2014/09/06

في الدراما .. إن كُشِف الداء هل يُعرف الدواء !؟
في الدراما .. إن كُشِف الداء هل يُعرف الدواء !؟

 

 فؤاد مسعد – مجلة آفاق سينمائية

 

 

  مما لا شك فيه أن الدراما السورية استطاعت في الموسم الأخير تجاوز الكثير من الصعوبات فحافظت على حضورها اللافت على الشاشات العربية المختلفة ، حتى أن المحطات التي رفعت شعار مقاطعة (أو عدم شراء) العمل السوري قدمت مسلسلات كان للمبدع السوري الدور الأبرز فيها ، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى هذا الحضور الذي فرضته أعمال تتمتع بسمعة طيبة وجماهيرية واسعة على مستوى الوطن العربي ، مما يعكس مدى صلابة بنيانها وقوة أساسها ، ذلك الأساس الذي وضع أرضيته فنانون حفروا الصخر بأيديهم يوماً ، عانوا ما عانوه وجهدوا لمحاولة إرساء تقاليد إبداعية ، فكان منهم أن وضعوا اللبنات الأولى لصناعة احتلت مرتبة سفير فوق العادة لسورية في كل منزل في الوطن العربي . ولكن .. هل الدراما السورية اليوم بخير ؟ هل وصلت إلى المرحلة الطبيعية لتطور ما صنعه المبدعون الأولون فيها ؟ هل أرست عادات وتقاليد فنية وإنتاجية باتت مسباراً لطبيعة حركتها ؟ هل يتم الإنتاج وفق آليات واضحة واستراتيجية تتبنى فكرة التنوع فيما يُقدم ؟ إلى أي مدى يمكن القول أن المنافسة فيها شريفة ؟ هل تقدم أعمالاً راقية وتحافظ بشكلها العام على سوية لا تهاون أو تنازل فيها ؟ هل يأخذ المبدعون حقهم العادل منها وفق شروط وعقود منصفة ؟ هل يؤسس نجاح أو حضور الدراما السورية لحركة مستقبلية مستمرة ؟ إلى أي مدى تلامس الناس حقيقة وتغوص بجرأة إلى عمق همومهم ومشكلاتهم ؟ هل تقوم على رأسمال وطني أم أنها مرتهنة لرأسمال عربي ، أو على أقل تقدير لرأسمال جاهل ؟ وإلى أي مدى استطاعت أن تُسقط عنها كل متسلق وعديم موهبة ؟ 

ـ بين نصفي الكوب !..

   هي أسئلة وغيرها الكثير بات اليوم من المُلح الولوج إلى إجابات شافية عنها بعد التراجع الذي شهدته الدراما السورية على مستويي الكم والنوع ، وربما الموسم الأخير كان الصورة الأكثر سطوعاً لتلمس الحالة التي وصلت إليها الحال . وإن كان كثيرون يحاولون أن يجعلوا من الأزمة التي تمر بها سورية شمّاعة يُعلق عليها سبب تراجع الدراما ، فتكون هي الحامل لأي مصاعب أو مشكلات أو اخفاق أو حتى نجاح لحق بها ، وربما ينطلي هذا الكلام على من لا ذاكرة لديه ، ولكن أي متابع لمسيرة الدراما السورية يذكر جيداً الأصوات التي كانت تنادي من أعوام فائتة بأهمية إيجاد أليات إنتاجية وابداعية ناظمة تقوم عليها هذه الصناعة بعيداً عن الارتجالات أو الارتهان لأرسمال أُميُ .. هذه الأصوات التي لم تلق صدى وكان يأتيها دائماً الجواب أن الدراما السورية في المقدمة ولا خوف عليها ، تعود اليوم لتنبه من جديد وبدافع الخوف والحب على الدراما السورية أن هناك أمراضاً قد استشرت بجسدها ، ولا بد من وضع الإصبع على الجرح ومن تسمية الأمور بمسمياتها ، وهذا الكلام ليس انتقاصاً منها وإنما دعوة للمحافظة على قوتها ، وربما ما تشهده من تراجع يُظهر مدى صلابة الأرض التي تقف عليها ، فلو لم تُبنَ على صخر لكانت أية هبّة ريح قد اطاحت بها من الوهلة الأولى ولكن التأسيس الصحيح كان واحداً من العوامل الأساسية في جعلها تصمد وبقوة .

  ربما شكلّت الأزمة القشة التي اظهرت ما خفي أو ما حاول القائمون عليها إخفاءه لسنوات ، ولكن لا بد ضمن هذا الإطار من النظر أيضاً إلى كأس الماء المليء لنجد أنه رغم التراجع الذي أصابها والأمراض التي تعاني منها إلا أنها استطاعت تحقيق حضور على الشاشة العربية مؤخراً ، أملاً بأن تعيد ألقها الحقيقي في القادم من الأيام.

