2012/07/04

أسعد فضة.. كنا جيلاً مليئاً بالطموحات الكبيرة والملل من كل شيء
أسعد فضة.. كنا جيلاً مليئاً بالطموحات الكبيرة والملل من كل شيء

سامر محمد إسماعيل - شرفات

يتذكر الفتى القادم من «بكسا» قريته الصغيرة على ساحل اللاذقية، غرامه الأول في رسم بورتريهات الفحم والحبر الصيني محاولاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً بإعادة ملامح الأشخاص في صور كاميرا الماء التي بدت لسكان قريته كموهبة استثنائية تداولتها أصابع «قاسم» اسمه الأول، قبل أن يأخذ اسم شقيقه الأكبر المتوفى «أسعد» وذلك حين جافاه الحظ في التقدم لامتحان الشهادة الابتدائية، فالفتى وصل قفزاً إلى نهاية المرحلة الأولى، لكن لم يكن بعد قد أتمَّ سنَّه القانونية، حينها نصح مدير ابتدائية القرية أباه «حسن فضة» بأن يأخذ ابنه «قاسم» اسم أخيه غير المتوفى في دوائر الدولة. نصيحة سيكبر معها الفتى أربع سنوات، فمن عام 1942 «مواليده الحقيقية» إلى مواليد عام 1938 «تاريخ ميلاد أخيه المتوفى». هكذا استبدل «قاسم» اسمه أولاً قبل أن يصبح «أسعداً» في سجله المدني الجديد، ليصبح فيما بعد ذلك الشاب الصغير الذي يغادر قريته إلى مقاعد الدرس في الكلية الأرثوذكسية بمدينة اللاذقية.

لم تكن حياة القرية عابرة في حياة «أسعد»، فالشاب المتحدر من أسرةٍ تعمل في فلاحة الأرض، ولا تملك من حطام الدنيا سوى زيت وزيتون أشجارها وورعها الديني؛ كان على تماسٍ مباشر مع الطبيعة ـ أمه ـ التي تشبه والدته البيولوجية «جميلة فضة» في كل شيء، ستشجعه بقصدٍ أو من دونه بتقحم حياة البرية والذهاب إلى صيد الطيور والسباحة في مياه الغدران، رحلة حياة سيزيفية عاشها الفتى باكراً، لكنها ستقدم له فيما بعد دروساً مستفادة لألمٍ عبقري يكبر كل يوم في رأسه وروحه، وتكبر معارفه أيضاً من خلال رسم بورتريهات لوجوه أهل الضيعة بأقلام الفحم والحبر الصيني، المهنة التي شجعه عمه الخطاط «الشيخ حاتم» من خلال عمله معه في نحت وتخطيط شواهد قبور الضيعة، أو العمل في ميناء اللاذقية، أو حتى عبر إعطاء الدروس لطلاب القرية، أعمال كثيرة سيتنقل عبرها الفتى الصغير قبل أن يعرف دربه إلى صالات السينما في كل من بيروت ودمشق خمسينيات القرن الفائت، كيف لا والأم الطبيعة باركت خطواته إلى أحضانها العذراء كما باركته يدا أمه «جميلة» في كل مرة تبيع فيها صفيحة من صفائح زيت الزيتون - خفيةً عن أبيه - ليكمل ابنها درب دراسته ويتعرف على ضوء الشاشة الذهبية في عتمة صالة السينما.. «كنا جيلاً مليئاً بالطموحات الكبيرة والملل من كل شيء، وكان لدينا رغبة كبيرة للمعرفة وحب الاطلاع»، طريق كانت الأم تراها بجلاء لابنها قبل سنوات تخرجه بدرجة ممتاز من الكلية الأرثوذكسية باللاذقية (المدرسة الوطنية حالياً)، ففي عام 1958 سيتفوق الشاب في الدراسة ليتقدم إلى البعثات الخارجية، فهاهو الطفل المدلل والصبي الأول في أسرةٍ مكونة من بنتين وأربعة صبيان يحقق حلم والديه، فيما يخالف أمنيات «سليمان فضة» جده لأبيه الذي أراد له درباً أخرى يجد فيها حفيده المفضل مهنةً بسيطة تدرُّ عليه المال والرزق.

يذهب الشاب إلى دمشق ويتقدَّم لفحص بعثة الرسم، إضافة لبعثة الإخراج والتمثيل المسرحي، وقتها لم يكن في نيته الحصول على منحة الرسم، بل كان الشاب الذي تكتم على طموحاته أمام أهله الراغبين بتدريسه الطب في تركيا، يحلم بدراسة التمثيل والإخراج، وبالفعل أدهش لجنة القبول التي أوفدته للدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، حيث قضى هناك سنواته الأجمل برفقة زميليه «علي عقلة عرسان وخضر الشعار»، ففي العاصمة المصرية التي كانت تعيش وقتها أيام مجدها القومي مع «عبد الناصر» تحت كنف الوحدة مع سورية، تتلمذ «فضة» على يد أهم أساتذة التمثيل والإخراج المسرحي أمثال: «علي فهمي ومحمود مرسي، ونبيل الألفي» والناقد «محمد مندور» في مادة النقد الأدبي، و«سعيد خطاب» عميد المعهد المصري، لقد كان مفتوناً بحياته الجديدة يقضي جل وقته في المطالعة وانتقاء الكتب من أمام سور الأزبكية بالقاهرة والجلوس إلى طاولة «نجيب محفوظ» في مقهى قصر النيل.

