعيد الى الساحة العامة كلّ تلك السجالات الكثيرة من حول السينما وتناولها قضية الأفارقة الأميركيين هؤلاء. غير ان مشكلة هذه السجالات تكمن في انها لم تعرف كيف تفرّق بين بعدين يرتبطان بالقضية: التمييز العرقي الذي يقع السود ضحيته، من ناحية، وقضية العبودية من ناحية أخرى. صحيح أن للقضيتين جذراً واحداً هو لون البشرة والأصول الإفريقية لملايين الأميركيين، ما جعلهم يوضعون في مراتب اجتماعية دنيا وعوا هم انفسهم على حقائقها في شكل تدريجي، وعبّروا عن معاناتهم تجاهها في أشكال فنية لا تحصى يظل اهمها موسيقى الجاز، لكن السينما عرفت ومنذ وقت مبكر كيف تعطي الموضوع اهمية أخرى، وإذ نقول هنا «منذ وقت مبكر»، يرد الى ذهننا فيلم غريفيث المؤسس «مولد أمة» ولكن كمثال معاكس، حيث إن ما بدا في الفيلم المحقّق عام 1915 تعاطفاً ما، مع عصابات الكو كلاكس كلان العنصرية البيضاء في اضطهادها للسود، حرك كثراً من هؤلاء، لكنه حرك ايضاً كثراً من الديموقراطيين البيض لتولد تلك الإشكالية حول علاقة السينما بالعرق الأسود في جغرافيته الأميركية... ومع هذا كان على الفن السابع ان ينتظر اكثر من عشر سنوات قبل ان يظهر «زنجيّ» على الشاشة في فيلم «مغني الجاز»... ومع هذا لم يكن زنجياً حقيقياً بل مغنياً يهودياً ابيض طلى وجهه باللون الأسود كي يتمكن من ان يغني الجاز! غير ان المخرج كينغ فيدور سرعان ما عوّض على ذلك «الغشّ» حين حقق فيلمه المميز «هاليلويا» اواسط عشرينات القرن العشرين، فيلماً عن السود مع ممثلين سود وموسيقى «سوداء» ليعتبر «أول فيلم زنجي في تاريخ السينما الأميركية».

علاقة متذبذبة

غير ان «هاليلويا» ظل لفترة طويلة عملاً نادراً في مسار السينما الهوليوودية... ناهيك بأن شخصية الأسود أو السوداء حتى وإن وجدت، فإن وجودها لم يكن يعني الغوص في، او الدنو من، القضية. فالحال ان معظم السود ظلّوا شخصيات ثانوية على الشاشة... وربما شخصيات خدم يستمدون سعادتهم من رضا أسيادهم البيض (كما في «ذهب مع الريح» على سبيل المثال). وحتى لاحقاً حين تقدّمت السينما وراحت تقدم ادواراً اولى لشخصيات سوداء، كان الدور يتحدث عن اسود «مندمج» في المجتمع وناجح، او آخر يرغب في ذلك وينجح بمساعدة اريحية البيض (أدوار كثيرة لعبها سيدني بواتييه، الذي اعتبره أبناء جلدته منافقاً في ادواره، ولا سيما في افلام مثل «الى سيدي مع حبي» و«خمّنوا من سيأتي الى العشاء»)... وطبعاً هنا لن ندخل في ثنايا تلك العلاقة المتذبذبة التي قامت بين السود والسينما الهوليوودية، ومع هذا تمكن الإشارة الى تطورات كثيرة طرأت في هذا المجال ولا سيما منذ الستينات حيث بات لبعض السود حضور مميز على الشاشة، ناهيك بأن مخرجين افارقة اميركيين من أمثال سبايك لي، عرفوا في احيان كثيرة كيف يوظفون الشاشة، وحتى التجارية منها والجماهيرية العريضة، لطرح حكايات وسِير محورها قضية السود، مع فارق كبير هنا يكمن في انه إذا كان المؤرخون السينمائيون قد قالوا في الماضي مراراً إن مشكلة سينما «النيات الطيبة» التي كانت تُصنع في هوليوود متناولة قضية السود، انها كانت مجرد سينما موجهة غالباً الى جمهور ابيض لتحسيسه انسانياً تجاه العنصرية التي يمارسها هو نفسه او تمارَس باسمه، فإن أفلام سبايك لي وزملاء له مثل سنغلتون، كان اهم ما فيها انها مصنوعة اصلاً للسود ناقلة اليهم نوعاً من الوعي الإضافي ليخدم نضالاتهم. لم تعد المسألة الآن مسألة نيات طيبة وعقدة ذنب بيضاء ونفحات انسانية. مع افلام مثل «ماكولم اكس»... باتت السينما اكثر قدرة على التحريض، مهما كان رأينا في سينمائية الفيلم وقيمته الفنية.