  لدى العودة إلى ما كان المبدعون يشتكون منه منذ سنوات خلت نجد أن الارهاصات المرضية غالباً ما كانت هي ذاتها في كل مرة ، وتبدأ من غياب التقاليد والأعراف الانتاجية الناظمة والتي وضع لها المؤسسون مبادئها التي أطيح بها بعد فترة من انتشار الفضائيات وتكاثر الأعمال لتعم ثقافة إنتاجية مختلفة حتى عما أراد لها من انطلقوا بها مع أولى طلائع انتشارها الفضائي ، ومع غياب هذه الأعراف بات لرأسمال قوة التحكم بها ، لا بل ذهب باتجاه ترسيخ ما يخدم مصالحه الأمر الذي يُجيّر على عقود الإذعان التي تُفرض على الممثلين وظهور أعمال بعيدة كل البعد عن المشاهد السوري وهمها محاكاة وإرضاء رغبات بعض المحطات العربي ، وإظهار المجتمع السوري (قديماً وحديثاً) وفق الصورة التي يتطلبها المنتج الحقيقي للعمل مما يعكس ارتهان البعض للمال الخارجي ، كما تم ارساء علاقات غير صحية بين العديد من المنتجين فعوضاً من أن تكون المنافسة شريفة يحكمها أهمية العمل تحولت إلى منافسة تكسير أسعار على عتبات المحطات والخضوع غير المشروط لشروط العرض الرمضاني ولمتطلبات بعض الرقابات العربية والمعلنين ، والأنكى من ذلك كله ، وهو الأمر الذي يتلمسه أي متابع للدراما في الأعوام الأخيرة ، غياب بعض المخرجين والكتاب الهامين لصالح بروز عدد من أشباه المخرجين والكتاب ودفع شركات الإنتاج بأشباه مبدعين ليحتلوا المشهد محاولة منهم لضبط النفقات وتنفيذ العمل بأقل تكلفة ممكنة ، وبتسويق أسماء يمكن لها أن ترضى بما يُملى عليها من رأسمال ، فظهرت بعض الأعمال التي كانت أوهى من فقاعات الصابون ، فالاجتماعي منها كانت جرأته فجة تعتمد الموضوع الصارخ الصادم دون أي معالجة حقيقية له ، وفي الكوميديا والدراما الشبابية قُدم كم مخيف من الارتجال في كل عناصر العمل الفني (انتاج ، اخراج ، تمثيل ، تأليف ، إضاءة ..) ، وربما الصفتان اللتان تلخصان الكثير مما قيل هما الاسترخاص والاستسهال فباتا سمة إنتاجية لدى بعض من يتاجر على حساب نجاحات الدراما السورية .

   وإن أردنا الدخول إلى التفاصيل التي تصنع العمل الفني نجد الكثير من العثرات ، ومنها على سبيل المثال استبدال ممثل أو خرج مهم بمبتدئ متواضع الموهبة بسبب خلاف على الأجر مع المنتج ما يعكس عدم دراية بأهمية المادة التي تُقدم وعدم احترام للآخر وللمهنة ، ففي لحظة يمكن لأي شخص أن يحل مكان أي شخص آخر دون تقييم أو اعتبار للتاريخ الفني الإبداعي له ، كما أن غياب البروفات أعقبه غياب حفظ الممثل لدورة وعدم التنسيق في الكثير من الأحيان في التصوير لممثل يشارك في الوقت نفسه بعدد من المسلسلات ، كما أن فنانين شباب جدد يكتشفون فجأة أنهم أهم بكثير من كل الفنانين السوريين الكبار فيصيبهم داء الغرور المدمر ، لا بل إن قائد العمل الافتراضي (المخرج) قد لا يكون هو قائده الفعلي أماما سطوة نجم أو منتج ، ويضاف إلى ذلك الموضات الدرامية وفخ الاستنساخ والتكرار وتشابه الأفكار والأنواع الدرامية المطروحة .

ـ ليس وليد اليوم :

  يؤكد المخرجون والفنانون أن الدراما اليوم تعاني مع تعاني ، فقد رأى المخرج أحمد ابراهيم أحمد أن (هناك تخبط في الانتاج التلفزيوني وليس من خطط استراتيجية ، فدائماً هناك ارتجال من ناحية الحكايات والقصص والأفكار) أما الفنانة نادين تحسين بك فقالت : (هناك الكثير من الأعمال التي أساءت إلى الدراما السورية ، وصراحة نحن من نسيء إلى أنفسنا ، ومنذ سنين ، لأننا دخلنا مرحلة الاستسهال من عدة أعوام ، وبالتالي لا نستطيع القول أن الأزمة الحالية هي السبب فيما وصلنا إليه ، وإنما أتت كعنصر مكمل ، والنتيجة التي وصلنا إليها كنا سنصل له عاجلاً أم آجلاً ، ولكننا منذ أن بدأنا نقدم دراما مهمة بات هناك نوع من الاستسهال ورأى البعض أنه بكل بساطة يمكنه إنجاز أي عمل وتسويقه والربح منه مادياً) وتحسست الفنانة نادين الأمل بتجارب ظهرت مؤخراً تحمل فكراً حقيقياً وطموحاً كبيراً .