تخرج «أسعد فضة» من معهد القاهرة عام 1963 وكان الأول على دفعته بدرجة ممتاز، مجتازاً بذلك زملائه المصريين بعد تقدمه بمشروع التخرج الذي كان عبارة عن مسرحيتين يمثل في إحداها ويخرج الأخرى، إضافة إلى رسالته البحثية حول وجودية سارتر التي حاز بفضلها المركز الأول على دفعته.

قضى الرجل ثلاث سنوات بعدها في عمله بالمسرح القومي بدمشق مخرجاً وممثلاً، قدم عبرها العديد من المسرحيات الهامة في وزارة الثقافة السورية، إلى أن أُوفِد عام 1966 إلى فرنسا للدراسة والاطلاع، هناك بدأ من مدينة «غرونوبل» الواقعة على سفوح جبال الألب رحلته في المكان واللغة الفرنسية التي كان يتقنها منذ مراحل تعليمه المتوسطة، لكنه في «غرونوبل»؛ وقبل فترة انتقاله إلى العاصمة الفرنسية تعلم صوتيات هذه اللغة كأدبٍ دأب طوال فترة إقامته في فرنسا إلى التعرف على أساطينه الفنية والروائية والفكرية، بالطبع ومع انتقاله إلى باريس وجد الشاب السوري نفسه في خضم ثورة الطلاب التي عايشها من ألفها إلى يائها في عنفوانها وإصلاحها لكل ما غفلت عنه بيانات الثورة الفرنسية.

تشرّب «أسعد فضة» خلال إقامته الممتدة قرابة السنتين ديناميكية خاصة بعصرٍ سيجيء بمفاجآت وصدمات حضارية ستنطلق جذوتها من مدينة الشمس إلى شتى عواصم العالم، وهناك تجدد لقاءه مع الدكتور «سامي الجندي» الذي كان يشغل منصب وزير الثقافة والإعلام قبل سفره إلى باريس سفيراً لبلاده، وقضى معه ومع كل من «عمر أميرلاي وسعد اللـه ونوس» والمؤلف الموسيقي «ضياء السكري» وغيرهم من الأصدقاء أجمل الأيام المليئة بحفلات مهرجان مسرح الأمم على خشبة «الأوديون» الباريسي، حيث أقام في الحي اللاتيني الشهير متنقلاً بين عروض مسرح الأمم وبين مقاهي «سان ميشيل وسان جيرمان والشانزليزيه»، متعرفاً عن كثب على خصوصية الثقافة الفرنسية.

العودة مرةً أخرى إلى دمشق كانت عصيبة على قلبه الذي هزته نكسة عام 1967 فعبر عنها بعرضين أخرجهما للمسرح القومي هما مسرحيتا «التنين» و«الملك العاري» اللتان قدمهما عام 1968 وكان لهما صدىً واسعاً في أوساط المثقفين والنقاد السوريين آنذاك. عام 1964 عندما قام بالتصدي لإخراج مسرحيته «الأخوة كارامازوف» عن رائعة الكاتب الروسي الكبير «دستويفسكي».

بالطبع لم يكن رهان «فضة» على نجاح مسرحية وحسب، بل كانت هناك رغبته العنيدة والجدية -كمدير للمسرح القومي- بإيجاد ريبرتوار مسرحي في العاصمة السورية، تجربة رائدة افتتح بها «أسعد فضة» مع كل من «فواز الساجر وسعد اللـه ونوس» - المسرح التجريبي بعد بحث علمي مضنٍ قدم من خلاله هؤلاء الرواد خلاصة دراستهم الأكاديمية. بعد ذلك جاء النصر الثقافي المهم الذي تجلى في إطلاق «البرلمان الحر» الذي أوجد أدوات مسرحية مغايرة قدمت أطروحاتها الفنية كنتيجة لرغبة عارمة في كسر القوالب القديمة لفن الخشبة، فكانت مسرحية «يوميات مجنون1976» عن نص الكاتب الأوكراني «نيقولاي غوغول» ليقدم بعدها «عرس الدم» لـ«فيدريكو غارسيا لوركا»، و«سهرة مع أبي خليل القباني» و«مغامرة رأس المملوك جابر» و«الملك هو الملك» لـ«سعد اللـه ونوس»، و«سيزيف الأندلسي» لـ«نذير العظمة»، و«رقصة التانغو» للبولوني «سوافومير مروجيك»، و«دمشق انتظرناكِ والحب جاء» لـ«محمود درويش» وأوبريت غنائية للشاعر «عيسى أيوب». جهود كبيرة بذلها هذا المسرحي الكبير وفق وعي بشروط الزمان والمكان والجمهور الذي قدم له هذه العروض، دون أن يكون ذلك على حساب الشروط الفنية العالية التي قدم من خلالها خيرة أداواره المسرحية مما حدا بالباحث الدكتور «نبيل الحفار» أن يلقبه بـ«رجل المسرح الحقيقي» مستذكراً مسيرته الفنية التي قال فيها: «برز أسعد فضة ممثلاً ومخرجاً، فلعب في مواسم القومي أدواراً متباينة لشخصيات تطلب تجسيدها قدرات خاصة من حيث الموهبة الفنية وتمكناً من الأدوات في عمل الممثل على الدور وتواصله مع الشريك في المشهد، فلفت أنظار جمهور الستينيات بقوة، وفي الوقت نفسه ارتبط اسمه مخرجاً بتنوع خياراته النصية وأهميتها، سواء من المسرح العالمي أو العربي أو المحلي، فقد أدرك بنظرةٍ مستقبلية وواقعية أنه لا قيام لمسرح قومي حقيقي من دون الالتفات إلى نصوص مؤلفينا العرب والسوريين».