بيض راديكاليون

مع مثل هذه السينما الجديدة، انتقلنا إذاً الى طور ثانٍ يشهد امساك فناني السود بقضيتهم بين ايديهم. ويمكننا القول ان مخرجين بيضاً مثل نورمان جويسون وبخاصة ستيفن سبيلبرغ، حين حققوا افلاماً تدور حول قضية السود، انما حققوها في هذه الذهنية وليس في ذهنية البر والإحسان القديمة. فسبيلبرغ، في فيلمين له على الأقل – قبل ان يدنو من المسألة في شكل جذري وخلاق في واحد من افلامه الأخيرة، «لنكولن» -، كان قد بدا وكأنه يرتدي جلداً اسود حقيقياً في عمله على فيلميه «اللون القرمزي» و «آميستاد»، وكذلك سيفعل كونتن تارانتينو لاحقاً في تحفته «جانغو طليقاً»... حيث دنا مواجهة من هذه القضية، ليذكّر بدوره، وقبل عامين على الأقل من «12 عاماً من العبودية»، بتقصير السينما إن لم يكن بالنسبة الى قضية السود، فعلى الأقل بالنسبة الى قضية العبودية نفسها. فهل يمكن القول اليوم ان تحقيق ستيف ماكوين، البريطاني الأسود فيلم أوسكار هذا العام انما هو استجابة لما يبدو ان «جانغو طليقاً» ذكّر به؟

على رغم قوة «12 عاماً من العبودية» ونجاحه وكل ما قيل عنه. وعلى رغم اعتقادنا بأنه نال حقاً اوسكارات يستحقها، وكذلك على رغم ألوف المقالات التي كتبت في تقريظه، وربما في وضعه في مكانة رفيعة بين الأفلام الفاضحة للعبودية، ثمة شيء في الفيلم يحيّر المرء بعد مشاهدته غير مرة، وكذلك بعد تحري جذوره الأدبية، وهي بالتحديد مذكرات «سولومون نورثاب» التي صدرت اواسط القرن التاسع عشر بالعنوان الذي سيحمله الفيلم، ويتحدث فيها سولومون عن مأساته الشخصية حين كان رجلاً حراً يعيش مع عائلته وزوجته الحبيبة، ليجد نفسه بعد ليلة مرح مباعاً الى اصحاب مزرعة في لويزيانا بصفته عبداً... وهو يتنقل بعد ذلك من مزرعة الى اخرى ومن عبودية الى اخرى حتى يتحرر بعد سنوات ليدوّن تفاصيل ما حدث له.

من الناحية التاريخية، يعرف اميركيون كثر الكتاب كما يعرفون مأساة سولومون، ونعرف نحن ان الكتاب حين صدر كان الزمن زمن بدء تعاطف كثر من الأميركيين مع قضية السود – في الفترة نفسها تقريباً التي صدر فيها كتاب «كوخ العم توم» لهارييت بيتشر ستو الذي ادى الى حدوث انقلاب في ذهنيات البيض في شكل خاص تجاه قضية السود، ما جعلهم يناصرون الرئيس لنكولن ويدعمون القوانين التي صدرت لمنع العبودية بعد ذلك بسنوات قليلة -، وفي ذلك السياق قيل دائماً ان كتاب نورثاب الذي قرئ على نطاق واسع من جانب البيض، في زمن لم يكن فيه الجمهور الأسود جمهوراً قارئاً، لعب دوراً كبيراً هو الآخر في اكتساب الجمهور الأبيض العريض وعياً تجاه «المآسي» التي تعاش في ذلك السياق... غير ان كثراً من نقاد تلك المرحلة، مع اعجابهم بالكتاب، اعتبروه مجرد نص ميلودرامي مدرّ للدموع، اكثر بكثير من اعتبارهم اياه كتاباً يحرض السود على مجابهة المصير المظلم الذي خُصّوا به...

ومثل هذه النظرة لا تعدم اليوم من ينظر بها الى الفيلم المأخوذ عن الكتاب، بخاصة ان المخرج تبدّى في الفيلم اميناً للنصّ في شكل لافت، بل سيقول كثر من النقاد ان ستيف ماكوين الذي هو في الأصل فنان تشكيلي طليعي عرفته الحياة اللندنية الفنية الصاخبة، ضحّى من اجل هذا الفيلم – وهو الثالث له -، بقسط كبير من طليعيّة لغته السينمائية التي كانت تجلت، شكلاً ومضموناً، في فيلميه الأولين «جوع» و «عار»، كي لا يبدو متدخّلاً في كتاب له مكانته الكلاسيكية.