  ولكن الحديث عن أمراض الدراما السورية لم يكن وليد اليوم أو الأمس وإن طفا على السطح مؤخراً ، فهو يعود إلى سنوات عديدة ، ولدى استحضار ما كان يصرح به الفنانون والمخرجون منذ العديد من السنوات نجد أنه يتقاطع مع حال الدراما اليوم وكأن صوتهم الصارخ يطلق صداه عله يصل وإن بعد حين ، وفيما يلي نرصد عدداً من التصريحات القديمة لفنانين ونتساءل : ألا تصلح لأن تُطلق هي ذاتها اليوم ؟.. فعلى سبيل المثال أكد المخرج باسل الخطيب أكثر من مرة أنه (كلما حقق المبدع خطوة باتجاه الأمام عليه أن يقف وقفة تأمل ومراجعة للذات) ، أما الفنان أيمن زيدان فسبق وحذر من استباحة بعض المهن الفنية الأساسية (ازداد عدد المخرجين وبات هناك استباحة في هذه المهنة) ، في حين أن الفنانة جيانا عيد سبق ووصّفت الحالة قائلة : (استطاعت الدراما السورية بناء جسور الثقة بينها وبين المشاهد وحققت حضوراً متميزاً ، لكنها تعاني من مرض أساسي يتمثل بأنها لم تستطع صنع أصول وتقاليد لقيم فنية وإبداعية معينة لتتراكم مع الزمن) . وفي لقاء للفنانة سوزان نجم الدين قالت : (نحن بحاجة إلى تقاليد إنتاج وأن يتحول الفن إلى صناعة ، للأسف ليس هناك تقاليد فنية وهي مفقودة إلى حد كبير ، ورغم ذلك درامانا بخير ولكن لتبقى بخير هي بحاجة إلى قوننة وتنظيم) ، ولدى حديثي مع الفنانة لورا أبو أسعد أثناء تصوير دورها في فيلم (صديقي الأخير) قالت عن الحالة الإنتاجية الدرامية التلفزيونية : (فكرة حضور نجم المسلسل في عدة أعمال هو أمر غير موجود إلا عندنا وقليلاً في الخليج فقط ، والأدوار الثانية تخضع للأمر نفسه أيضاً ، لا بل المفارقة أيضاً أن يكون للمخرج مسلسلان أو ثلاثة في العام ومع الممثلين والفنيين ذاتهم من إضاءة وصوت !.. وكأن المخرج ينافس نفسه !.. فأين التقاليد هنا ؟..) كما انتقدت الأعمال التي تتخذ من الجرأة المصطنعة هدفاً للتسويق مؤكدة أنها تُعتبر واحدة من عيوب الدراما .

 ـ كلمة لا بد منها :

  لا بد من التشديد على فكرة الأساس القوي للدراما السورية ، هذا الأساس الذي دعّم بأعمال هامة في مرحل لاحقة ، ولكن كأي صناعة أخرى تبقى الدراما صناعة فنية يمكن أن تصاب بأمراض ولعل أول خطوات العلاج الاعتراف بهذه الأمراض والسعي للخروج بالدراما مما تعانيه لتبقى الأولى لدى الجمهور العربي ككل ، وضمن هذا التوجه هناك أكثر من جهة لا بد أن يكون لها دورها الفاعل إن كان في القطاع العام أو الخاص ، ولكن لا بد من نية صادقة عند الجميع وأن يبقى الهدف الأسمى هو الدراما السورية ، فنحن أحوج ما نكون لتكريس حضور الرأسمال المثقف الواعي ، وعلى الرغم من وجوده إلا أنه لم يشكّل الحالة الأعم في ظل وجود إنتاجات رخيصة في كل شيء ، فالدراما مُنتج وطني استراتيجي يحتاج إلى حماية وإلى تنظيم آلية الإنتاج والتسويق وفق صيغ إبداعية (أولاً) وذلك كله يشكل قوة دافعة له ، ويبقى القول أن هناك الكثير من العمل ولكي يكون الحصاد كثيراً أيضاً ينبغي أن تُزرع البذار السليمة في التربة الخصبة المناسبة لها لتنبت ثماراً يانعة .. وكذا هو الإنتاج الدرامي .