2015/12/05

من العرض
من العرض

الأخبار - خليل صويلح

ثلاث ساعات ونصف، من أجل متابعة عرض «زجاج» لا تبدو وقتاً باهظاً. عوّدنا «مختبر دمشق المسرحي» في عروضٍ سابقة له، مقتبسة من أعمال هارولد بنتر، وصموئيل بيكيت، وداريو فو، حملت توقيع أسامة غنم، على مفاجآت من العيار الثقيل. اتجه مخرجنا هذه المرّة إلى المسرحي الأميركي تينيسي وليامز (1911- 1983) باقتباسه «مجموعة الحيوانات الزجاجية».

نصّ «زجاج» يناوش عن بعد كل مواصفات اللحظة السورية الراهنة، ليس بمقاربتها على السطح تعبوياً، على غرار عروض أخرى شاهدناها في هذه الفترة، بل بتقشير بنيتها الصلبة من الداخل من خلال بالذهاب إلى بيضة القبان (الطبقة الوسطى)، وتالياً فحص أسباب اضطرابها، وأفول بريقها، كمحصلة لاكتفائها بالاتكاء على صندوق ذكرياتها، في مواجهة خسائر اليوم.
كتب وليامز نصّه عن لحظة أميركية مشابهة. ثلاثينات القرن المنصرم في ظل أزمة مالية، واضطرابات وفوضى، وانعكاس هذا الزلزال على عائلة من الطبقة الوسطى، وكيفية تكسّر أحلامها في غياب الأب. لن يبقى من نصّ صاحب «عربة اسمها الرغبة» أكثر من الهيكل العظمي، من دون أن يحيد «الزجاج السوري» عن الخطوط العامة للنصّ الأصلي، وسيشفّ البلّور إلى حدوده القصوى بدمغة محليّة خالصة، وبفهم عميق لمعنى الدراماتورجية عن طريق تركيب قطع البازل الموازية في نسختها المحليّة.

تحوّلات عائلة من الطبقة الوسطى في ظل أزمة أطاحت بقيمها القديمة

 أطياف أغنية ناظم الغزالي «معوّد على الصدعات قلبي» التي تتسرّب من عتمة صالة المسرح الدائري (المعهد العالي للفنون المسرحية) تضعنا على الفور في مزاج رثائي لزمن قيد الاحتضار. أم وابن وابنة، وأب ترك ظلّه على حائط الصالون بإطار غلاف رواية من تصميمه على هيئة قبضات مرفوعة ومتحديّة، ثم هاجر وحيداً، من دون أن يترك عنواناً.

الرواية هي «ذكريات التخلّف» لأدموند ديزنوس، تتناول وقائع الثورة الكوبية، وهي هنا إشارة أولى إلى هزيمة واندحار ذلك الجيل الذي غرق في شعارات اليسار وتطلعاته الثورية المجهضة، من دون أن ينجز ميدانياً مشروعه النظري، فيما سيدفع أفراد العائلة الفاتورة، كل على طريقته. الابن (كنان حميدان) المأسور بسحر السينما، لا يجد نفسه في مهنة بائع في محل حلويات مشهور، في أحد المولات الحديثة، كما لا يتواءم الواقع الذي يرغب في تصويره مع شروط حصوله على منحة إنتاجية من «الصندوق العربي للثقافة والفنون» لإنجاز شريطه المؤجل.

هكذا تتسلل أسرار هذه العائلة بعين الكاميرا، بدلاً من صوت الراوي، في متواليات شاقولية تنتهي بضربات شعرية تغلق العدسة على صمت، يتكشف عن حفريات جديدة في هتك أسرار العائلة وانهداماتها الروحية، واحتضار تطلعاتها إلى شمسٍ أخرى، رغم محاولات الأم (سوسن أبو عفّار) لملمة شظايا زجاج العائلة بالاتكاء إلى ذكريات نبالة زائفة تنتمي إليها عائلتها، والصراع الشرس مع الابن، والابنة لاحقاً، في إعادة العجلة إلى زمن عبد الحليم حافظ، وفيلم «أبي فوق الشجرة»، وجماليات الأمس الآفل.

الأم التي انتهت إلى طاهية لدى نساء طبقتها في صعودهن السلّم الاجتماعي تداري خيبتها باختراع سيرة مشتهاة، فيما تهجر الابنة (نانسي خوري) دورات اللغة الأجنبية التي كانت تنتسب إليها بعد إنهاء دراستها النقد المسرحي، استجابة لعقدة اكتئاب طويلة إثر حادثة تعرّضت لها في صباها الأول، لتتطور إلى آثام فرويدية ملتبسة في علاقتها مع شقيقها، ثم مع صديقه الذي يأتي في زيارة إلى البيت بتدبير من الأم، على أمل تزويجها إياه.

تشريح عنيف لتحوّلات العائلة السورية في ظل أزمة أطاحت قيمها القديمة لمصلحة قيم السوق المتوحشة. محل الحلويات الذي يختار صورة محطة الحجاز التاريخية شعاراً لأصالته، ينطوي على زيف صريح في تصدير عراقة وهمية، سيحطمه الابن بكتابة مضادة في تفنيد الأكذوبة، فيُطرد من عمله، وسينتهي مهاجراً إلى دبي، مقتفياً أثر والده، لكن من سكةٍ أخرى أكثر عنفاً وتشظياً.
سيلتقي لاحقاً شقيقته التي خضعت هي الأخرى لانتهاكٍ من نوعٍ آخر. هكذا تستيقظ العائلة من أحلام يقظتها بزيارة متأخرة لصديق الابن الذي يعمل مديراً للموارد البشرية في معمل الحلويات (جابر جوخدار ). وهنا سيكتشف حجم الأوهام التي تغرق بها العائلة بتحطيم الألعاب الزجاجية للابنة، من دون أن يقصد، فتستيقظ هي الأخرى من غيبوبتها على واقع مختلف، لا يشبه حيواناتها الزجاجية، مهما حاولت تلميعها.

سنخرج من هذا العرض بدرس عن معنى الاقتباس والتقشّف الإخراجي، فبإمكانك إحضار أريكة وطاولة وكراسٍ، وجهاز تلفزيون، لإنشاء رافعة درامية ثقيلة بترويض الحكي اليومي وإعادة صوغه بمهارة الأداء وحساسية التقاط مكمن الوجع، وتشبيك مفردات الذاكرة المحلية بمرايا متناوبة من زجاج معمل في حي باب شرقي، والتلصص على أسرار عائلة تقطن في حي المزّة (مربط فرس الطبقة الوسطى في السبعينات)، وفضح أحوال التسليع البشري في مول شاهق يطحن بين سلالمه الكهربائية أحلامك مهما كانت صغيرة. كل ذلك بعدسة كاميرا هاوٍ، ثم تُسدِل الستارة باطمئنان.