2012/07/04

أحمد زكي "البريء" الذي واجه الفساد
أحمد زكي "البريء" الذي واجه الفساد

ماهر زهدي – دار الخليج

ما ان عادت الحياة إلى طبيعتها في الشارع المصري عقب ثورة 25 يناير، وبدأت الأمور تهدأ، ويفكر الشعب في الخطوة التالية، وما ان بدأت قنوات التلفزيون المصري تعود إلى برامجها العادية، من عرض برامج سياسية ومنوعة، مسلسلات وأفلام، حتى بدأت أفلام الراحل الفنان أحمد زكي تأخذ نصيباً وافراً من العرض على كافة القنوات المصرية، ليس لأن أفلام أحمد زكي كانت ممنوعة من العرض في العهد السابق، ولكن لأن الكثير منها كان يتم اقتطاع مشاهد وجمل حوارية منها، خصوصاً التي كانت تتحدث عن فساد الكبار، أو فساد بين رجال الشرطة، أو تلك التي تتنبأ بالغضب وثورة الشعب، مثل:” البريء”، “زوجة رجل مهم”، “الهروب”، “حسن اللول”، “الباشا”، “الإمبراطور”، وغيرها العديد من الأفلام التي عرضت خلال الأيام القليلة السابقة، لأول مرة كاملة من دون الحذف الذي كان يشوه بعضها . علماً أن في ختام الشهر الجاري تصادف ذكرى رحيل النجم الأسمر .

لم يكن من طموحات الفنان الراحل أحمد زكي، أن يكون مجرد نجم ساطع من نجوم السينما المصرية أو العربية، فلم يكن هذا يعنيه، بدليل أنه لم يعش يوماً باعتباره نجماً يتهافت عليه المعجبون والمعجبات، فلم يكن يهتم بمظهره الشخصي، كما يفعل معظم النجوم، واهتمامهم الأول بأناقتهم، ولم يكن يهتم بكيف يمشي أو يجلس أو يأكل كما يفعل الباقون حرصاً على مظهرهم الاجتماعي . لم يبين بيتاً فاخراً أو قصراً، أو حتى شقة على النيل، ليعيش الجزء الأكبر من حياته متنقلا بين حجرات فنادق القاهرة، كما لم يشغل نفسه بتأمين المستقبل بعمل مشروعات تجارية بعيدة عن الفن، بل كل ما كان يشغله هو التمثيل .

ولد أحمد زكي متولي عبدالرحمن بدوي في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1949 بإحدى قرى مدينة الزقازيق محافظة الشرقية، ونشأ طفلاً خجولاً منطوياً، ساعد يتمه المبكر في ذلك، يحدث الكبار باحترام شديد، ويعامل أقرانه بمودة متناهية، فتى نقي بريء، فقد توفي والده وهو في عامه الأول، وتزوجت والدته بعد رحيل الوالد مباشرة، وتعلقت بأهدابه كلمة “يتيم”، وتغلغلت في كل تفاصيل عينيه، فعاش حتى رحيله في سكون مستمر، يشاهد متأملاً ما يدور حوله من دون أن يشارك فيه، فأصبح التأمل خاصية تلازمه في كل أطوار حياته، وعندما أراد أحمد زكي أن يهرب من وحدته وحزن عينيه حين كره كلمة يتيم، كان يهرب إلى بيوت الأصدقاء ليحاول أن يضحك، وكانت قدماه تتآكلان وهما تأكلان أرصفة الشوارع، حتى كبر قبل الأوان . ولكثرة الصدام بينه وبين العالم الخارجي، فلم يضحك بما فيه الكفاية، وإن كان بكى بما فيه الكفاية . لذا كان لابد أن يجد عالمه الخاص بعيدا عن عوالم الأصدقاء، فهرب إلى المسرح ليجد فيه متنفسا، ولحسن حظه كان ناظر المدرسة يهوى التمثيل، ما جعل أحمد زكي خلال فترة وجيزة هاويا للتمثيل والإخراج المسرحي على مستوى طلاب المدارس، فكان رئيس فريق التمثيل في مدرسته الابتدائية، ومدرسته الإعدادية، ثم مدرسة الزقازيق الثانوية، حتى أكمل مشواره بالتحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية، الذي تخرج فيه عام 1973 في قسم التمثيل بتقدير ممتاز، وهو التقدير نفسه الذي حصل عليه في كل سنوات الدراسة .

