2015/08/15

عباس النوري
عباس النوري

السفير - رغد مخلوف

محاطاً بكل أشكال الموت والجوع والتشرد يعيش اليوم الفنان السوري عباس النوري في دمشق، مراقباً لتغريبةٍ قد تكون الأقسى في هذا القرن. قسوةٌ لم تكن يوماً غريبةً عنه، فرحلة حياته الطويلة كانت مليئةً بمحطاتٍ صعبة. إلا أن محطته اليوم وهو يدخل عقده السادس تبدو الأصعب، إذ يقف هناك في قلب الحدث، يعيش تفاصيله يوماً بيوم...

«الرايتنغ» ليس معياراً

يقلقه المشهد الفني السوري إيماناً منه بأن الفن هو رسالة إنسانية بالدرجة الأولى. «لم تكن البلد يوماً في عرفي بيتاً لأحد من دون غيره، فالبلد يجب أن تستوعب الجميع بغضّ النظر عن اصطفافاتهم، أنا اليوم لا أخاف من الفشل السياسي للمثقف أو الفنان بقدر ما أخاف فقدانه لمشروعه الحقيقي أي الناس. المشهد الفني يعيش الانقسام الأخطر، بحيث بدأت علامات ظهور دراما موالاة ودراما معارضة، سنبقى متكلين على الزمن على ما يبدو».

كان الناس وما زالوا همّ عبّاس النوري الشاغل كفنان، ورحلةُ حياته خير دليل. لا يتحدث عن همومهم ومعاناتهم من شرفةِ برجٍ عاجيّ، بل وُلد بينهم وعاش معاناتهم واختبرها؛ فهو ابن حارة شعبية فقيرة درس فيها طالباً على حساب الجمعيات الخيرية آنذاك. يقول: «همّي الحقيقي هو أن أشبه الحياة في فني، وهذا يتطلب جرأة وتمرّداً غير مجّانيَيْن، بل معرفة ونضجاً شديدَين. الفن ليس تصريحاً بل تلميحاً، وهذا ما يغيب عن الكثير من المسلسلات التي كرّست بشكل غير مباشر حالة تخلف بالذائقة الفنيّة عند الجمهور غير المشارك إطلاقاً في العملية الفنية. علينا أن نحترم ذكاء الجمهور».

يتجنب عباس النوري اليوم الحديث عن أعماله. وبتواضع الكبار، يترك للمشاهد مهمّة تقييمها، بعيداً عن البروباغندا المزيّفة، ومفهوم «الرايتينغ» الذي كان برأيه موضة رمضان الفائت. «لا تسمح زحمة رمضان لا للفنان ولا للجمهور بمشاهدة مفيدة، وأصبح الفنان يعتقد أن «الرايتينغ» هو علامة نجاح لا يضاهى، فيقع أحياناً تحت تأثيره وخصوصاً أصحاب التجارب الأوليّة في عالم البطولات الدرامية، وهذا يجافي حقيقة النتائج التي يجب أن يستخلصها الفنان من عمله إذا كان مهتماً بتطوير مشروعه. إضافة للخطر الأكبر على الفنان حين يصدق عبقريته وفرادة موهبته، فيقع في الورم الذي يعميه عن كل قراءة صادقة لطبيعة إمكانياته، لقد أثبتت التجربة أن «الرايتينغ» هو صناعة تُميّز القناة الكثيرة البرامج في عالمنا العربي».

مسرح الحارة

رحلة النوري مع المسرح، مرتبطة بواقع عاشه. فقد شكل مع مجموعة من رفاقه فرقة مسرحية صغيرة في العام 1966. «كنا نقدم مسرحيات من تأليفنا وتمثيلنا وإخراجنا وإنتاجنا... كنا نصنع خشبتنا من طاولات البينغ بونغ ونستأجر الكراسي. خلقنا مسرحنا من لاشيء، ووصفنا أهل الحارة حينها بالزعران إلا أنهم رغم ذلك كانوا يأتون لحضور أعمالنا. كان ذلك بحدّ ذاته إنجازاً تاريخيّاً برأيي، وكان معي حينها الفنان علي كريم الذي كان موهوباً بالكتابة، وكانت أغلب مسرحياتنا تتحدّث عن الهمّ الوطني والقومي والفلسطيني».

رافق ذلك الهمّ الممثل منذ طفولته، حين خرج لأول مرة وحيداً من الحارة ليستكشف مدينة دمشق. يخبرنا: «استأجرت دراجة وخرجت أجوب الشوارع فوصلت إلى ساحة النجمة لأتفاجأ بوجود دبابة كتب عليها بالخط الأحمر «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وسمعت إطلاق نار ورأيت الناس يهربون، لأكتشف فيما بعد أنه كان انقلابا ضد أمين الحافظ، حينها ارتبط الخوف عندي بأوّل شعار وطني دلّني على البلد».