التباس

يقيناً ان هذا الاستنكاف عن التدخل، هو الذي دفع ما يمكن اعتباره قلة فقط من النقاد الآن الى التساؤل عما إذا كان حقاً في الإمكان اعتبار «12 عاماً من العبودية» الفيلم الذي كان منتظراً عن قضية العبودية؟

والحقيقة ان مشاهدة الفيلم غير مرة ستعطي جواباً ممكناً وإن بحذر، هو: ابداً... فنحن هنا، أكثر منا أمام فيلم يدور حول قضية شائكة، نجدنا امام فيلم يكاد يكون متمحوراً حول قضية شديدة الخصوصية: قضية رجل حر حدث لخطأ ما أن جعله عبداً... طوال 12 عاماً من حياته ستنتهي برجوعه الى حريته. فهل تلك كانت ايضاً قضية ملايين العبيد الأرقاء الآخرين؟ ومُشاهد الفيلم، أكثر من قارئ الكتاب في القرن قبل الفائت، أهو مدعو الى التعاطف مع سولومون نورثاب بسبب المأساة الشخصية والفردية التي عاشها مع تنفس للصعداء بعد زوال «الخطأ» الذي قاده الى العبودية... أم هو مدعو الى إبداء الغضب واكتساب الوعي والتحرك الفعال ضد العبودية نفسها من جراء ما يشاهده على الشاشة؟

الحقيقة ان كل التباس الفيلم والسجال الحقيقي الذي يمكن ان يثيره هذا الالتباس إنما يكمنان هنا... لأن المُشاهد النبيه إذ يجد نفسه متماهياً مع سولومون ومتعاطفاً معه وحانقاً علـــى ذلك الشرّ الذي جعله يحوّل الى عـــــبد وهــو الرجل الحر، المُشاهد الذي يشعر ببطولة سولومون ومأساته في كل مرة يلاحظ فيها مشهداً او لقـــطة تكشــف عن قدرة سولومون على ان يكون ويبـــقى انساناً حراً على رغم استعباده. هذا المُشاهد الذي يستبد به، بالنيـــابة عن سولومون، شوق هذا الأخير الى عائلته وزوجته... هذا المُشـــاهد الذي سيثير غضبه واشمئزازه كل اولئـــك السادة وأشباه السادة الذين يستعــبدون سولومون فـــي ثـــلاث على الأقـــل من المزارع التي سيتنقل بينها، باستثناء لحظات طيبة لدى واحد من اصحاب المزارع يبدو شفوقاً طيباً... هـــذا المُشاهد، هل تراه سيســأل نفسه: حسناً هذا هو المصير الذي آل اليه حـــال سولومون بسبب الخــطأ او الشر أو الطمع البشري، فماذا عن ملايين الآخرين من الذين كانوا في الأصل عبـــيداً ولم يكن من حظهم ان يكـــونوا أحراراً ذات عام من تاريخهم؟

صحيح ان «12 عاماً من العبودية» لا يفوته ان يصوّر حياة الرق في اميركا ما قبل الحرب الأهلية - التي تسببت بها قضية إعتاق العبيد اصلاً -، والبؤس الذي يعيشونه، لكنه حين يختار التوقف عند المأساة الفردية لســـولومون نورثاب، يتحول بالضرورة مـــن عمل يكشف تاريخاً كاملاً ومأساة معيـــبة للبشرية عاشتها اقوام بأكملها، الى عمل ميلودرامي – ولا بأس من تكــــرار الكلمة والإلحاح عليها –، وينتـــقل من كونه فيلماً عن العبودية الى كونه فيلماً عن الحرية، وفي اعتقادنا ان هذين الانتقالين، من دون ان يقللا من قيمة الفيلــم ومـــن أبعاده الفلسفية والإنسانية، يجعلاننا نطرح السؤال الذي بدأنا هذا المـــقال اعلاه بواحد شبيه له: متى ستقدم لنا السينما الأميركية فيلماً حقيقياً عن العبودية؟ ثم أكثر من هذا، وبدلاً من ان نقصر سؤالنا هنا حول السينما الأميركية ومسؤوليتها في هذا السياق، نجدنا متسائلين: متى تقدم لنا السينمات العالمية افلاماً حول تلك المأساة الإنسانية الكبرى، مأساة العبودية، التي لئن كنا نعرف بعض جوانبها، تحديداً من خلال سينما اميركية اتسمت غالباً بالتعبير عن عقدة ذنب ما، فإننا نتوق دائما الى معرفة جوانب اخرى منها تغوص في جذور القضية، قريباً منا في إفريقيا، بل في عوالم أقرب الينا، هنا حيث يمكن القول ان المأساة قد بدأت...