خرج الفتى الأسمر إلى الجماهير التي كان يشتاق لسماع صوتها وهمهمتها وهمومها، مس أحمد زكي قلوب الناس البسطاء الذين ينتمي إليهم، بأدائه المختلف المتميز، البعيد كل البعد عن نجوم جيله، المختلف تماما في مواصفات النجومية، ليقفز إلى الصفوف الأولى، بل يتقدم الجميع، على الرغم من أنه لا يتميز بجمال الشكل المعهود عند نجوم السينما، مثل معظم فتيان الشاشة الحاليين والسابقين . فهو ليس في جمال رشدي أباظة  الذي كان يعشقه  ولا أنور وجدي، ولا حتى ابن جيله حسين فهمي، ولكنه نموذج عادي لأشخاص عاديين يمكن أن تقابله وتتعامل معه كل يوم في الشارع في العمل، في أي مكان، ليكون مناسباً لجمهور السينما الجديد الذي تغيرت نوعيته، وأصبح أغلبه من الكادحين، ليروا أنفسهم في هذا الفتى الأسمر الذي لا يعتني بملابسه ولا يذهب إلى الكوافير لفرد شعره الأشعث المجعد .

الحلم الذي سيطر على الفنان الراحل أحمد زكي، منذ أن جاء من بلدته إلى القاهرة، أن يكون ممثلاً . متخذا من مشوار ابن بلده “الشرقية”، العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ طريقا له، خاصة وقد جمع القدر بينهما في العديد من الصفات، بداية من “سمرة النيل” في الشكل، ومرورا باليتم والفقر، وصولا إلى حلم التحليق في سماء الفن .

كان طموح أحمد زكي أن يكون ممثلا يجيد تقديم كل الشخصيات من دون أن يستعصي عليه تجسيد إحداها، سواء كانت من وحي خيالات كتابها الذين تعامل معهم، أو شخصيات كتبها التاريخ من خلال أصحابها، لتحفر أسماءها بين صفحات التاريخ .

في الوقت نفسه لم يكن ما يقدمه أحمد زكي مجرد ملء شرائط سينمائية، بل يحرص كل الحرص على أن يكون هناك همّ يعمل من أجله، وأكثر ما كان يقلقه هو تلك الطبقة البسيطة المطحونة التي خرج منها، مثل شخصية الشاب القروي الساذج “أحمد سبع الليل” في فيلم “البريء” للمخرج الراحل عاطف الطيب الذي أطلق عليه البعض اسم “الجريء” بدلاً من “البريء”، حيث يحمل الفيلم أكثر من فكرة، فيتحدث عن الحرية بمعناها الشامل، عن طريق إظهار لمحات من الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الانفتاح، التي بدأت منذ عهد الرئيس الراحل أنور السادات، واستمرت واستفحلت في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، كما يتحدث الفيلم عن فكرة تحول الإنسان إلى آلة مبرمجة من أجل خدمة سلطة ظالمة غاشمة، حيث اختصر بعض النقاد فكرة الفيلم في عبارة واحدة “قمع الحرية بجهل الأبرياء”، وذلك من خلال الشاب “أحمد سبع الليل” الذي يتم تجنيده ضمن سلاح الأمن المركزي، ومن دون أن يدري يجد نفسه مستخدما لخنق وقتل أي صوت حر يخالف رأي النظام، حتى لو كان هؤلاء هم أقرب الناس إليه، غير أنه يكتشف الحقيقة ويثور على الظلم، ويحول فوهة سلاحه إلى الظالمين بدلاً من الأحرار، ويتم حذف تلك النهاية من الفيلم، خاصة بعد أن تحقق ما تنبأ به الفيلم، وحدث تمرد عام في كل معسكرات الأمن المركزي المصري في العام ،1986 وهو نفس العام الذي عرض فيه الفيلم، لتقع الأحداث على أرض الواقع بعد شهور قليلة من عرضه، وبدلاً من عرض الفيلم من دون النهاية “النبوءة” يتم منع عرض الفيلم بالكامل على القنوات التلفزيونية المصرية، الأرضية والفضائية، حتى عاد ليعرض مؤخراً بعد ثورة 25 يناير ،2011 بالنهاية الكاملة له التي سبق وحذفت من الفيلم والتي تزيد على 12 دقيقة كاملة .