أثار الخوف في عقله طفلاً الكثير من التساؤلات والتي ما زالت تستوقفه حتى الآن: «تستوقفني أسئلة كثيرة في هذا العمر كسؤال، كيف تتكون شخصيتنا الاجتماعية والوطنية؟ وكيف يتشكل وعينا؟» يجيب على سؤاله بأن الخوف والكذب هما العاملان المتفردان في بناء شخصيتنا الوطنية. «موروثاتنا هي الدافع بدءاً من العائلة، وحين نرتهن للموروثات ونوقف تدفّق الوعي إلى حياتنا تتوقف هذه الحياة، هذا الوعي المرتبط بثقافة الملاحظة كما ثقافة القراءة على حّد سواء».

لكسر الخوف، اندفع في حياته باحثاً عن أناه بعيداً عن المنزل، فوجد ملاذه في المسرح ليكمل رحلته المسرحية التي بدأها في الحارة طفلاً، في المسرح الجامعي. «دلني المسرح على مستوى وعي آخر لأهمية الثقافة وحضورها. وكلما ازددت استغراقاً بمشروعي الثقافي عبر المسرح الجامعي، كلما ازددت ابتعاداً عن بيئتي وأهلي، تلك البيئة التي كان الحوار غائباً فيها. تلك كانت طريقة والدي الذي لا ألومه أبداً بل أنا ممتنٌّ له، لأنّه دلني من دون قصده كيف أكون حرّاً، وكيف أتمرّد بطريقة عقلانية، فأصبح استقلالي عنه هدفي وغايتي لأثبت لنفسي وللآخرين أني ناجح في حياتي».

«الأحلام صناعة بشريّة»

يبحث النوري دوماً عن الحقيقة في الفن والحياة، وترتبط الأحلام لديه بالواقع ارتباطاً وثيقاً. «لم يكن الحلم يوماً دافعي وإنما أنا صانع أحلامي المرتبطة بواقعي، أحلامي كانت ردود فعل على واقع عشته. فللواقع غلبة في حياتي. بالنهاية الأحلام صناعة بشرية».

أحلامه تتعداه لآخرين لا يعرفهم وإنما يربطه بهم وطن. «أحلم اليوم أن يعيش الناس في بلدي بأمان، الناس البعيدون عن لعبة السياسة غير النزيهة... رأيتها بنفسي حين يصل أشخاص إلى مجلس الشعب بالكذب والمحسوبيات، فالانتخاب تحصيل حاصل. أنا لم أمارس حقي الانتخابي يوماً، لم يمثلني أحد وأنا على يقين أن لا أحد قد مثّل أي سوري يوماً. السياسي في دول العالم الثالث لا ينجح إلا إذا ابتعد عن واقعه، فهو يتاجر بهذا الواقع حتى ينجح وحين ينجح يضعه في درج مكتبه طي النسيان».

لا تقتصر أحلامه الفرديّة على مستقبل قادم بل تعود به إلى الماضي، إلى الزمن الجميل، زمن جده الذي كان ملجأه الآمن. «جدي كان أكثر إنسان صادق قابلته في حياتي، استمتع بالحياة رغم فقره الشديد، جدي البائع المتجول الذي كنت أذهب معه حين يسرح بعربته في حارات دمشق الراقية. كانت رحلة سحر دلني خلالها على المعنى الحقيقي للشام، دلني على رائحة الشام التي ما زالت عالقة في ذاكرتي حتى اللحظة. معه عرفت الجامع الأموي وركبت «القطار»، معه دخلت سينما غازي في شارع بغداد. جدي الأمّي الذي ترك في داخلي اعتقاداً راسخاً بأنّه يحفظ القرآن كاملاً فقط لأنه يفهم حقيقةً معنى وجود الخالق».

ومن خلال جده تشكلت في أعماق عباس النوري فكرة لطالما آمن بها: «أنا مؤمن بوجود الله وسأبقى شديد الإيمان به، علّمت أولادي أن الدين محبة وليس غضب/ فالله هو الرحمن الرحيم ونحن فينا شيء من الله، «إني جاعل في الأرض خليفة».

يحمل اليوم تاريخ مدينته في روحه وذاكرته، تاريخ مدينة فقدت ألقها وطابعها القديم وتلاشت فيها أماكن لها روح. يحمل في قلبه رغبة بأن يعود بالزمن للوراء لأيام جده البائع المتجول بحقيبته ذات السحّاب «المضروب»، وصدريته وسرواله اللذين لم يستبدلهما إلا بالكفن. جده ودمشق لا ينفصلان في ذاكرته. «دمشق هي جدي الذي يعرف الله جيداً رغم أميّته، دمشق كجدي كل من مرّ بها أخذ من قوتها وقدرتها على قبول الاختلاف والتنوع».