لم تكن جهود الفنان الكبير منصبةً على الريبرتوار الذي حلم بتحقيقه من على خشبات المسارح السورية إلى مسارح العالم العربي وأوروبا وحسب، بل كانت من أجل إيجاد وتأسيس معهد عالٍ للفنون المسرحية بدمشق، وهذا تطلَّبَ جهداً مضاعفاً وأياماً طويلة من العمل المستمر، فإصراره على صرح علمي لتدريس الفن المسرحي؛ انطلق من ضرورة رفد الحركة الفنية الناهضة بخبرات شابة تعزز هذا المد الثقافي الجديد وتدعمها في سيرها نحو بناء المسارح الجديدة، حيث طلب كل من الأستاذ «أديب اللجمي» ووزيرة الثقافة آنذاك الدكتورة «نجاح العطار» من «أسعد فضة» البحث في قوانين المعاهد المسرحية بالعالم، وكان ذلك،فقد بني الاقتناع مع «اللجمي وأسعد فضة وفواز الساجر» ليكون عام 1976 هو تاريخ إنشاء المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق: «كان المعهد في منطقة دمر بدمشق وكان علينا تنشق أتربة معمل الإسمنت طوال وجودنا هناك لساعات طويلة من التدريس، وقد أعمل غبار الإسمنت عمله في صدورنا.. ».

سنوات قضاها أستاذ مادة التمثيل في تنشئة جيل مسرحي جديد عبر علاقة آسرة بناها مع طلابه على الاحترام والبحث في قدرات الطالب عبر نبشها وحثها على التدريب والتمرين المستمرين، ولم يكن المعهد المسرحي هو الحلم الوحيد لهذا الفنان الكبير، بل كانت مسألة إطلاق مهرجان دمشق المسرحي بعد انطلاقه في أولى دوراته بإدارة نقابة الفنانين السوريين عام 1969، حيث كان من الأهمية بمكان دعم هذا المهرجان لكونه بذرة من بذور تطوير وتناقل الخبرات في المسارح العربية الناهضة، ولذلك ومنذ تسلم «أسعد فضة» لإدارة مديرية المسارح والموسيقا 1974 دأب على تحفيز كل الطاقات الممكنة من أجل جعل هذا المهرجان تقليداً ثقافياً عريقاً في الحياة الثقافية السورية خصوصاً، والعربية عموماً داعياً إلى مهرجان خاص بالخبرات الأكاديمية العربية بعيداً عن مسارح الهواة التي خصص لها تظاهراتها الخاصة من أجل رفع الذائقة المسرحية والارتقاء بها عبر تجارب مسرحية عربية من سائر البلاد العربية وبعض الدول الأجنبية التي كانت تشارك بأجمل وأفضل ما لديها من عروض حتى أمسى المهرجان قبلة مسرحيي الوطن العربي وموعدهم السنوي للحوار والبحث والتأمل الفني المثمر.

هذه المشاريع المتعددة للفنان «أسعد فضة» لم تقف عند حدٍّ معين، بل كان الرجل كما قال عنه الشاعر السوري «أدونيس» في كلمةٍ كتبها عنه في يوم تكريمه من قبل وزراة الثقافة السورية عام 2005: «أسعد فضة يصدر في حياته ومسيرته عن ينبوعٍ عميقٍ ودائم التفجر هو الهيام بالمسرح، وفي هذا الهيام، نذر حياته للبحث عن المعنى الأكثر عمقاً، وعن الرؤية الأكثر شمولاً، مأخوذاً بهاجس الكشف عن الضوء الخفيّ، وعن التوق العريق اللذين يقودان إلى التجاوز، وإلى تغيير الحياة والواقع، هكذا يبدو إطلاق اسم «أسعد فضة» على مسرحٍ في مدينته أمراً طبيعياً، إنه تحيةٌ في مكانها، وإن جاءت زمنياً متأخرة».