قدم بعده واحداً من أهم أفلام السينما المصرية، عندما عمل مع محمد خان في فيلم “زوجة رجل مهم”، الذي يتناول موضوعاً مهماً وجريئاً، عن مفهوم السلطة وعلاقتها بالفرد، من خلال ضابط أمن الدولة الذي استهوته السلطة، فأصبح يمارس سلطته داخل نطاق العمل وخارجه، ويمارس متعته الوحيدة في إهانة الآخرين وتلفيق أكبر عدد من التهم لهم، ويتعامل مع الجميع بمفهوم رجل السلطة، فارضاً سلطته هذه في البيت والشارع وفي كل مكان، لدرجة أنه لم يتورع في التخلص من زوجته ووالدها، من أجل الإبقاء على سلطته .

كذلك المحامي الفاسد “مصطفى خلف” في فيلم “ضد الحكومة”، الذي يظهر مناطق الفساد والعجز في الحكومة، ويضطر لأن يفضح أمر نفسه كأحد أفراد ما يطلق عليهم مافيا التعويضات، لكي يفضح الحكومة وإنقاذ ابنه الذي يمثل الأجيال القادمة، التي لم تحسب لها الحكومة أي حساب، مؤكدا: “كلنا فاسدون . . كلنا فاسدون . . الجميع مشتركون بشكل أو بآخر” . كذلك عندما قدم شخصية “منتصر” الشاب المظلوم الذي دفعته مباحث أمن الدولة لأن يكون مجرما في فيلم “الهروب”، ويدفع حياته ثمناً لأساليب مباحث أمن الدولة، وهو الثمن نفسه الذي دفعه من خلال فيلم “المخطوفة” عندما يضطر المواطن البسيط المطحون وتسوقه أقداره ليخطف ابنة أحد كبار المسؤولين للضغط عليه، مؤكداً أنه ليس مجرماً ولكن الظروف والحكومة دفعت به إلى هذا الطريق، وعندما يقرر ترك الفتاة وتسليم نفسه، يكون جزاؤه القتل، فقط لأنه “تجرأ على أسياده” كما يقول المسؤول الكبير الذي جسد دوره الفنان الراحل عادل أدهم، أو فضح العديد من المسؤولين وكبار رجال الدولة ورجال المال والأعمال وتجار المخدرات، في العديد من الأفلام الأخرى “أرض الخوف”، “الباشا”، “الإمبراطور”، “حسن اللول”، وصولاً إلى “معالي الوزير” وغيرها من الأفلام التي صنعت اسم أحمد زكي ونصبته كزعيم حقيقي “للناس الغلابة” وليس زعيما من أصحاب الياقات البيضاء يرتمي في أحضان الحكومة والنظام .

ومثلما بدأ أحمد زكي الرحلة بحلم المضي في طريق الأسطورة “عبدالحليم حافظ” ابن بلده، تمنى أن يكتب له القدر نفس النهاية، في نفس الطريق، وهو ما حدث بالفعل، حتى إنه كان يصارع الموت وهو تحت جلد “حليم” عندما شرع في أيامه الأخيرة في تصوير فيلم “حليم . . حكاية شعب”، وتحامل على نفسه ونزل إلى البلاتوهات وإلى الشوارع، ووقف على شاطئ “جليم” بمحافظة إسكندرية، ليصور المشاهد الرئيسية من الفيلم، محاطا بعدد كبير من الأطباء الذين اندهشوا من هذا الإصرار العجيب على قهر الموت وعدم الاستسلام له، غير أن المرض اللعين لم يمهله الفرصة ليحقق الحلم الأخير، ويسقط أحمد زكي مضطرا ليفترس المرض ما تبقى من جسده النحيل . . ويرحل في 27 مارس/آذار عام ،2005 عن عمر يناهز 56 عاماً، قبل أربعة أيام فقط من ذكرى رحيل العندليب عبدالحليم حافظ الذي رحل في 31 مارس/آذار، ويستكمل تصوير ما تبقى من الفيلم نجله الشاب هيثم أحمد زكي . . محققاً آخر حلم لوالده